Tacbiriyya
التعبيرية في الشعر والقصة والمسرح
Noocyada
كانت تطوف بالبلدان الأوروبية كإحدى نساء الغجر المغامرات أو فارسات الأمازون اللائي تتغنى بهن القصص والأساطير، تكتب في المقاهي، وتعيش في عالم أشبه بعالم الخرافات، وتتصور نفسها أميرة أو جنية في إحدى حكايات الشرق القديم. ألفت قصائد يشع منها جمال غريب يعكس رؤى الماضي والحاضر، والشرق والغرب، والواقع والحلم.
كتبت تقول عن نفسها: «ولدت في طيبة (بمصر) وإن كنت قد جئت إلى هذا العالم في «البرفيلد» إحدى بلاد الراين، وترددت على المدرسة حتى بلغت الحادية عشرة، ثم أصبحت روبنسون (وهي تعني روبنسون كروزو!) وعشت في الشرق خمس سنوات، ومنذ ذلك الحين وأنا أحيا كيفما تشاء الصدف.» ولم يكن هذا كله مجرد خيال؛ فقد تصورت أنها تعيش بالفعل في عالم الشرق الخيالي، وراحت تنسج منه أقاصيصها وأشعارها وتتقمص شخصية أمير من طيبة سمته الأمير يوسف، وأخذت توقع خطاباتها باسمه! ولقد كانت على صلة وثيقة بالتعبيريين، فلم تكتف بصداقة العدد الأكبر منهم فحسب، بل تزوجت - بين زيجات أخرى بالطبع! - الكاتب هرفارت فالدن الذي أسس جماعة تعبيرية باسم «العاصفة» وأصدر لها - كما تقدم - مجلة تحمل نفس الاسم، وقد منحت جائزة «كلايست» الأدبية الرفيعة في سنة 1932 للقيم الخالدة التي ينطوي عليها أدبها الذي يقف على قدم المساواة مع إبداع الأعلام الكبار في الأدب الألماني كما تقول وثيقة هذه الجائزة. ولكن النظام النازي لم يلبث أن حرم نشر هذا الأدب الذي أثنى عليه كل هذا الثناء، فهاجرت إلى سويسرا ومنها إلى مصر وفلسطين، ثم عادت إلى سويسرا حيث عرضت مسرحيتها «أرتور أرونيموس وآباؤه» في مدينة زيوريخ سنة 1936، ورجعت مرة أخرى إلى فلسطين حيث تعذبت وماتت بائسة وحيدة في مدينة القدس، ودفنت سنة 1945 في جبل الزيتون.
ولا يمكننا أن نختم هذا الحديث قبل أن نذكر شاعرين تعبيريين تمتعا في حياتهما بشهرة واسعة ولقيا من القراء أعظم نصيب من الإقبال، ويظهر أن حظهما من الأدب دليل على تغير حظوظ المؤلفين على مر العصور؛ فما أبعد الشهرة التي كانا يتمتعان بها من الإهمال الذي يعانيانه من قراء هذه الأيام!
هذان الشاعران هما: يوهانس بشر وفرانز فيرفل. لقد استجابا لمطالب عصرهما وعبرا عن مشكلاته وحاجاته؛ وهما لذلك يستحقان من مؤرخ الأدب كل اهتمام وتقدير. ولكن القارئ الحديث (اللهم إلا في القسم الشرقي من البلاد الألمانية حيث يكاد «بشر» أن يكون كتاب المطالعة للجميع) لا يتذوق اليوم شيئا من مبالغاتهما الساذجة، ولا يستجيب لصيحاتهما العالية، ومع هذا فقد كان كلاهما نموذجا للشاعر التعبيري الذي يتقمص شخصية الأنبياء الملهمين والدعاة المبشرين بالإنسانية الجديدة، وكان كلاهما يدعو دعوته بالطريقة التي تتفق مع مزاجه ونزعته؛ فأولهما «فيرفل» شديد التدين، وقد تحول إلى الكاثوليكية وتحمس لها، وثانيهما «بشر» ثائر سياسي، وقد تحول إلى الشيوعية وصار أحد أقطاب النظام الحاكم في ألمانيا الديموقراطية، وشغل منصب وزير الثقافة قبل وفاته سنة 1958، ومع ذلك فقد كانا قبل هذا التحول الديني والسياسي من رواد الحركة التعبيرية، وكان لهما أسلوبهما الفوضوي العاطفي الثائر على اللغة والمجتمع قبل أن تتمكن الرؤية الصوفية والرمزية من أحدهما والدعوة السياسية الهادفة من الآخر.
