أما السبب الثاني فهو أن العلم قد أثبت أن نتائجه مضمونة يمكن التنبؤ بها، على حين أن نتيجة السحر الخرافية غير مضمونة على الدوام، فحين يدرس العالم ظاهرة معينة ويتوصل إلى العوامل المتحكمة فيها يستطيع أن يضمن استخدامها لصالح الإنسان بطريقة معلومة مقدما، أما إذا واجه هذه الظاهرة عن طريق أحجبة أو تعاويذ سحرية، فقد يصل إلى النتيجة المطلوبة مرة، ولا يصل إليها عشرات المرات، والأدهى من ذلك أنه لن يكون قادرا حتى على التنبؤ بالحالة التي سيكون سحره فيها فعالا، وسط عشرات الحالات التي يعجز فيها هذا السحر. وهكذا آثر الإنسان العلم؛ لأنه اكتسب ثقة في نتائجه، ولم يعد الناس يلجئون إلى الخرافات - في معظم الأحيان - إلا في الحالات التي لا يكون العلم فيها قد أحكم قبضته على الظواهر، كما في حالة الإصابة بمرض عضال لم يستطع العلم بعد أن يكتشف علاجا له.
والواقع أن هذه الحقيقة الأخيرة تشير إلى سمة هامة من سمات التفكير الخرافي؛ فقد ذكرنا أن نتائج السحر أو الخرافة غير مضمونة، وأنها في مقابل كل مرة تنجح فيها تخفق عشرات المرات، ومع ذلك فإن من أهم أسباب استمرار هذا اللون من التفكير: اتجاه العقل البشري إلى التعميم السريع، حيث يؤمن بفاعلية السحر أو الخرافة بناء على نجاح أمثلة قليلة جدا (وهو قطعا نجاح تحقق بالصدفة)، دون أن يختبر الحالات الكثيرة الأخرى التي أخفق فيها هذا الأسلوب؛ فنحن نقول عن فلان أو فلانة (وغالبا ما تكون «فلانة»): إن أحلامها لا تخيب، وإن لديها القدرة على رؤية حوادث مقبلة في الأحلام؛ لمجرد أنه حدث مرة أو مرتين أن تحقق شيء رأته في حلم، ولو سلمنا بأن هذا حدث (مع أنها ربما كانت قد روت هذا الحلم - بحسن نية - «بعد» وقوع الحادث، بحيث يبدو لها أنها حلمت به، وربما لم تكن تذكر بدقة ما حدث في الحلم، وربما كانت مشغولة بهذا الحادث مدة طويلة وتتوقع حدوثه لوجود مقدمات تدل عليه). فلنتذكر أننا نسقط من حسابنا ألوف الأحلام التي حلمت بها صاحبة «الرؤية التي لا تخيب»، والتي لم يتحقق منها شيء، وكل ما يعلق في ذهننا هو تلك الأحلام القليلة التي «تصادف» أنها تحققت.
ولما كان التركيز ينصب على الحالات القليلة التي تحققت، فإن الناس «يعممون» الحكم بحيث ينطبق على «جميع الحالات»، وعلى هذا النحو تنمو لدى الناس وتنتشر أسطورة صاحبة الرؤية الصادقة أو بصيرة عراف يستشف المستقبل ... إلخ.
والواقع أن ظاهرة الفكر الخرافي أعقد من أن تكون مجرد بقية من بقايا عصور ماضية، يستطيع العلم في مسيرته الظافرة أن يكتسحها ويمحو جميع آثارها؛ ذلك لأن الفكر الخرافي يظل متأصلا في أذهان كثير من الناس حتى في صميم عصر العلم، ويظل منتشرا بين الناس حتى في أكثر المجتمعات تمسكا بالتنظيمات العلمية. فالعلم والخرافة - وإن كانا ينتميان إلى عصرين مختلفين - يظلان متعايشين في نفوس البشر أمدا طويلا، وكأنهما طبقتان جيولوجيتان متراصتان الواحدة فوق الأخرى في الجبل الواحد، وكل منهما ترجع إلى زمن مختلف،
2
بل إن الشخص الذي نال من التعليم حظا رفيعا قد يظل متمسكا بالفكر الخرافي في كثير من جوانب حياته التي لا يمسها العلم مساسا مباشرا، وهكذا لا يكون اتباعه للمنهج العلمي في المعمل أو المختبر أو جمعه حصيلة ضخمة من المعلومات العلمية؛ لا يكون ذلك عاصما لذهنه من أن يؤمن في جانب من جوانبه بالخرافات، ويرضى بتفسير للظواهر لا علاقة له - من قريب أو بعيد - بالمنهج العلمي الذي يجيد استخدامه.
