Tafkir Cilmi
التفكير العلمي ومستجدات الواقع المعاصر
Noocyada
80
وفي فقرة أخرى يؤكد هيزنبرج قائلا: «تظهر في نظرية الكم أعقد مشاكل استخدام اللغة. لم يكن لدينا في البدء أي دليل بسيط نربط به الرموز الرياضية بمفاهيم اللغة الاعتيادية. كان كل ما نعرفه في البداية هو حقيقة أن مفاهيمنا الشائعة لا يمكن أن تطبق على بنية الذرة. مرة أخرى بدت نقطة البداية الواضحة للتفسير الفيزيقي للصورية هي اقتراب البرنامج الرياضي لميكانيكا الكم من برنامج الميكانيكا الكلاسيكية. وذلك في الأبعاد الأكبر كثيرا من حجم الذرات، وحتى هذا لا نستطيع أن نقوله دون بعض التحفظات؛ فسنجد حتى تحت الأبعاد الكبيرة العديد من الحلول للمعادلات الكماتية النظرية، والتي لا نظير لها في الفيزياء الكلاسيكية، تظهر في هذه الحلول ظاهرة «تداخل الاحتمالات». وهذه ظاهرة لا توجد في الفيزياء الكلاسيكية. وعلى هذا، فلن يكون تافها على الإطلاق - حتى داخل حدود الأبعاد الضخمة - ذلك الارتباط بين الرموز الرياضية والقياسات والمفاهيم المألوفة، ولكي نصل إلى مثل هذا الارتباط غير الملتبس علينا أن ندخل في اعتبارنا ملمحا آخر من ملامح المشكلة. علينا أن نلاحظ أن النمط الذي تعالجه مناهج ميكانيكا الكم هو في الحقيقة جزء من نظام أكبر (حدوده العالم بأسره)، إنها تتفاعل مع هذا النظام الأكبر، ولا بد أن نضيف أن الخصائص الميكروسكوبية للنظام الأكبر مجهولة - إلى حد كبير على الأقل. لا شك أن هذا وصف صحيح للوضع الواقعي. ولاستحالة أن يكون هذا النظام موضوع قياس وتفحصات نظرية، فإنه لن ينتمي إلى عالم الظواهر ما لم يكن يتفاعل مع مثل هذا النظام الأرحب، الذي يمثل المراقب جزءا منه. والتفاعل مع النظام الأكبر هذا بخصائصه الميكروسكوبية غير المحددة يقدم إذن إلى وصف النظام (الكماتي-النظري والكلاسيكي) عاملا إحصائيا جديدا. وفي الحالة الحدية للأبعاد الكبيرة يحطم هذا العامل الإحصائي آثار و«تدخل الاحتمالات» حتى ليقترب البرنامج «الكماتي- الميكانيكي» الآن من البرنامج الكلاسيكي في الوضع الحدي. وعلى هذا يصبح الارتباط عند هذه النقطة بين رموز نظرية الكم ومفاهيم اللغة الاعتيادية غير مبهم، ويصبح هذا الارتباط كافيا لتفسير التجارب.»
81
والملاحظ أن هذا الذي سار فيه هيزنبرج هو نفس الاتجاه الذي طوره «بريدجمان» في كتاب «منطق الفيزياء الحديث» (1927م)، وهو أيضا الذي سار فيه أصحاب مدرسة كوبنهاجن (بور-ديتوش) عندما ركزوا على أن معنى قضية ما مرتبط بطرق تحقيقها وملاحظتها، وأن الظواهر لا تملك أي واقع فيزيائي موضعي قائم بذاته وباستقلال عن طرق تحقيقها وملاحظتها والقياس عليها؛ أي إنها لا توجد إلا بالنسبة لذات تختبرها وتجرب عليها «ويترتب عن وجهة النظر هذه أن القضايا العلمية تشير إلى طرائقنا التجريبية وليست الأشياء ذاتها التي هي موضوع التجربة». وهذا هو السبب الذي من أجله قلنا إن مدرسة كوبنهاجن تمثل لونا وضعيا جديدا يحاول، انطلاقا من الإشكالية الجديدة التي طرحتها الفيزياء الكوانتية، أن يعيد تمييزا تصوره ماخ بين المعرفة الحسية؛ أي معرفة الطبيعة مثلما تمدنا بها حواسنا. وبهذا المعنى لن يكون للظواهر وجود موضوعي مستقل عمن يدركها، ولن تكون سوى مركبات ذهنية من الإحساسات؛ فمعرفة الشيء في ذاته هي مستحيلة لا سيما وأن الوجود إدراك؛ إذ إن ما نلاحظه ليس الطبيعة في ذاتها، بل الطبيعة في ارتباطها بطرائقنا ومناهجنا؛ أي في ارتباط بما يسمونه «الذات».
