وإذن فكل ما كان الإنسان يستعين به للقيام بأعماله - بالإضافة إلى أعضائه وقواه الجسمية - يستحق أن يسمى تكنولوجيا. ولكن ما علاقة هذه الوسائل التي يضيفها الإنسان إلى جسمه - لكي تساعده على إنجاز أعماله - بالجسم البشري ذاته؟ إنها قطعا امتداد له، ولكن بأي معنى تعد امتدادا للجسم؟ هل هي مناظرة لهذا الجسم أم مكملة له؟ لا جدال في أن الوسائل التي يستعين بها الإنسان في أداء عمله تكمل ما لديه من قدرات؛ فالفأس لا تماثل اليد أو الذراع البشرية، ولكنها تكملها وتساعدها على أداء عملها بمزيد من الكفاءة. والعجلة بعيدة كل البعد في شكلها وطابعها العام عن أرجل الإنسان، ولكنها تحل محل هذه الأرجل في الانتقال من مكان إلى آخر، وتحقق هذا الهدف بمزيد من الفعالية. والنار لا نظير لها عند الإنسان أصلا، ولكنها بدورها تعين الإنسان على أداء أعمال يعجز عن أدائها بقواه الجسمية وحدها . وهكذا نصل إلى عنصر آخر في معنى التكنولوجيا؛ هو أنها الوسائل التي يستعين بها الإنسان لتكملة ما ينقصه من القوى والقدرات.
وما دمنا قد تحدثنا عن تكملة النقص في قدرات الإنسان، فمن الواجب أن ننبه إلى أن هذا النقص يتغير في طبيعته ومداه تبعا لظروف كل عصر. ومعنى ذلك أن العامل الاجتماعي له دور في تحديد مستوى التكنولوجيا المطلوبة، وأوضح دليل على ذلك أنه في العصور التي لم تكن فيها الآلات الميكانيكية ضرورية - نظرا إلى وجود قوة عمل العبيد أو الأرقاء الذين كانوا يقومون بدور «الآلات البشرية» - لم تظهر تكنولوجيا الآلات، مع أن المعرفة العلمية في ذلك العصر كانت قادرة على توصيل الإنسان إلى صنع بعض أنواع الآلات على الأقل؛ فأرشميدس - العالم اليوناني المشهور - قد صنع بعض أنواع الآلات التي تسير بطريقة أوتوماتيكية، ولكنه كان يعاملها على أنها «لعب» يلهو بها الإنسان، بل كان يخجل من الإشارة إليها في أبحاثه؛ لأن ظروف المجتمع في العصر الذي كان يعيش فيه لم تكن تتطلب وجود آلات. وهكذا فإنه مع معرفته بطريقة إنتاج الآلات لم يحاول أن يستعين بها في ميدان العمل البشري الجاد. وفي العصر الذي احتاج فيه المجتمع إلى الآلة في ميدان العمل، ظهرت الآلة بالفعل، وإذا كان القارئ يجد صعوبة في الاقتناع بهذه الحقيقة، أو يجد الموضوع معقدا إلى درجة يصعب على العقل استيعابها، فليتذكر أن هناك مثلا بسيطا نستخدمه كلنا في لغتنا العربية، وأعني به: «الحاجة أم الاختراع.» وهذا المثل يتضمن كل ما قلناه من قبل في هذا الموضوع؛ فهو يدل في عبارة موجزة على أن هناك ارتباطا وثيقا بين مستوى التكنولوجيا في أي عصر وبين حاجات المجتمع، وعلى أن الاختراع لا يظهر إلا إذا كانت الظروف الاجتماعية مهيأة لظهوره؛ أي إنه يعبر عن العنصر الرابع والأخير في معنى التكنولوجيا؛ أي البعد الاجتماعي، وأعني به أن التكنولوجيا تظهر لكي تسد نقصا يشعر به المجتمع في مرحلة معينة من مراحل تطوره.
وبالجمع بين هذه العناصر كلها نستطيع أن نعرف التكنولوجيا بأنها الأدوات أو الوسائل التي تستخدم لأغراض عملية تطبيقية، والتي يستعين بها الإنسان في عمله لإكمال قواه وقدراته، وتلبية تلك الحاجات التي تظهر في إطار ظروفه الاجتماعية ومرحلته التاريخية الخاصة.
1
وما دمنا قد تحدثنا عن وجود صلة وثيقة بين مستوى التكنولوجيا في أي عصر وحاجات المجتمع في ذلك العصر، فمن واجبنا أن نتساءل: هل يعد العلم واحدا من العوامل التي تحدد حاجات المجتمع؟ إن المجتمع قد يحتاج إلى اختراع تكنولوجي معين لكي يحل مشكلة تتعلق بالزراعة أو بحرفة يدوية أو بالصناعة، ولكن هل يدخل العلم دائما ضمن العناصر التي تتحكم في تحديد هذه المشكلة، وفي توجيه التكنولوجيا إلى حلها؟ وبعبارة أوضح: هل كان العلم مرتبطا بالتكنولوجيا في جميع عصورها؟
إن أبسط نظرة يلقيها المرء على التطور التكنولوجي للإنسان عبر العصور المختلفة تقنعه بأن الاتصال الوثيق بين العلم والتكنولوجيا ظاهرة حديثة العهد، وإذا كنا قد ذكرنا من قبل أن التكنولوجيا ظاهرة موغلة في القدم، وأنها تمتد بقدر ما يمتد تاريخ الإنسان، فينبغي أن ندرك أنها كانت طوال الجزء الأكبر من هذا التاريخ تسير على نحو مستقل عن العلم، وتتطور دون أن تكون معتمدة عليه.
