أعظم دعاة هذه النظرة الجديدة التي يستقل فيها العلم عن الفلسفة استقلالا تاما؛ فهو يسخر من ادعاءات فلاسفة العصور القديمة والوسطى الذين كانوا يتصورون أن باستطاعتهم حل مشكلات العالم الكبرى بالتأمل النظري وحده، ويهاجم مفكري الأبراج العاجية الذين يعتقدون أنهم قادرون على فهم الطبيعة وما وراء الطبيعة باستخدام مجموعة من الاستدلالات اللفظية التي يتلاعبون بها ببراعة، ويظنون أن ما توصلهم إليه هذه الألاعيب اللفظية لا بد أن يكون حقيقة واقعة. وفي مقابل ذلك يدعونا بيكون إلى إجراء حوار مباشر مع الطبيعة، واستخدام حواسنا وعقولنا في ملاحظة وقائعها وتسجيلها بأمانة، وينادي بضرورة إزالة هذا الحاجز اللفظي الخداع الذي وضعه القدماء بيننا وبين حقائق العالم، ويؤكد أن المعرفة الصحيحة إنما تكون في طرح الأسئلة المباشرة على الطبيعة، بدلا من التقوقع داخل عالم الألفاظ. وهكذا حدد بيكون سمة من أهم سمات التفكير العلمي الحديث؛ وهي الاعتماد على ملاحظة الظواهر ومشاهدتها تجريبيا، بدلا من الاكتفاء «بالكلام» عنها.
ومن السمات الأخرى التي أكد بيكون أهميتها في كل تفكير علمي، أن هذا التفكير لا يسارع إلى التعميم، كما كانت تفعل الفلسفات القديمة، ولا ينساق وراء الطموح الزائد الذي يصور لكل فيلسوف أنه قادر على تقديم إجابات عن الأسئلة الكبرى ذات الطابع العام؛ مثل أصل العالم ومصيره وغاياته ... إلخ. بل إن التفكير العلمي - في رأيه - أشد تواضعا من ذلك بكثير؛ فهو يضع لنفسه أهدافا محدودة، وينتقل بثقة من حقيقة جزئية إلى حقيقة جزئية أخرى، ولا يعمم نتائج أبحاثه إلا بحذر شديد، وبقدر ما تسمح الحقائق الموجودة فحسب، ومن مجموع هذه الحقائق الجزئية يعلو بناء المعرفة بالتدريج على أيدي الأعداد الكبيرة من العلماء، الذين يتقاسمون فيما بينهم - خلال الجيل الواحد - المشكلات المطلوب حلها، والذين يبدأ كل جيل جديد منهم من حيث انتهى الجيل السابق، وتلك كلها قد تبدو اليوم - في عصرنا الذي أصبح فيه التخصص أساسا للعمل العلمي - بديهيات مسلما بها، ولكنها في عصر بيكون كانت شيئا جديدا بالقياس إلى أساليب الفلاسفة السابقين، الذين كان كل واحد منهم يتصور أنه يحتكر لنفسه الحقيقة كاملة، ويعتقد أن المعرفة البشرية كلها يمكن أن تتكشف لعقل واحد.
ولقد كان من الصفات الهامة التي أضافها بيكون إلى مفهوم العلم قابلية كل علم للتطبيق، وتلك صفة رأيناها ماثلة من قبل في العلم الإسلامي بوضوح، غير أن بيكون هو الذي يرجع إليه الفضل في نشرها في العالم الغربي على أوسع نطاق؛ فعلى حين أن العلم القديم كان معرفة لأجل المعرفة، نجد بيكون يؤكد أن العلم الذي لا يقبل التطبيق العلمي بصورة من الصور لا يستحق أن يسمى علما، وربما كان هذا موقفا متطرفا، ولكنه كان ضروريا لمواجهة التطرف المضاد في العلم النظري البحت، كما عرفه الفلاسفة اليونانيون الذين كانوا يزدرون أية معرفة تقترب من مجال الواقع المادي وتدخل نطاق التطبيق. وهكذا هيأ بيكون أذهان الناس لقبول عدد كبير من العلوم التي تتصل بموضوعات «أرضية» «مادية»، ووصل به الأمر إلى الدعوة إلى بحث «التغذية» وكيفية صنع الطعام وحفظه على أسس علمية، وهو أمر كان خليقا بأن يلقى من اليونانيين سخرية مريرة. فهدف العلم عند بيكون هو أن يجعل الإنسان سيدا للطبيعة ومسيطرا عليها. وإذا كان كارل ماركس هو الذي قال لأول مرة بعبارات صريحة في القرن التاسع عشر: «لقد اقتصر الفكر حتى الآن على تفسير العالم على أنحاء شتى، ولكن المهم هو تغييره.» فمن المؤكد أن هذه العبارة تصلح شعارا لفلسفة بيكون كلها؛ وذلك لسببين؛ أولهما أنه كان بدوره ناقدا شديدا للاتجاه النظري الخالص عند الفلاسفة السابقين. وثانيهما أنه كان يدعو بكل حماسة إلى أن تكون المعرفة - فلسفية كانت أم علمية - وسيلة لتغيير العالم وتحقيق سيطرة الإنسان عليه، وكانت دعوة بيكون هذه هي - في واقع الأمر - الأساس الفكري الذي ارتكزت عليه حركة التقارب بين العلم والتكنولوجيا في القرون التالية.
