كتاب التبصرة
للمؤيد بالله (ع) l
Bogga 29
قال السيد الإمام أبو الحسين أحمد بن الحسين بن هارون الحسني عليه السلام: الحمد لله على فواضل قسمه، وسوابغ نعمه، وصلواته على خيرته، محمد النبي وعترته.
[ التفكير فريضة إسلامية ]
اعلم أن أول ما يلزم المكلف هو النظر المفضي به إلى معرفة الله تبارك وتعالى، والذي يدل على ذلك أنه قد ثبت وجوب معرفة الله تعالى على جميع المكلفين، وثبت أن معرفة الله لا تحصل مع التكليف إلا بالنظر.
فإن قيل: ولم قلتم إن معرفة الله تعالى واجبة على جميع المكلفين؟
قيل له: لأنه قد ثبت أن معرفة الله لطف في فعل الواجبات وترك المقبحات، لأن الإنسان إذا عرف أن له صانعا مدبرا صنعه ودبره، كان أقرب إلى اجتناب القبائح اللوازم، وما كان لطفا في الواجبات وترك المقبحات كان واجبا.
فإن قيل: ولم قلتم إن معرفة الله تعالى لا تحصل ضرورة إلا بالنظر؟
قيل له: لأنه قد ثبت أن معرفة الله تعالى لا تحصل ضرورة، وثبت فساد التقليد فلم يبق إلا أن يكون النظر هو الذي يتوصل به إليها، ونجد أنفسنا في المعرفة بالله على خلاف ما نجدها في المعرفة بالمشاهدات.
فإن قيل: ولم قلتم إن التقليد فاسد؟
قيل له: لأن التقليد لو جاز لم يكن تقليد بعض المقلدين بأولى من تقليد غيره، وهذا يؤدي إلى أن يجوز تقليد من يقول بقدم العالم، كما يجوز تقليد من يقول بحدوثه، وتقليد كل من قال شيئا، كفرا كان ما قال أو إيمانا، وهذا معلوم الفساد، فثبت بذلك صحة ما قلناه.
Bogga 30
وقد أمر الله تعالى بالنظر في محكم كتابه، فقال : { قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون } [يونس:101]. وقد عنف على ترك النظر فقال عز من قائل: { أفلا ينظرون إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت ، وإلى الجبال كيف نصبت ، وإلى الأرض كيف سطحت } [الغاشية:17-20]. وقال: { أفلم يروا إلى ما بين أيديهم وما خلفهم من السماء والأرض } [سبأ:9]. وإحصاؤها وغير ذلك من الآيات التي يكثر عدها، ولا يمكن إحصاؤها.
فإن قيل: ما أنكرتم أنه تعالى أراد بالآيات التي تلوتموها نظر البصر؟
قيل له: هذا الذي ذكرت لا يصح، لأنا نعلم أن القوم الذين دعوا إلى النظر وعوتبوا على تركه، كانوا ينظرون بالأبصار إلى هذه الأشياء، فبان أن الدعاء إنما كان إلى النظر الذي هو الفكر.
Bogga 31
باب [ التوحيد ]
فإن قال قائل: فما النظر المفضي به إلى معرفة الله تعالى؟
قيل له: هو النظر فيما ذكره الله تعالى، حيث يقول: { إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون } [البقرة:164]. وقوله تعالى: { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } [الأنبياء:30]. وقوله تعالى: { ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين ، ثم جعلناه نطفة في قرار مكين ، ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون:12-14]. وغير ذلك من الآيات التي معناها معنى هذه الآيات.
وبيان ذلك أنا قد علمنا أن هذه الأجسام التي ذكرها الله تعالى في كتابه، لا بد أن تكون على أحوال لا يصح كونها عليها إلا بالفاعل المدبر، لعلمنا أن الكتابة لا تكون إلا من كاتب، ولا البناء إلا من بان، والتصوير لا يكون إلا من مصور، وقد ثبت أن الفاعل يجب أن يكون متقدما لفعله، فثبت أن الصانع يجب أن يكون متقدما لجميع هذه الأجسام، إذ قد ثبت أن هذه الأجسام لا تنفك من أحوال لا يجوز أن تكون عليها إلا بالصانع، وإذا ثبت تقدم الصانع لهذه الأجسام، ثبت (¬1) حدوثها، لأن من تأخر وجوده عن وجود غيره، فلا شك في حدوثه، وإذا ثبت حدوث الأجسام، وجب أن يكون الذي دبرها وأوجدها على تلك الأحوال، هو الذي أحدث عينها وفعلها، إذ الفعل لا بد له من فاعل على ما بينا.