فكل ما توصل إليه الإنسان من كشوف واختراعات تكنولوجية في العصور القديمة، قد تحقق بمعزل عن العلم، ونحن نعلم أن عصور ما قبل التاريخ تقسم إلى مراحل كبرى كالعصر الحجري والبرونزي والعصر الحديدي، وهذه المراحل تعبر في الواقع عن مستوى التكنولوجيا في كل عصر؛ ففي العصر الحجري كانت أهم الأدوات المستخدمة لمساعدة الإنسان في عمله مصنوعة من الحجر، وهلم جرا ... ومن المؤكد أن الانتقال من عصر إلى آخر يعبر عن تطور تكنولوجي هائل بمقاييس العصور القديمة؛ إذ إن قدرة الإنسان على استخدام معدن كالحديد مثلا تعني تقدما كبيرا في استخدام النار لأغراض الصناعة وفي استخراج الخام من الأرض وفي تشكيل الحديد المصهور ... إلخ، ولكن هذه التطورات كلها لم تكن تدين للعلم بشيء؛ فالذين قاموا بها لم يكونوا علماء، ولم يكونوا قد درسوا نظريات علمية معينة ثم طبقوها فأتاح لهم تطبيقها التوصل إلى اختراع جديد، بل كان هؤلاء صناعا مهرة، توارثوا خبراتهم جيلا بعد جيل، وأضافوا إليها من تجاربهم الخاصة فتطورت صنعتهم ببطء شديد مما جعل الانتقال من عصر إلى آخر يستغرق آلاف السنين، وخلال ذلك لم يكن المبدأ المتحكم في عملهم هو الدراسة، بل كان مبدأ المحاولة والخطأ والتجربة العشوائية في كثير من الأحيان؛ بحيث إن المحاولة التي تصيب، والتجربة التي تنجح بالعلاقة، تتناقل من جيل إلى جيل، وهكذا فإن كشوفا حاسمة في تاريخ البشرية كالنار والخزف والنسيج والعجلة والسفينة تم تحقيقها على نحو مستقل تماما عن العلم.
2
وينطبق ذلك أيضا على العصر اليوناني القديم الذي طورت فيه التكنولوجيا في بعض الميادين، ولكنها ظلت منفصلة عن العلم. بل إن هذا الانفصال قد ازداد حدة نظرا إلى ذلك الفهم الخاص للعلم الذي ذكرنا من قبل أن اليونانيين كانوا يتمسكون به، وهو أن العلم جهد نظري يستهدف إرضاء حب الاستطلاع لدى العقل الإنساني، ولا يتجه إلى تحقيق أية أغراض عملية. وبالمثل فإن العصور الوسطى الأوروبية والإسلامية - بل وأوائل العصر الحديث - قد شهدت كشوفا تكنولوجية هامة لم تكن مبنية على أساس علمي، فاختراع البارود الذي كان له تأثير حاسم في الحروب، والطباعة التي غيرت مجرى العلم والثقافة، والعدسات المكبرة والمقربة التي كشفت للإنسان أبعاد الكون الشاسع وتفاصيل الحياة الدقيقة؛ كل هذه الكشوف تمت على أيدي صناع مهرة، لا يسترشدون في عملهم بنظرية علمية، بل يستعينون بما توارثوه من خبرات، وبما يضيفونه إليها باجتهادهم وحدسهم الشخصي، وبما يستشعرونه من حاجة المجتمع الملحة إلى هذه الاختراعات.
ولو شئنا الدقة لقلنا: إن التكنولوجيا هي التي كانت تؤثر في العلم طوال هذه الفترة، فكل مرحلة هامة من مراحل الكشف كان يسبقها تقدم تكنولوجي يمهد لها الطريق. وصحيح أن هذا التقدم التكنولوجي لم يحدث لأسباب متعلقة بالعلم، وأن الصناع الذين حققوه لم تكن في أذهانهم أدنى فكرة عما يمكن أن يترتب على عملهم من تأثير علمي لاحق، ولكن العلماء كانوا يتأثرون - عن وعي أو بغير وعي - بالكشوف التكنولوجية، ويتخذون منها منطلقا لأبحاثهم النظرية، والدليل على ذلك أن العلم اليوناني - كما ذكرنا من قبل - يدين بالكثير لتلك الخبرات التكنولوجية التي تراكمت لدى الحضارات الشرقية القديمة، والتي أعطت العالم النظري حافزا قويا للتأمل والتفكير، ولولا هذا التراكم الضخم من المعارف العملية لما استطاع العلم اليوناني النظري أن يحقق إنجازاته هذه في تلك الفترة الوجيزة. ومثل هذا يمكن أن يقال عن الفترة التي بدأ فيها ظهور العلم الأوروبي الحديث في عصر النهضة؛ إذ إن العصور الوسطى الأوروبية لم تكن فترة خاملة من الوجهة التكنولوجية، بل ظهرت فيها مجموعة من الاختراعات ذات الأهمية الحاسمة التي كان لها دور كبير في الانبثاق المفاجئ والتقدم المتلاحق للعلم الأوروبي خلال فترة وجيزة.
Bog aan la aqoon