على أن بيكون - بالرغم من كل ما أضافه إلى مفهوم العلم من معان هامة كان لها أبلغ الأثر في التطور التالي للمعرفة العلمية - لم يركز اهتمامه إلا على جانب واحد من جوانب العلم، وهو الجانب التجريبي المبني على مشاهدة الظواهر وتسجيلها واستخلاص أسبابها عن طريق الملاحظة الدقيقة والتجربة، وهذا - بغير شك - جانب عظيم الأهمية، وخاصة إذا نظرنا إليه في ضوء الفترة التاريخية التي عاشها بيكون، والتي لم تكن تعرف قبل ذلك إلا العلم المدون في الكتب، ولم تكن تستخلص المعرفة إلا من أفواه الحكماء الأقدمين . وهكذا كان بيكون - شأنه شأن كل رائد يستكشف ميدانا جديدا - متحمسا أشد التحمس لذلك التصور الذي كونه لنفسه عن العلم، والذي يرتكز على الملاحظة والتجربة المباشرة، ولكن هذا لم يكن - كما قلنا - سوى جانب واحد من جوانب العلم؛ إذ إن العلم يحتاج إلى الصياغة الرياضية الدقيقة، إلى جانب احتياجه إلى الملاحظة والتجربة، والرياضة علم عقلي لا شأن له بملاحظات الحواس وتجاربها.
ولقد كان الفيلسوف الفرنسي «ديكارت»
Descartes
هو الذي أكد أهمية هذا الجانب الآخر - أعني الجانب الرياضي العقلي - للعمل العلمي، وتطرف بدوره في هذا الاتجاه حتى تصور أن مهمة العالم - في مختلف المجالات - لا تختلف عن مهمة الباحث في الهندسة؛ إذ يستنبط بدقة النتائج التي تترتب على مقدمات واضحة كل الوضوح، يضعها العقل وهو موقن بأنها تصلح أساسا متينا لكل معرفة تالية، وكان المبرر الذي ارتكز عليه ديكارت في تأكيده هذا، هو أن العلم الرياضي أدق العلوم، بل هو نموذج الدقة في كل تفكير، فإذا شئنا أن تصل معارفنا - في أي ميدان من الميادين - إلى مستوى الدقة الجديرة باسم العلم، كان لا بد لنا أن نتبع هذا النموذج الذي اعتاد الباحثون في الرياضيات أن يتبعوه منذ أقدم العصور، والذي تمكنوا بفضله من أن يجعلوا علمهم مثلا أعلى لليقين العقلي.
وهكذا فإن هذين الفيلسوفين اللذين ظهرا في مطلع العصر الحديث، قد نبها الأذهان إلى الجانبين اللذين أصبح العلم الحديث يرتكز عليهما خلال تطوراته التالية؛ وأعني بهما الملاحظة الأمينة للواقع من جهة، والقدرة على صياغة قوانين هذا الواقع بطريقة رياضية من جهة أخرى. ومن الجدير بالذكر أن العلماء الكبار في ذلك العصر - وعلى رأسهم العالم الإيطالي العظيم «جاليليو
Galileo » - قد توصلوا - دون أن يكونوا قد اتصلوا بهؤلاء الفلاسفة اتصالا مباشرا - إلى الطبيعة الحقيقية لطريقة البحث العلمي؛ إذ كان جاليليو - في إثباته لقانون مثل سقوط الأجسام - يجري التجارب ويتحقق منها أولا، ثم يعبر عن النتيجة التي يتوصل إليها بقانون يتخذ شكل معادلة رياضية أو نسبة حسابية ... إلخ. وهكذا جمع هؤلاء العلماء بين نتائج تفكير الفيلسوفين الكبيرين في ذلك العصر بطريقة تلقائية، وتمكنوا من تحقيق الاتزان بين الجناحين اللذين لا يستطيع العلم التحليق إلا بهما معا، وأعني بهما الملاحظة والتجربة من جهة، والصيغة الرياضية من جهة أخرى.
وأخيرا فإن من العناصر الهامة التي أضيفت إلى مفهوم العلم منذ أوائل العصر الحديث: ذلك الطابع الجماعي للعلم، الذي أشرنا من قبل إلى أن بيكون كان من أول من نبهوا إليه، فعلماء العصر الحديث لم يكونوا مؤمنين بأن العلم جهد فردي، بل كانت تسود عملهم منذ بدايته «روح الفريق»، ومنذ أن أصبح العلم نشاطا مستقلا عن الفلسفة، أخذ عدد المشتغلين به يتزايد بالتدريج؛ لأن الباحثين عن الحقيقة أدركوا أنهم توصلوا إلى نوع آخر من المعرفة قابل للنمو والتوسع من جيل إلى جيل، وليس مجرد محاولات فردية تلمع خلال حياة صاحبها ثم تنطفئ لكي تبدأ محاولة أخرى من جديد. وكان العلماء في البداية يحققون أهدافهم في تبادل المعرفة عن طريق الرسائل، ولكن سرعان ما اتضح أن الرسائل المتبادلة أسلوب بطيء لا يسمح بنشر المعرفة وإخضاعها لنقد العقول الأخرى وتحليلها؛ إذ لم تكن ظروف ذلك العصر تسمح للعلماء إلا بتبادل رسالة أو رسالتين في العام كله. ومن جهة أخرى فقد كان عدد الأبحاث العلمية يتزايد باستمرار، ومن هنا بدأ التفكير - لأول مرة في تاريخ البشرية - في إنشاء جمعيات علمية يتبادل فيها العلماء أبحاثهم وآراءهم، ويقسمون العمل العلمي فيما بينهم وفقا لخطط مرسومة.
Bog aan la aqoon