وقضى سعيد يومين آخرين في الكلية بلا إحسان، لكنهما لم يكونا كاليوم الأول، اطمأن عليها وتلاشى معظم ضعفه ويتمه، وقال لنفسه وهو عائد إلى بيته: «أنا رجل قوي مثل كل هؤلاء المتغطرسين.» وعادت إحسان إلى الكلية، واستقبلها بحرارة، وضغط على يدها، وسارا جنبا إلى جنب في فناء الكلية، حتى وصلا إلى مكانهما المعتاد وجلسا: إزيك النهاردة؟ - الحمد لله.
وسكتا طويلا، ثم قال سعيد وهو ينبش بحذائه في الأرض: مين اللي فتحت لي الباب؟ أختك؟ - أيوه.
وسكتت لحظة ثم قالت: «أظن ما كنتش تتصور إني فقيرة كده؟»
قال بسرعة: «أبدا، أبدا عمري ما فكرت في حاجة زي كده.»
وغابت عنه في شرود طويل، ثم قالت كأنها تكلم نفسها: «كان بابا موظف كويس، وبعدين فجأة جاله شلل ونام في السرير.»
ولمعت عيناها بدموع حبيسة ثم قالت: «مسكينة أمي، ليل نهار تعبانة، إحنا ثلاثة، أخويا الكبير وأنا واختي الصغيرة، أخويا في كلية الطب وبيشتغل بعد الضهر في شركة أدوية، وانا كمان باشتغل في شركة بعد الضهر.»
وكان سعيد يجلس ويستمع إلى صوتها وهي تتكلم في دهشة، ولم يستطع خياله الساذج الذي لا يعرف سوى بيته وكليته أن يتصور أن هناك أناسا يتألمون ويشقون من أجل رغيف العيش على هذه الصورة، وأن في الدنيا هموما وأعباء كثيرة. لقد كان يظن أن الاستذكار هو العبء الوحيد الموجود في هذا العالم، فإذا به يجد «إحسان» تحمل أعباء أخرى أخطر من الاستذكار بكثير. وكان يظن أن كل فرد من الناس يسكن فيلا أنيقة، مثل فيلته، ويطل على شارع نظيف مثل شارعه، ويجد في الصباح إفطارا، وفي الظهر غداء، وفي المساء عشاء، وله حجرة نظيفة وفراش مريح، وأم حنون ترعاه، وتعطيه من النقود ما يريد، وله خدم يغسلون ملابسه ويلبون طلباته.
كان يظن أن هذه أشياء عادية تخلق عند كل الناس كما تخلق لهم أذرع وأرجل. وتذكر منظر الحارة القذرة التي تسكن فيها إحسان، وبيتها الصغير المتهدم، وأختها المسكينة ذات النظرات الجائعة الخائفة. والتفت ناحية إحسان، ورآها تجلس شاحبة نحيلة شاردة، وشعر برغبة في أن يمسك يدها ويضغط عليها ويقول لها: «معلش يا إحسان، بلاش تزعلي نفسك، تعالي عيشي معايا، أنا عندي بيت وعندي سبعين فدان، وعندي فلوس كتيرة قوي.»
لكنه لم ينطق بحرف واحد، لم يتحرك لسانه في فمه، كان يريد منها أن تتكلم، أن تشجعه كما كانت تشجعه دائما، لكن إحسان ظلت صامتة. كانت تحس أنها بعد أن كشفت حالتها أمامه أصبحت ضعيفة عاجزة فقيرة، تحتاج إلى شفقته وعطفه. لم تعد إحسان القوية التي تدافع عنه وتساعده وتقويه، وسألت نفسها أتراها أحبته؟ ولم تعرف الجواب، كانت تشفق عليه من انطوائه، وتآمر الطلبة عليه، أرادت أن تساعده وتحميه، تماما كما تفعل مع أبيها المشلول المريض، لكنها الآن عاجزة عن أن تمنحه شيئا، لقد زال عنه انطواؤه وخجله وضعفه، وأصبح مثل باقي الرجال، وخيل إليها أنه بصمته هذا يعبر عن استيائه لفقرها، ربما كان يظن أنها غنية، ربما كان يطمع فيها، ربما، ربما.
ولم تطق إحسان مزيدا من الظنون؛ فوقفت وأمسكت حقيبتها، ونظرت إليه ثم قالت وهي تعطيه يدها: «طيب يا سعيد أنا مروحة البيت.»
Bog aan la aqoon