وكنا يومئذ مجمعين على أنه لا يجوز إقامة دولة يهودية في فلسطين، وكان من بين الحجج التي يقوم عليها رأينا أن إنشاء دولة على أساس ديني أمر لا يسيغه التفكير في العصر الحاضر، وأبديت هذا الرأي لصاحب فكرة الباكستان وقلت إنني أخشى أن نبدو متناقضين إذا نحن أيدنا رأيه في الوقت الذي نقاوم فيه إنشاء الدولة اليهودية، فباكستان التي يدعو إليها كانت الفكرة فيها قيام دولة من المسلمين مستقلة عن الهند، أي قيام دولة على أساس ديني.
ورد الرجل اعتراضي يومئذ قائلا:
شتان يا أخي بين الأمرين! فالدولة اليهودية التي يراد إنشاؤها يراد أن يجلب إليها اليهود من أطراف الأرض المختلفة في أوروبا وأمريكا ولا أدري من أين من القارات الأخرى، فهي إذن دولة لا وجود لها اليوم ويراد إكراه أصحاب فلسطين العرب على التخلي عن وطنهم لإنشاء هذه الدولة، أما الباكستان فأهلها هم أهلها، وهم المسلمون في بلاد الهند، وبين التقاليد والعقائد الإسلامية والهندوسية من التناقض ما يجعل عيش الفريقين معا ظلما على الأقلية، أي على المسلمين. فهم يريدون، من غير أن يضار الهندوس في شيء، أن يستقروا في بلادهم، وأن يكون معهم إخوانهم الذين يريدون الانضمام إليهم من أرجاء الهند، لا من بلاد أخرى، ليكون لهم جميعا من الحرية في آرائهم وعقائدهم وتقاليدهم ما يعانون اليوم تقييده ومعارضته. فنحن لا نريد أن ننشئ دولة من لا شيء، ولا نريد أن نغتصب أرض أحد، ولا نريد أن نجني على حرية أحد، وإنما نريد أن نهيئ لهؤلاء المسلمين - وعددهم مائة مليون - وسيلة صالحة وطبيعية للتمتع بحريتهم في عقائدهم وتقاليدهم من غير إضرار بأحد ولا اعتداء على أحد.
قال الرجل هذا الكلام مقتنعا به كل الاقتناع، مؤمنا به كل الإيمان، فانتقل إلينا إيمانه واقتناعه، وكتبت أؤيد رأيه، وكان ذلك طبيعيا، فقد استطاع القائد الأعظم أن ينقل هذا الاقتناع وهذا الإيمان من قبل إلى عشرات الملايين من مسلمي الهند في ذلك العهد، ثم استطاع أن ينقله إلى الحكومة البريطانية وإلى الهندوس من أهل الهند، وكذلك انتهى إلى أن أسس الباكستان.
ومن هذا يكون من غير الحق في شيء أن يقال إن جناح سعى إلى تقسيم الهند وإلى الاستقلال بالباكستان على أنقاض الوحدة الهندية تحقيقا لمطمع شخصي أو تعصبا لإخوانه المسلمين أو فرارا من الوحدة القومية التي تسوي بين العناصر والأديان.
ولكن جناح ألفى نفسه مضطرا في آخر الأمر إلى أن ينهج هذا الأسلوب وأن يشق الطريق الذي انتهى بقيام الباكستان، بعد أن رأى ألا جدوى من التعاون وألا سبيل إلى الحياة الحرة الكريمة إلا بتحقيق الانفصال ليستطيع المسلمون والهندوس أن يعيشوا في حسن جوار وفي تعاون، وليتمكن عشرات الملايين من المسلمين من أن ينهضوا من سباتهم وأن يلقوا عن كواهلهم عبء الجمود والتأخر الذي لا يمكن التخلص منه إلا إذا تحققت لهم حريتهم في عقيدتهم الإسلامية وفي شعائرهم وتقاليدهم ونوع حياتهم.
وقد استغرق هذا التطور في تفكير القائد الأعظم عشرات السنين ثم استقرت نتيجته في ذهنه واحتلت من قلبه مكان الإيمان، ذلك لأنه كان سياسيا عمليا، يؤمن بالمثل العليا ثم يلتمس لتحقيقها الوسائل الممكنة، ولا يكتفي بالدعوة إليها وإن لم تتيسر الوسائل لتحقيقها، ولعله آمن بهذه السياسة العملية بحكم وراثته ثم بحكم دراسته. •••
وكان جناح محاميا شديد الاعتزاز بكرامته، وقد حدث مرة أثناء مرافعته في إحدى القضايا أن قال له القاضي: أرجو أن تلاحظ أنك تترافع أمام قاض من الدرجة الأولى!
فما كان من جناح إلا أن صاح به: وأنت ... هل تظن أنك تخاطب محاميا من الدرجة الثالثة؟
وحدث مرة أن أخذ القاضي يلقي درسا على المحامين في ضرورة المحافظة على المواعيد، وكان جناح من بين المحامين الذين استمعوا لهذا الدرس، وكان يعرف أن لهذا القاضي الذي يقف من المحامين موقف المعلم الناصح ولد مستهتر لا يحافظ على الكلمة ولا على المواعيد ... فما كان من جناح إلا أن قال للقاضي قبل أن يتم نصحه للمحامين: ألم يكن الأجدر بك أن تلقي هذا الدرس في منزلك!
Bog aan la aqoon