Cuntada Adduunkii Hore
الطعام في العالم القديم
Noocyada
ويأتي موسونيوس روفوس في نهاية سلسلة طويلة من الفلاسفة الذين اعترضوا على كتب الطهي؛ إذ نجد أن أفلاطون في كتابه «محاورة جورجياس» يعقد مقارنة بين كتاب الطهي الذي ألفه ميثاكوس الصقلي وبين المؤلفات الطبية (راجع الجزء الذي يتحدث عن ذلك في بداية الفصل).
وحاول أركستراتوس استغلال هذا الاتجاه بتسمية قصيدته «هيدوباثيا» أو «تجربة المتعة» («حياة الترف»)؛ فلا داعي لشرح مخاطر كتب الطهي بالتفصيل؛ فهي تنصح الطاهي أو العبد العامل لدى أسرة أو ربة الأسرة بإعداد الطعام بطريقة تجعل طعمه أطيب أو أنقى. ومع أن هذا قد يزعج دعاة الوعظ الأخلاقي، فإن كتب الطهي تمثل لعلماء الأنثروبولوجيا وللمؤرخين المتخصصين في الطعام خطوة نحو التطوير وتقدما في تحضير المنتجات الزراعية للتقديم على مائدة الطعام؛ فهذه الكتب لا تصدر إلا في ظل ظروف ثقافية معينة (راجع الفصل الثاني)، وبعض هذه الظروف تناولها جودي (1982: 97-99)؛ فلا بد من وجود فائض زراعي لإصدارها. وليس من قبيل المفاجأة أن كتب الطهي نشأت فيما يبدو في صقلية - الأرض التي تقع عليها قصور الطاغية الغني - وليس في البر الرئيسي لليونان الأقل خصوبة. ولا بد من وجود سلطة مركزية يمكنها جمع الموارد، ولا بد كذلك من وجود مجموعة كبيرة من الذواقة ممن باستطاعتهم تفضيل طعم معين على آخر ولديهم اهتمام كاف بذلك، ولا بد من وجود ثقافة قائمة على الكتابة والتدوين، حتى تسجل وصفات الطهي ليقرأها القراء المهتمون بدلا من نقلها شفهيا من متخصص إلى آخر؛ ومن ثم، تعبر كتب الطهي الإغريقية عن مرحلة ناضجة من التقدم الثقافي. ويفرق أفلاطون بين كتب الطهي وبين الطب تفرقة تعسفية من بعض النواحي؛ لأن الكثير من الأطباء ألفوا كتب طهي (كتاب «أوبسارتوتيكا»: راجع أثينايوس 516، وجالينوس «عن قوى الأطعمة» 2، 27)، وربما كانت تلك الكتب تشبه الوصفات التي كان الأطباء يجمعونها في أبحاثهم المتعلقة بالعقاقير وعلم الأدوية. وكما أن الطبيب كان عليه وصف كم الطهي المطلوب لطعام معين، كان يشرح أيضا تركيبات العقاقير؛ وهذا الدور الطبي يقترب من النصائح المتعلقة بالطهي والتتبيل الغزير الواردة في الكثير من الوصفات في كتاب الطهي الذي ألفه أبيكيوس.
ومن الممكن أيضا أن تعتمد كتب الطهي على مواد خام غير محلية، ومن الممكن أن تحفز القارئ أو المستهلك أو حتى المؤلف على السفر لبلدان أجنبية بحثا عن أكلات شهية معينة، ومن الممكن أن تزيد الطلب على الواردات الأجنبية القادمة إلى مدينة ما.