ولأكتف هنا بسطور قليلة عن فرانز فيرفل. فقد ولد سنة 1890 في براغ ومات سنة 1945 في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأمريكية، وتأثر في مبدأ حياته الأدبية بلغة التعبيريين، وتميز بأسلوبه البليغ المؤثر الذي يفيض بالرقة والحنان والتدفق العاطفي والشوق إلى الاتحاد بالكل في الكون والمجتمع، والتطلع إلى إنسانية جديدة وقديمة في آن واحد. إنسانية تعيش على المحبة والتواضع والخشوع والصفاء والأخوة، وقد انطبعت مجموعاته الشعرية الأولى
4
بهذا الطابع، وعبرت بلغتها الغنائية العذبة عن أشواقه للخلاص من فساد العصر ومذابح الشعوب وتعاسة الذات المنبوذة المحرومة من نعمة الله، وظل إنتاجه يعاني من التناقض الأليم بين اليأس من الذات والوجود والرغبة العارمة في الحياة «آه أيتها الأرض، أيها المساء، أيتها السعادة، آه من الوجود في هذا العالم!» بين غرور الحاجة إلى الخلق والشك في حقيقة الكلمة وقيمتها، بين التقيد بالأنا البائسة المنقسمة على نفسها، والسعادة التي يشعر بها الفنان عندما يهب نفسه للتعبير عن عذاب الأشقياء المطحونين، ويكرس مواهبه للمنسيين والمضطهدين والمحرومين «يأيها الإنسان! لا أرغب إلا في شيء واحد، هو قربي منك!» وكتاباته تدور حول الخطيئة والخلاص، والشكوى من الذات المتهمة المذنبة، والسعادة التي يتيحها الخلق، والقرب من شهداء الوجود وضحاياه، أراد أن يكتشف الجانب الإلهي في الإنسان ويحرر صورة الله الكامنة في مخلوقاته الترابية الضعيفة، وصور هذه العاطفة النبيلة في أشعاره الحافلة بالرؤى والأحلام والأماني، تجري بها لغة غنائية متدفقة قد لا تخلو أحيانا من نزعة خطابية متكلفة.
كان «فيرفل» يميل إلى الأوبرا، ومسرحياته التعبيرية التي كتبها في المرحلة الثانية من إنتاجه أقرب ما تكون إلى الأوبرات الغنائية والرؤى السحرية. وقد أعاد في سنة 1915 كتابة مسرحية «نساء طروادة» ليوريبيدز، وجعل منها نشيد احتجاج على الحرب وتجاربها المرة، وحاول أن تكون له «فاوست» أخرى، فكتب ثلاثيته المسرحية «إنسان المرآة» (1920)، ولكنه لم ينجح في توضيح الصراع بين «الذات الظاهرة والذات الحقة»، وإنما حمله بالقضايا الفكرية والمشكلات العصرية بأكثر مما ينبغي لمثل هذا الموضوع الإنساني الخالد. ثم حالفه التوفيق في مسرحيته التاريخية «بواريز وماكسيليان» (1924) التي تصور مأساة الحاكم الذي يحطم على صخرة الأطماع والمصالح وبشاعة السلطة. وتوالت بعد ذلك مسرحياته ورواياته (ومن أشهرها أغنية برناديت التي صورت في فيلم معروف) وأقاصيصه التي يدور معظمها حول صدام الأبرياء والبسطاء وأنقياء القلب والروح مع فساد العصر وقانونه الصارم الميت، ولكنه تجاوز المرحلة التعبيرية الخالصة في هذا الإنتاج المتأخر، واستطاع أن يتوصل إلى أسلوب واقعي متميز يحافظ على الشكل التقليدي، ويميل إلى اختيار الموضوعات الدينية والميتافيزيقية والمثالية التي تنطق بعذاب الأتقياء الأنقياء في هذا العالم.
وننتقل إلى اسم آخر من رواد الحركة التعبيرية المبكرة، وهو الشاعر العالم في فقه اللغة إرنست شتادلر (1883-1914) الذي كان أملا مرجوا للشعر الحديث قبل أن تنتزعه الحرب العالمية الأولى، أثر شتادلر على التعبيرية بلغته الصادقة المتفجرة العميقة، ومقدرته على الشكل المحكم الناضج، وأنغامه الشجية الموقعة، وموضوعاته الطريفة المحدثة التي تصور روح العصر كما تبدو في عالم المدن الكبرى والقطارات السريعة والمغامرات والأعمال الهائلة (إنما أنا لهب، عطش وصرخة وحريق ...) وهو من أوائل التعبيريين الذين تأثروا بالمدرسة الرمزية الفرنسية وبالشاعر الأمريكي والت ويتمان، كما ترجم للشاعر الفرنسي المتدين شارل بيجي، والشاعر البلجيكي فيرهارن، والكاتب الفرنسي بلزاك، وقام بتدريس الأدب في بروكسل وأكسفورد، وكتب العديد من الدراسات النقدية، ونشر مجموعته الشعرية «الرحيل» في سنة 1914، وهي من أهم المجموعات التي صدرت للتعبيرين، استطاع شتادلر أن يدخل الأبيات الطويلة إلى الأدب الألماني، كما استطاع أن يعبر عن روح هذا الجيل الباحث عن نفسه وعن الله، الثائر على الحرب المهلكة التي أرغم على الاشتراك فيها، وكان الشاعر نفسه من أول ضحاياها. وأحب أن أقدم للقارئ هذه القصيدة التي سمى مجموعته باسمها، راجيا أن تلقي شيئا من الضوء على ما قلت:
الرحيل
Bog aan la aqoon