أجل! ما كان لجيتي في هذه الدنيا من عمل إلا أن يراع ويعجب، وإن كل ما فيه من سخر باسم خفي لن ينقض ذرة من صرح إعجابه الفخم العميم؛ لأنه سخر من عرف كثيرا وشعر كثيرا وأعجب كثيرا لا سخر من لم يعرف ولم يشعر ولم يدر ما الإعجاب، وقد كان إعجابه هذا عملا جميلا ولم يكن لغوا ذاهبا في الهواء، كان عملا قوامه الدرس ورياضة النفس والإقبال عليها بالتثقيف والتحسين، وكان سبيله إلى فهم شيء والشعور به أن يعمله ويعيش فيه؛ فالعمل طريق المعرفة والتجمل، والحياة لا تكون إلا تفكيرا يعقبه عمل وعمل يعقبه تفكير كما يتعاقب الشهيق والزفير! هكذا كان يقول في كتبه وأحاديثه. وهكذا كان يسأل في رواية فوست: ما معنى آية الإنجيل «في البدء كانت الكلمة»؟ هل معناها في البدء كانت الفكرة؟ هل معناها في البدء كان العمل؟ وإلى هنا انتهى السؤال. •••
لا بد أن نذكر كل ما تقدم لنعلم كنه هذه العبقرية وكنه وصفها بالسعة وتعدد الجوانب؛ فهي عبقرية فنية قبل كل شيء، وهي بعد فنية عملية قابلة للتطبيق والبروز فلا تفارق الأرض وإن طمحت إلى أرفع المعاني، وهي في هذا كله عبقرية مستجيبة تتلقى وتنتظر وليست بالعبقرية الطاغية التي تصول وتتعجل؛ ففي موضوعات جيتي إجادة كثيرة وليس فيها اختراع كثير.
وستعيش آراء جيتي العلمية في مراجع البحث وسجلات العلماء ولا يعيش هو إلا في عالم الشعر بل في عالم الغناء؛ لأنه شاعر الأغاني غير مدافع، فليس للشاعر الغنائي ملكة مطلوبة إلا وهي فيه على حظ وافر، وحسبه في هذا حلاوة النغم وبلاغة اللفظ وسهولة التعبير وقلة التكلف التي هي طبع في خلائقه وطبع في أدائه، أما غير ذلك من الملكات فله فيها مدافعون ومنازعون ؛ إذ ليس في آرائه العلمية رأي واحد إلا وله شريك ينازعه السبق إليه، فإن «فيك دازير» قد أعلن كشف العظمة الفكية في مجمع العلوم بباريس قبل جيتي بخمس سنوات، ولينيس سبقه إلى رأي صائب في تحور النبات، و«أوكن» سبقه إلى رأي في تركيب الدماغ من الفقريات وهو رأي لا يسلمه الآن جميع العلماء، وأفلاطون وأرسطو وليوناردو دافنشي كانوا يقولون بأن اللون مزيج من النور والظلام وهم وجيتي في هذا القول مخطئون. وأيا كان علم جيتي بهذه الكشوف أو جهله بها قبل اهتدائه إليها فالفضل فيها منازع ومكانه بين العلماء لو سلمت له بغير نزاع لا يرتقي إلى مكان العلية والأفذاذ.
جيتي في ملابس الديوان.
كذلك الشعر لا يسلم له فيه إلا فضل الغناء وحلاوة الصياغة، فرواياته التمثيلية ستنسى في عالم التمثيل وترجع إلى أصلها أغاني متفرقات وقصائد وكلمات، وإذا مثلت يوما كما كانت تمثل من قبل فعلى سبيل الذكرى والاستطلاع والتفرج بالنظر إلى الآثار. أما أناشيده ورسائله أو أشجانه الرومانية وأساطيره المنظومة وكل ما هو في كتاباته من قبيل الغناء فله حظ البقاء وبه يقترن اسمه بين خوالد الأسماء.
قال هيني سيد الفكاهة والنقد الطريف بين كتاب الغرب أجمعين: «نحن أبرع شعراء الغناء في العالم، فليس لأمة أن تفخر بشعر في الغناء كشعر الألمان، وإن الأمم لفي شغل الآن بقضاياها السياسية عن كل شاغل، فإذا جاء يوم طرحت فيه هذه القضايا جانبا فيومئذ نذهب جميعا إلى الغاب، نذهب كلنا من ألمان وبريطان وأندلسيين وفرنسيين وطليان إلى الغاب الخضراء ونغني هناك وندع الحكم للبلبل، وعلى يقين أنا أن أغاريد ولفجانج جيتي ستخرج بالجائزة من هذه المباراة الشادية.» •••
والآن فلنستمع إلى الرأي الوحيد في جيتي الذي لا يقول به اليوم أحد في العالم، وذلك هو رأي جيتي في نفسه! فهو الرأي الوحيد الذي يستحق كل رفض ولا يستحق أي قبول.
كان جيتي إلى الرابعة والعشرين من عمره لا يستقر على رأي في كنه عبقريته، فلما برح «فتزلار» يائسا من حب شارلوت مضى على النهر يطيل محاسبة نفسه ويفكر في حاضره ومستقبله، فلاح له منظر يخلب قريحة الشاعر ويغري ريشة المصور، فخطر له أن يسأل نفسه أمصور هو أم لا مستقبل له في التصوير؟ ثم خطر له أن يستشير القدر على مثال الأقدمين، فأخرج من جيبه مبراة وقال لنفسه: إذا أنا رأيتها وهي تهوي إلى النهر فأنا فنان، وإذا هي غابت عن نظري وراء الصفصاف فلست بذاك، ثم قذف بها فجاءه الجواب لا إلى النفي ولا إلى الإثبات، وإذا بالمبراة تقع أولا وراء الصفصاف ثم يثب بها الماء فيراها بملء عينيه!
كان هذا ظنه بنفسه أيام الشباب، فلما شاخ واستوى على ذروة الشهرة الأدبية قال لصاحبه أكرمان: «إنني لا أعول كثيرا على ما بلغت في الشعر، فقد نبغ في زماننا شعراء عظام وسبقنا وسيلحق بنا شعراء أعظم، ولكنني إذا نظرت إلى أنني - في هذا القرن - كنت الفرد الوحيد الذي عرف الصواب من الخطأ في علم الألوان العويص ألفيتني فخورا وعرفت رجحاني على الكثيرين.»
ونحن ننقل هذا الرأي لأنه حكمة طيبة في الحياة لا لأنه حكم طيب في الأدب، فجيتي ينسى أخلد ما فيه ويفخر بأفشل ما فيه، ينسى الشعر ويفخر بالعلم، ثم لا يفخر من العلم إلا بما بان فيه فشله ووضح فيه خطله، فلو أنه فخر بآرائه في النبات أو التشريح لصدق فخره وظهر عذره، ولكنه يزهى برأيه في الألوان وهو أضعف الآراء وأدناها إلى الدثور والفناء. الحق أن الإنسان لا يحسن الأمنية لنفسه ولو كان من الحكماء!
Bog aan la aqoon