وكتب الطهي التي وصلت إلينا قليلة؛ فلا يوجد إلا بضع شذرات من أعمال ميثاكوس، ومن كتب الوصفات التي ألفها الأطباء ، ومن أعمال باكساموس (الذي ذكره كولميلا). والأعمال الباقية الأساسية هي أعمال أركستراتوس وأبيكيوس، وهي توضح الفئتين اللتين تحدث عنهما شون هيل، وهما الدليل الإرشادي (أبيكيوس) والكتاب القائم على الطموح (راجع الفصل التاسع). ويقدم أركستراتوس حقا إرشادات عن طريقة طهي أنواع معينة من الأسماك، ولكن معظم القصيدة تنصب على الحيل المبتكرة القائمة على القالب الشعري الذي أنشأه هوميروس، والعبارات الجريئة التي تحرض على المتعة ووسائل التسلية المتنوعة التي تهدف إلى إمتاع الجمهور الذي يبدو أنه من حاضري جلسات الشراب، إذا كانت القصيدة قد ألفت لإلقائها بعد مأدبة عشاء. والنتيجة الرئيسية المستهدفة من ذلك هي أخذ القارئ أو المستمع في جولة افتراضية في أنحاء بلدان البحر المتوسط، والتحفيز على السفر بحثا عن المتعة، ووصف مباهج أكل الأسماك بالتفصيل؛ ومن ثم، فالقصيدة عمل أدبي له عدة أهداف؛ ومن ثم، فلأثينايوس أن يستشهد بها لظرفها وأيضا لحديثها عن الأسماك والأماكن التي توجد فيها، ويهاجمها في الوقت نفسه لعباراتها المحرضة على المتعة. فأثينايوس يرى أن أركستراتوس يمثل خطرا على الحياة الصالحة شأنه شأن إبيقور، أو يرى أنه يمثل إبيقور في الفكر الشعبي على أقل تقدير. وعلى سبيل الفكاهة، أحيانا ما يستشهد المتحدثون في كتاب أثينايوس بأركستراتوس عن طريق وسيط هو الفيلسوف الرواقي خريسيبوس؛ وهكذا، يصبح التحريض على المتعة متضمنا في كلام معبر عن الرفض صادر من فيلسوف رواقي رائد.
وفي المقابل، نجد أن كتاب أبيكيوس عبارة عن جمع متأخر لعدد من الأعمال المختلفة التي تجمع بين الاهتمامات الطبية، والأطعمة النادرة، وتحويل الأطعمة الرخيصة إلى أطعمة شبيهة بالأطعمة المرتفعة الثمن. وعلى عكس قصيدة أركستراتوس - التي لم يصل منها إلا شذرات استشهد بها في أعمال أخرى - يصل إلينا كتاب أبيكيوس كمخطوطة؛ وهو كتاب متنوع من حيث اللغة وأسلوب الطهي، ويبشر بمرحلة لاحقة امتدت إلى العصر الوسيط بسبب تفضيله لإضافة التوابل بكثرة. وليس من السهل أن نلاحظ مدى علاقة العمل بصفته عملا مجمعا بأي مؤلفات ربما يكون أبيكيوس قد ألفها. تشير النوادر التي رواها أثينايوس وغيره أن أبيكيوس كان ذواقة وليس طاهيا، ويشير كتاب الطهي قطعا إلى استخدام مكونات أجنبية، مثل الفلفل والببغاوات؛ فالطاهي الذي في طليعة الابتكار واستخدام النكهات غير المعتادة يمكنه قطعا الاستفادة من هذا الكتاب، والطاهي الذي ليس لديه إلا حفنة من الموارد، من الممكن أن يستفيد أيضا من محتويات الكتاب؛ فالمواد الواردة فيه متنوعة.
ويبدو أن كتاب الطهي الذي ألفه أركستراتوس، وكذلك كتاب «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» من تأليف أثينايوس، يقدمان لحظات فارقة في عملية التطور هذه؛ فالأول يتعاطف بوضوح في قصيدته مع حياة الترف، أما أثينايوس - على الرغم من كل كلامه الساخر عن أركستراتوس - فيقدم كل أدلته المتعلقة بجلسات الشراب التي تدلل على تعدد مناسبات تناول الطعام في البلدان الإغريقية والبلدان الأخرى من حيث التنوع من مدينة إلى أخرى، ومن نص إلى آخر؛ فكل العناصر التي يعبر عنها كتابه تتسم بالترف؛ بمعنى أنها ليست بسيطة ولا تقليدية ولا مقدسة بحسب الطقوس. ومما لا شك فيه أن الترف يعرض بصورة سلبية في الجزء الثاني عشر، ولكن لم يعبر أحد بالتفصيل عن ترسيخ الترف في البلدان الرومانية إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين أفضل مما جاء في كتابات أثينايوس؛ فالوالي الروماني لارنسيس يقيم مآدب عشاء لا نظير لها في فخامتها، والمواد المستخدمة في تحضيرها لم تأت قطعا من تلال منطقة لاتيوم القديمة.