82
ومن هنا نجد هيزنبرج يعترف أن : «تفسير كوبنهاجن لنظرية الكم ليس على الإطلاق وضعيا؛ فبينما تركز الوضعية على أن عناصر الواقع هي الإدراكات الحسية للمراقب، فإن تفسير كوبنهاجن يعتبر الأشياء والعمليات التي يمكن وصفها بلغة المفاهيم الكلاسيكية، نعني الواقعية، أساسا لأي تفسير فيزيائي.»
83
ولم يكتف هيزنبرج بذلك، بل نراه يصب جام غضبه على الوضعية المنطقية قائلا: «أما المشكلة الأساسية فقد أقرت بها الوضعية الحديثة في وضوح. يعبر هذا الخط من التفكير عن انتقاد للاستخدام الساذج لمصطلحات معينة مثل «الشيء» و«الإدراك الحسي» و«الوجود» وذلك بالمسلمة العامة بأن مسألة ما إذا كان لجملة ما أي معنى على الإطلاق، هي أمر لا بد أن يخضع لفحص دقيق نقدي. والموقف من خلفها، مشتق من المنطق الرياضي. ويصور منهج العلوم الطبيعية كوصلة من الرموز ملحقة بالظواهر. من الممكن أن تجمع الرموز - كما في الرياضيات - حسب قوانين معينة، وبهذه الطريقة يمكن أن تمثل التقارير عن الظواهر بمجاميع من الرموز، فإذا ما كان ثمة مجموعة من الرموز لا تطيع القوانين، فهي ليست خاطئة، إنما هي فقط لا تنقل أي معنى. والمشكلة الواضحة في هذه الحجة هي افتقارنا إلى أي معيار نحكم به عما إذا كانت الجملة بلا معنى؛ فنحن لن نصل إلى حكم حاسم إلا إذا كانت الجملة تنتمي إلى نظام مغلق من المفاهيم والبديهيات، وهذا أمر يعتبر في تطوير العلوم الطبيعية الاستثناء لا القاعدة. يقول التاريخ إن التخمين بأن جملة معينة لا معنى لها قد قاد في بعض الحالات إلى تقدم كبير؛ إذ فتح الباب لتوطيد علاقات جديدة كانت مستحيلة لو كان للجملة معنى. ولقد ناقشنا في نظرية الكم مثالا هو الجملة: «في أي مدار يتحرك الإلكترون حول النواة». لكن المخطط الوضعي المستمد من المنطق الرياضي هو على العموم نطاق ضيق للغاية في وصف الطبيعة يستخدم بالضرورة كلمات ومفاهيم يصعب تعريفها إلا في صورة مبهمة. ولقد قادت القضية القائلة إن كل المعرفة تتركز في نهاية المطاف في الخبرة، قادت إلى مسلمة تتعلق بالتفسير المنطقي لأي تقرير عن الطبيعة. ربما كان هناك ما يبرر مثل هذه المسلمة في مرحلة الفيزياء الكلاسيكية، لكن قد عرفنا منذ أن ظهرت نظرية الكم أنها لا يمكن أن تحقق، إن موقع وسرعة الإلكترون كلمتان يبدو أنهما محددتان من ناحية المعنى والارتباطات المحتملة، والحق أنهما كانتا مفهومين واضحي التحديد داخل الإطار الرياضي لميكانيكا نيوتن، لكن الواقع أنهما ليستا كذلك، تخبرنا بذلك العلاقات اللامحققية؛ فقد نقول إن الموقع في ميكانيكا نيوتن كان محددا تماما، لكن العلاقة بالطبيعة لم تكن كذلك. وهذا يبين أننا أبدا لن نستطيع أن نعرف مقدما أية قيود قد تكتنف قابلية تطبيق مفاهيم معينة عندما نمد موقفنا إلى مناطق من الطبيعة بعيدة لا يمكننا اختراقها إلا باستخدام أعقد الأدوات. علينا إذن في عملية الاختراق أن نستخدم مفاهيمنا أحيانا بطريقة لا تبرر ولا تحمل أي معنى. والإصرار على مسلمة التفسير المنطقي الكامل سيجعل العلم مستحيلا، وسيذكرنا علم الفيزياء الحديث هنا بالحكمة القديمة القائلة: على كل من يريد ألا يتفوه بخطأ أن يصمت.»
84
نتائج البحث
Bog aan la aqoon