Cuntada Adduunkii Hore
الطعام في العالم القديم
Noocyada
تستكمل الأدلة الأثرية بعدد كبير من المصادر الأدبية والتقنية؛ فالنص المكتوب ملمح من ملامح الثقافة الإغريقية والرومانية، ولا نجده في الكثير من ثقافات الطعام الأخرى وصولا إلى العصر الحديث. وللطعام دور بارز في أنواع شتى من النصوص، ابتداء من كتابات هوميروس وهيرودوت وما بعد ذلك. وكان الإغريق هم أول شعب في أوروبا يقدم كتب الطهي (في القرن الرابع قبل الميلاد)، وأصدر الإغريق والرومان نصوصا تركز على وجه التحديد على طقوس تناول الطعام والشراب. والفكاهة والهجاء هما أفضل مثالين لذلك (جاورز 1993 بخصوص روما، وويلكنز 2000 بخصوص اليونان).
من الملاحظ وجود تفاوت هائل بين الكثير من المصادر الأدبية والسواد الأعظم من السكان. ونناقش طبيعة المصادر الأدبية بمزيد من التفصيل في الفصل التاسع. حتى في الأعمال الأدبية التي توجه اهتمامها فعلا إلى الفئات الأفقر من المجتمع، غالبا ما تميل في اهتمامها هذا إلى إضفاء صبغة مثالية عليهم في خطاب يتناول نقد حياة المدينة أكثر مما يتناول الفقراء في حد ذاتهم. وتأتي شخصية سيميلوس في قصيدة «ذا مورتيوم» («غداء الفلاح» بترجمة كيني الصادرة عام 1984)، وكذلك شخصية الصياد الفقير الواردة في «الخطبة اليوبية 7» من تأليف المؤلف الروماني ديو كريسوستوم؛ كمثالين على التصوير المثالي للريفيين في الأعمال الأدبية.
ونجد صورة أدق للطعام في الاقتصاد الريفي (وإن كان ذلك لا يشمل وصفا للقرويين) فيما يكتبه الكتاب المتخصصون في الزراعة. يكتب كاتو وفي ذهنه المستثمرون الأغنياء، ولكنه يدرج قدرا كبيرا من التفاصيل العملية التي لا تمت بصلة لهذا الموضوع الأساسي. ويكتب فارو وفي ذهنه زوجته، ومن الواضح أن دائرة اهتمامه أشمل من دائرة اهتمام كاتو. أما كولميلا، فيجمع بين قدر كبير من التفاصيل العملية ودواعي القلق الأخلاقية المعتادة لتلك الفترة. ويتسم كل هؤلاء الكتاب بمعرفة جغرافية شاملة. يهتم كاتو بإقليم كامبانيا ولكنه ملم بقدر كبير من المعلومات عن اليونان، بينما يهتم فارو وكولميلا بأجزاء كبيرة من إيطاليا والبلاد المجاورة لها؛ ويتناقض كل هذا مع قصيدة «الأعمال والأيام» للشاعر هسيود - وهو شاعر إغريقي قديم اعتاد الكتابة باستخدام التفعيلة السداسية - الذي كان يكتب في إطار تراثي من أدب الحكمة عن السنة الزراعية. وتعتمد القصيدة أساسا - على الرغم من كل تفاصيلها - على إطار أخلاقي من قيم التدبير والاجتهاد في العمل والاهتمام بالبيئة المحلية، وكل ذلك يتناقض مع التجارة الخارجية. ويعبر كل من فارو وكولميلا أيضا عن التراث الأخلاقي، ولكن بدرجة أقل (3، 6، 6). وهكذا يصف فارو الطاووس، في سياق حديثه عن طيور التسمين المستوردة: «يقال إن كوينتوس هورتينسيوس هو أول من قدم هذه الطيور في حفل العشاء الذي أقيم احتفالا بتقلده منصب الإيديل (وهو منصب يتولى حامله صيانة مباني المدينة وتنظيم المهرجانات الشعبية العامة). وامتدح الفكرة الرجال الذين يميلون إلى الترف أكثر من الرجال المتقشفين الحريصين على الاستقامة.»