كانت روما في العهد الإمبراطوري في مكانة تتيح لها طلب أفضل المنتجات من كل البلدان في الإمبراطورية وجمعها والاستمتاع بها في روما، وكان البعض - مثل موسونيوس - يرفضون تلك المنتجات تماما، بينما كان البعض الآخر - مثل سينيكا وأتباع إبيقور - يتناولونها بحذر؛ لذلك، حاول بلينوس إجراء بحث عن الإمبراطورية بأكملها مع اهتمام كبير بتفوق إيطاليا واحترام عميق للقيم التقليدية. واحتفى آخرون - مثل أثينايوس - بالتنوع وخففوا من مخاطر الإسراف باتخاذ ضوابط رواقية وعدم التأكيد على الأطعمة والمشروبات المادية نفسها، بل على صورها الأدبية. يحظى حاضرو مأدبة الحكماء بجميع أنواع الأطعمة الفاخرة أمامهم، ولكنهم يأكلون القليل (مما يثير اشمئزاز أتباع الفلسفة الكلبية الحاضرين بينهم)، ويستشهدون بأوصاف وتعليقات أدبية عن الأطعمة. ويعرض الكثير من هذه المناقشات - ولكن ليس كلها - الفكر القديم من وجهة نظر أبناء الطبقة الراقية ممن يستمتعون بمزايا الإمبراطورية، بل إنها حتى تستبعد آراء عامة الناس بصفتها ذات سمة تأملية على نحو غير كاف ولصيقة أكثر مما ينبغي بالمتع الجسدية (أحيانا «الحيوانية»). ويمثل جالينوس أحد استثناءات هذه القاعدة فيما يخص أعماله المتعلقة بالطعام، ما دام يبني فكره فيما يبدو على أدلة مستقاة من السكان ككل. والنظام الغذائي للريفيين من العناصر المهمة في المناقشة؛ فلا بد من أخذه في الاعتبار إلى جانب تفسير جالينوس لأحد حوارات أفلاطون، أو لأي أعمال أخرى جديدة ومبتكرة.
وأخيرا، أناقش العمل المميز الذي ألفه الفيلسوف فرفريوس، أحد أتباع المدرسة الأفلاطونية الحديثة، تحت عنوان «عن التقشف». يهدف فرفريوس في هذا الكتاب إلى إعادة قرائه إلى الحياة النباتية، بعد مدة انقطاع. وهو كتاب ذو طابع تقشفي؛ لأنه يصرح بأن الفيلسوف فقط وليس عامة الناس (من الأغنياء أو الفقراء) هو الذي بوسعه تحمل حياة تخلو من أكل اللحوم، ولكنه ليس متطرفا مثل موسونيوس روفوس. وينفرد الكتاب بثلاث مزايا مهمة؛ فالكتاب سجل مبهر للمعتقدات النباتية في العصور القديمة، وهو يحفظ أجزاء من الكثير من الأعمال التي باتت مفقودة الآن - مثل عمل ثيوفراستوس المعنون «عن التقوى» - وهو عرض مبهر للمناظرات القديمة التي دارت حول الآلهة والحيوانات والنباتات وعلاقتها بعالم البشر، ويتحدث باستفاضة عن أتباع فيثاغورث وإبيقور، على سبيل المثال، ويتحدث أيضا عن القواعد الغذائية لليهود والمصريين. ويهتم اهتماما كبيرا بالأنظمة والمؤسسات الاجتماعية؛ فالفيلسوف الذي يريد أن يكرس نفسه للإله وللنقاء يمكنه أن يفصل نفسه عن الكثير من جوانب المجتمع البشري، ولكن معظم الناس لا يمكنهم ذلك؛ ومن ثم، فإن احتياجات الرياضيين مثلا تحظى بالاهتمام (2، 3)، ولا ترفض بلا تمحيص.
مقدمة الفصل الثامن
من السهل أن نتهكم على المعتقدات الطبية التي كانت تسود في الماضي؛ فكما أن من سيأتون بعد قرون سيضحكون ملء أفواههم على فكرة تجويع الناس لأنفسهم على الرغم من وجود وفرة من الأطعمة، بغرض تنحيف أنفسهم في القرن الحادي والعشرين، نهز نحن رءوسنا رفضا حيال الاعتقاد القائل بأن تحقيق توازن بين البرودة والدفء أو الرطوبة والجفاف في الأطعمة كان هو العامل المهم للحصول على نظام غذائي صحي، أو أن إراقة الدماء كانت تساعد على مكافحة العدوى. كان الرومان يستخدمون أوعية من الرصاص لغلي شراب العنب بهدف تحلية النبيذ، وهي عادة كانت تؤدي إلى التسمم قطعا، ولكننا كنا نستخدم المواسير المصنوعة من الرصاص والماء اليسر مما أدى إلى انخفاض مستوى الذكاء في القرى على مدى قرون بعد ذلك، ونعاني حاليا من انتشار الربو لدى الأطفال وتحسس الجسم للمواد المثيرة للحساسية، وبدأ الباحثون يربطون بين تلك الحالات المرضية وبين المواد الكيماوية القوية المستخدمة حاليا في تصنيع المنظفات. فالتغير الحقيقي الوحيد يكمن في المجالات التي نجهلها.
Bog aan la aqoon