وهكذا نجد في أكثر المجتمعات تقدما بقايا من التعلق بالخرافة تتمثل في إعطاء مكان الصدارة - في كثير من الصحف - للحوادث التي تبدو خارقة للطبيعة، وفي استمرار ظهور أعمدة صحفية مثل «حظك هذا اليوم»، أو قراءة الطالع من الأبراج، أو التشاؤم من الرقم 13، أو انتشار تعبيرات تحمل معنى خرافيا مثل: «امسك الخشب». إلى آخر هذه المظاهر التي تدل على أن التفكير الخرافي ما زال - في عصر الصعود إلى القمر - متشبثا بكثير من مواقعه.
ولقد ظهرت تعليلات متعددة ومتباينة الاتجاه تفسر استمرار تيار اللامعقول في مساره الخفي تحت سطح العقلانية الظاهرة للمجتمع الحديث، وإصرار الغيبيات على عدم الاختفاء من حياة الإنسان العصري، وربما كانت التعليلات النفسية أكثرها انتشارا، فهنالك من يقولون: إن الأحلام في حياة الإنسان مصدر دائم للخرافة؛ إذ إن الصور الخيالية - غير المترابطة وغير الواقعية - التي تظهر في الأحلام يمكن أن تختلط بالواقع، وتكتسب في حياة الناس طابعا متجسدا يتخذ شكل الخرافة، وربما كان الأصل الأول لكثير من الخرافات راجعا إلى وجود شخصيات مريضة لديها استعداد أكبر للخلط بين الحلم والواقع، ولتأكيد الوجود الفعلي لأشباح وأرواح تراءت لها بإلحاح في منامها. وقد ركزت مدرسة التحليل النفسي عند فرويد جهودها - في هذا الميدان - في بحث تأثير اللاشعور في رؤية الإنسان للواقع، وأسهمت بذلك في استكشاف أسباب استمرار التفكير الخرافي في عصر ينظم الناس حياتهم فيه على أساس من العلم؛ ذلك لأن الخرافة - في ضوء التحليل النفسي - لا تظهر بوصفها شيئا ماضيا لم يعد له في حياة الإنسان مكان، بل تبدو جزءا من التكوين النفسي للإنسان يظل كامنا في اللاشعور إلى أن تطرأ ظروف تصعد به إلى السطح الخارجي.
على أن التعليل المستمد من مجال علم النفس والتحليل النفسي بوجه خاص ربما لم يكن كافيا إلا لإيضاح جانب واحد من جوانب مشكلة استمرار الفكر الخرافي في المجتمع الحديث، فحتى لو سلمنا بالإيضاح الذي تقدمه مدرسة التحليل النفسي، فسيظل علينا أن نعرف تلك الظروف التي تبعث الخرافة من أعماق اللاشعور إلى مستوى التفكير أو السلوك الواعي، ولا بد أن تكون هذه الظروف منتمية إلى طبيعة المجتمع، ونوع القيم السائدة فيه، والعوامل الاجتماعية التي تتحكم في تحديد هذه القيم.
وفي اعتقادي أن الشعور بالعجز هو العامل الأساسي في ظهور الخرافة واستمرارها، وهذا الشعور يتخذ أشكالا تختلف باختلاف البيئة والعصر، ولكن نتيجته دائما واحدة؛ هي أن يلجأ الإنسان في تعليله للأحداث إلى قوى لا عقلية تساعده على التخلص من المشكلات التي يواجهها تخلصا وهميا، بدلا من أن تساعده على حلها أو حتى مواجهتها بطريقة واقعية.
Bog aan la aqoon