وكانت هناك أيضا نصوص تقنية تتناول الكثير من المجالات الأخرى المتعلقة بالطعام، فظهرت نصوص طبية من القرن الخامس قبل الميلاد - ومن أرسطو وثيوفراستوس في القرن الرابع قبل الميلاد وبعد ذلك - ونصوص عن علم الحيوان وعلم النبات؛ وساعدت هذه النصوص في وضع الإنسان في سياقه في العالم الطبيعي. وكانت هناك نصوص تتعلق بالمدن المختلفة في البلدان الإغريقية الرومانية، وكانت ثمة أعمال عن الزراعة وكتب رحلات ودراسات مسحية جغرافية، وشهدت الفترة «الهلنستية» (القرون الثلاثة الأخيرة قبل الميلاد) والفترة الرومانية تأليف أعمال موسوعية ناقشت ولخصت كل هذه المعلومات. ويأتي كتاب «التاريخ الطبيعي» من تأليف بلينوس كمثال مهم، والأمر نفسه ينطبق على أعمال بلوتارخ وجالينوس وأثينايوس الذين سبق ذكرهم. وكانت كل هذه الموسوعات تحتوي على آراء أيديولوجية عن كل من تاريخ الطعام وعادات تناول الطعام المعاصرة في تلك الفترات.
ومن الشخصيات ذات الأهمية الخاصة لهذا الكتاب المؤلفان الإغريقيان اللذان عاشا في ظل الإمبراطورية الرومانية في القرنين الثاني والثالث؛ جالينوس وأثينايوس. وكان الأول كاتبا متخصصا في الشئون الطبية، وله اهتمامات فلسفية وثقافية كبيرة، أما الثاني فيصعب تعريفه ولكنه كان كاتبا متخصصا في تأليف الموسوعات المتخصصة في الطعام، وكان فريدا من نوعه في هذا المجال. ولا يتبع أثينايوس دائما الترتيب الأبجدي مثل موسوعتي «لاروس جاسترونوميك» و«دليل أكسفورد للطعام»، بل كان يكتب بحسب ترتيب الأطباق المقدمة في الوجبة، ويكثر من اقتباس الأدلة قدر الإمكان، وهو ما يجعل من الصعب على القارئ الحديث فهم كتاباته؛ ومع ذلك فإن الأسباب التي دعته إلى ذلك الخيار تكشف عن معلومات مهمة.
كل من أثينايوس وجالينوس كانا يكتبان في عصر يعقب العصر الذي عاش فيه هوميروس بنحو ألف عام، وقدم كل منهما فكرة ثقافية عن فترة الألف عام هذه، وفي الوقت نفسه عرضا ملخصا مبهرا لطريقة تفاعل الثقافتين الإغريقية والرومانية على مدى فترة تمتد لأربعة قرون وتزيد. وتوضح أعمالهما كذلك كيف صمد التنوع المحلي في ظل نظام إمبراطوري، وأيضا في فترة نشأت فيها عوامل تأثير مهمة أدت إلى التغيير. وسنتمكن بمساعدتهما من تتبع الاختلافات والمؤثرات فيما بين الثقافتين وداخل كل منهما.
ولا ننوي اكتشاف التطور التدريجي الذي مرت به هاتان الثقافتان حتى تحولتا إلى ثقافتين مسيحيتين؛ إذ تتوافر نصوص قيمة كثيرة قدمها مؤلفون أمثال كليمنت السكندري وفيلون السكندري وآباء الكنيسة مثل ترتليان، وقد استخدمت فيرونيكا جريم هذه المواد للكشف عن طرق الصوم المختلفة في التعاليم الوثنية واليهودية والمسيحية في العصور القديمة المتأخرة. وأحدث مؤلف نتحدث عنه في هذا الكتاب هو الكاتب فرفريوس المتبع لمذهب الأفلاطونية الحديثة، والذي يستعرض كتابه «عن التقشف» - الذي ألفه في القرن الثالث الميلادي - الحجج المؤيدة والمعارضة للامتناع عن تناول اللحوم. وهو من النصوص الأساسية في تاريخ مذهب النباتية، ولكنه أيضا - شأنه شأن أثينايوس - مخزون من الفكر القديم الذي يتناول عادات تناول الطعام في الثقافة الإغريقية.
