Tafkir Cilmi
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Noocyada
43
وهذا ابن مفلح في الأندلس يكتب كتابا بعنوان «كتاب الهيئة»: إصلاح المجسطي يحاول فيه إصلاح نظام بطليموس، ثم يأتي بعده البتروجي فيكتب كتابا بالعنوان نفسه وبالموضوع عينه، ويكتب ابن الهيثم في كتابه الموسوم «الشكوك على «بطليموس» قائلا: «إن حسن الظن بالعلماء السابقين مغروس في طبائع البشر، وإنه كثيرا ما يقود الباحث إلى الضلال، ويعوق قدراته على كشف مغالطتهم، وانطلاقه إلى معرفة الجديد من الحقائق، وما عصم الله العلماء في شيء من العلوم ولا تفرقت آراؤهم في شيء من حقائق من الأمور.» فطالب الحق عند ابن الهيثم ليس من يستقي حقائقه من المتقدمين، ويسترسل مع طبعه في حسن الظن بتراثهم، بل عليه أن يشك في إعجابه بهم، ويتوقف عن الأخذ عنهم، مستندا إلى الحجة والبرهان، وليس معتمدا على إنسان تتسم طبيعته بالخلل والنقصان، وعليه أن يخاصم من يقرأ لهم، ويمعن النظر فيما قالوه، حتى تتكشف له أخطاؤهم، ويتوصل إلى حقائق الأمور.
ومن دلالات هذا عند «ابن الهيثم» أنه يقول عن «بطليموس» إنه «الرجل المشهور بالفضيلة، والمتقن في المعاني الرياضية، المشار إليه في العلوم الحقيقية»، وإنه وجد في كتبه «علوما كثيرة ومعاني غريزة، كثيرة الفوائد عظيمة المنافع» ومع ذلك فإن «ابن الهيثم» حين وقف منها موقف من يخاصم صاحبها مع إنصاف الحق منه، وجد فيها مواضع متشابهة، وألفاظا، ومعاني متناقضة».
ويمضي قائلا: «فرأينا في الإمساك عليه هضما للحق وتعديا عليه، وظلما لمن ينظر بعدنا في كتبه في سترنا ذلك عنه، ووجدنا أولى الأمور ذكر هذه المواضع، وإظهارها لمن يجتهد من بعد ذلك في سد خللها، وتصحيح معانيها، بكل وجه يمكن أن يؤدي إلى حقائقها.»
44
أما العالم عبد اللطيف البغدادي (ت629ه) فإنه يؤكد على أن عظمة جالينوس وتمكنه من الطب لا يعنيان علينا تكذيب حواسنا وعقولنا عندما تتناقض مع ما يقوله جالينوس؛ ولذلك فإن علينا ألا نسلم بما يقوله الأقدمون تسليما أعمى مهما بلغ هؤلاء من رجاجة العقل ومن تمكن؛ فإن جالينوس «وإن كان في الدرجة العليا من التحفيظ فيما يباشره ويحكيه إلا أن الحس أصدق منه».
ويسوق البغدادي مثالا أثبتت فيه مشاهدته كذب جالينوس في مسألة «عظم الفك الأسفل» فيقول: «... إن الكل قد أطبقوا (أجمعوا) على أنه (عظم الفك الأسفل) عظمان بمفصل وثيق عند الحنك. وقولنا الكل نعني به هنا جالينوس وحده (وشراحه)؛ فإنه هو من باشر التشريح بنفسه، وجعله دأبه ونصب عينيه، وصنف فيه عدة كتب معظمها موجود لدينا، والباقي لم يخرج إلى لسان العرب. والذي شاهدناه، من هذا العضو أنه عظم واحد، ليس فيه مفصل ولا درز أصلا، واعتبرناه (فحصناه) ما شاء الله من المرات في أشخاص كثيرة تزيد على ألفي جمجمة بأصناف من الاعتبارات، فلم نجده إلا عظما واحدا من كل وجه، ثم إننا استعنا بجماعة متفرقة اعتبروه (فحصوه) بحضرتنا، فلم يزيدوا على ما شاهدناه منه وحكيناه، وكذلك في أشياء أخرى غير هذه. ولئن مكنتنا المقادير بالمساعدة وضعناه مقالة في ذلك نحكي بها ما شاهدناه وما علمناه من كتب جالينوس، ثم إني اعتبرت العظم أيضا بمقابر بوصير القديمة (في مصر) فوجدته على ما حكيت، ليس فيه مفصل ولا درز، ومن شأن الدروز الخفيفة والمفاصل الوثيقة إذا تقادم الزمان أن تظهر وتتفرق. وهذا الفك الأسفل لا يوجد في جميع أحواله إلا قطعة واحدة.»
45
أما «البيروني» والذي يسميه المستشرقون العرب، فهو الآخر يشكك في معارف السابقين، ومن قوله في مقدمة «القانون المسعودي»: «ولم أسلك فيه مسلك من تقدمني من أفاضل المجتهدين ... وإنما فعلت ما هو واجب على كل إنسان أن يعمله في صناعته من تقبل اجتهاد من تقدم بالمنة، وتصحيح خلل إن عثر عليه بلا حشمة، وخاصة فيما يمتنع إدراك صميم الحقيقة فيه من مقادير الحركات، وتخليد ما يلوح له فيها تذكرة لمن تأخر عنه بالزمان وأتى بعده، وقرنت بكل عمل في كل باب من علله، وذكرت ما توليت من عمله، ما يبعد به المتأمل عن تفكيري فيه، ويفتح له باب الاستصواب لما أصبحت فيه، أو الإصلاح لما زللت عنه أو سهوت في حسابه.»
وهكذا أبان البيروني في هذا النص أنه لم يقلد أحدا من سابقيه، وأنه صحح ما وقع فيه أسلافه من أخطاء، ودعا قراءه إلى مناقشة ما أورد، وتصحيح ما يحتمل أن يكون قد أخطأ فيه.
Bog aan la aqoon