مع ذلك، فإن جالينوس وأثينايوس يسهمان الإسهام الأكبر في هذه الدراسة؛ فكل منهما ألف أعمالا مفصلة عن نواح تتعلق بالطعام والتغذية إبان أواخر القرن الثاني الميلادي؛ ومن ثم، فقد اختلف عن التيار السائد في التأليف خلال هذه الفترة؛ إذ كان المؤلفون يتناولون الماضي أكثر من أي وقت مضى، ويناقشون الإرث الثقافي الهائل لليونان والسبيل إلى نشره وتداوله. وتفيدنا الآراء العظيمة التي قدماها عن الطعام وعادات تناول الطعام في التعرف على هيئة العالم في عصرهما وفي العصور السابقة لعصرهما، وتكشف تلك الآراء عن حجم الكتابات التقنية التي ألفت عن الطعام: أبحاث عن علم النبات والخضراوات والأسماك المملحة، وكئوس الشراب وجلساته، والأكاليل، والنظام الغذائي، وعلم العقاقير، وكثير من المجالات الأخرى. وعلاوة على ذلك، يساعدنا هذان المؤلفان في تعريف ما قد تعنيه كلمة «طعام» في الثقافة الإغريقية الرومانية. وتتضح - على سبيل المثال - من إدراج أثينايوس للأحاجي والموسيقى في كتاباته، نوعية الأنشطة الوثيقة الصلة بدراسة من هذا النوع. كما أنهما يتمتعان بإلمام ملحوظ بالمناطق الموجودة خارج أثينا وروما، وهذا مهم؛ إذ أسهمت هاتان المدينتان العظيمتان إسهاما كبيرا في مجال الطعام والثقافة، وفي الوقت نفسه كانت كل منهما فريدة في حجمها وتأثيرها.
بطبيعة الحال، كان لكل من جالينوس وأثينايوس أهداف مختلفة. يحدد جالينوس الطبيب (في كتابه «عن قوى الأطعمة») الأطعمة الأساسية في النظام الغذائي، والكثير منها يثير دهشة القراء في العصر الحديث؛ فالأطعمة الأساسية تضم - فضلا عن الحبوب والفواكه المتوقع وجودها - الكثير من أنواع الحشائش المرة المذاق والنباتات البرية والحيوانات الغريبة. أما أثينايوس، فيعتمد في كتابه «مأدبة الحكماء» أو «ديبنوسوفيستاي» على الكتابات التي تتناول جلسات الشراب التي كانت موجهة للطبقة الراقية الإغريقية المرفهة. ويسرد هو أيضا الكثير من أنواع الأطعمة المختلفة والمدهشة، ويقتبس من الكثير من المؤلفين ممن كتبوا عن هذا الموضوع. ويهتم أثينايوس على وجه التحديد بهوميروس وأفلاطون والشعراء الهزليين وقصص الملوك المعاصرين للحقبة الهلنستية ممن جاءوا بعد الإسكندر الأكبر. ولكن جالينوس أحيانا يعتمد هو الآخر على هوميروس وأفلاطون والمسرحيات الكوميدية، فهؤلاء المؤلفون كانوا جزءا من العالم الذهني للفرد المثقف في تلك الفترة، وكان جالينوس يولي أهمية للإشارات التي كانوا يدرجونها في كتبهم إلى الأطعمة. وعلى العكس من ذلك، يصور أثينايوس جالينوس باعتباره أحد العلماء شبه الخياليين الجالسين في مأدبة، ويقتبس اقتباسات غزيرة من الأبحاث الهلنستية التي تتحدث عن النظام الغذائي والتغذية التي ألفها مؤلفون مثل ديوكليس الكاريستوسي ومنيستيوس الأثيني وديفيليوس السيفنوسي. ونناقش التغذية بالتفصيل في الفصل الثامن. ولا بد أن نضيف إلى هذه الدرر الأدبية عادات تناول الطعام التي يتبعها الحاضرون في مأدبة أثينايوس؛ فمعظمهم من الإغريق، ويستشهدون بمؤلفين معظمهم من الإغريق، ومع ذلك يشربون النبيذ من بداية المأدبة، وذلك سيرا على عادة الرومان. ويبدو أنهم قد مزجوا بين عادات تناول الطعام الإغريقية والرومانية، وتأتي مناقشة آثار هذا المزج على بنية كل من المآدب الإغريقية والرومانية في الفصل الثاني.
ويورد هذان المؤلفان أسماء مئات الأطعمة، من مئات المدن والمناطق، ويوضحان تنوع عادات تناول الطعام في الإمبراطورية الرومانية إبان القرنين الثاني والثالث الميلاديين. ولا يقتصر اهتمامهما على روما أو أثينا فحسب، كما ورد سابقا؛ إذ يحكي أثينايوس عن مدن من البر الرئيسي لليونان، وعن السلتيين والمصريين ومدن آسيا الصغرى وسوريا؛ ويحكي جالينوس عن مقدونيا وبيثنيا وآسيا الصغرى والإسكندرية وإيطاليا، ويقدم جالينوس أيضا أقوى دليل وصل إلينا من نص أدبي عما كان يتناوله الفقراء والريفيون؛ فالنظام الغذائي الذي ذكره هو النظام الغذائي المعتاد لكل الناس، وليس فقط للطبقات المرفهة، وشهادته في هذا الشأن مفيدة للغاية، وسنناقشها في الفصل الرابع.
Bog aan la aqoon