Bogga 32
[ شواهد الحدوث ]
فإن قيل: وما هذه الأحول التي ادعيتم أن الأجسام لا يجوز انفكاكها منها؟
قيل له: هي الأحوال التي أثبتناها في صدر هذه الفصل، وهي كونها متحركة وساكنة، ومجتمعة ومتفرقة، وكون التراب ترابا، ثم كونه نطفة، ثم كونه مخلقة، ثم كونه مضغة، ثم كونه عظاما، ثم كسونا العظام لحما، ثم كون الإنسان طفلا، ثم كونه ناشئا، ثم كهلا، ثم مردودا (¬1) إلى أرذل العمر، فهذه الأحوال هي التي يعلم أن الأجسام لا تنفك من بعضها أو مثلها، وقد علمنا أنه لا يجوز أن تحصل عليها إلا بالفاعل المدبر، فوجب بهذه الجملة إثبات الصانع، فإذا عرف المكلف بما ذكرنا وقلنا من إثبات الصانع، وجب عليه أن يعلم أنه قادر، عالم، حي، سميع، بصير، قديم.
[ القادر ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه تعالى قادر؟
قيل له: الذي يدل على ذلك، أنا وجدنا في الشاهد من لا يتعذر
عليه الفعل مفارقا لمن يتعذر عليه، فلا بد من اختصاصه بصفة لكونه عليها فارق من يتعذر منه الفعل، فإذا ثبت ذلك وثبت أن صانع العالم لا يتعذر منه الفعل إذ قد بينا أنه هو الفاعل لهذا العالم ثبت اختصاصه بتلك الصفة، والقادر هو المختص بتلك الصفة، فثبت أنه تعالى قادر.
[ العالم ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه عالم؟
Bogga 33
قيل له: الدليل أنا وجدنا في الشاهد قادرا يتعذر منه الفعل المحكم المنسق المنتظم، وقادرا (¬2) لا يتعذر منه ذلك، فوجب أن يكون الذي لا يتعذر منه ذلك مختصا بصفة، لكونه عليها فارق من يتعذر عليه ذلك من القادرين، والعالم هو المختص بتلك الصفة، فإذا ثبت بذلك وثبت أن القديم تعالى قد صح منه الفعل المحكم المنسق المنتظم، صح اختصاصه بالصفة التي من اختص بها كان عالما، فوجب كونه تعالى عالما.
فإن قيل: ولم قلتم إن القديم تعالى قد صح منه الفعل المحكم المنسق المنتظم؟
قيل له: لما قد بيناه فيما مضى من جعله التراب نطفة، والنطفة علقة، والعلقة مضغة، والمضغة عظاما، ثم إنشاؤه إياها، يعني خلقا آخر، ولما علمنا من حسن خلقه وتركيبه للنجوم والأفلاك، وتسخيره الرياح والسحاب، وتقديره الشتاء والصيف وغير ذلك مما يتعذر عده، ولا يمكن حده.
[ الحي ]
فإن قيل: وما الدليل على أنه حي؟
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا في الشاهد موجودا، يتعذر كونه عالما قادرا، ويستحيل ذلك فيه، وموجودا لا يتعذر ذلك منه ولا يستحيل، فوجب أن يكون الموجود الذي يصح ذلك فيه ولا يستحيل، مختصا بصفة يفارق بها الموجود الذي يستحيل ذلك فيه، ولا يصح في الحي والمختص بتلك الصفة، فإذا صح ذلك ثبت ذلك، وثبت أن القديم تعالى قد صح كونه عالما قادرا، ولم يستحل ذلك فيه، صح اختصاصه بتلك الصفة، وإذا صح ذلك ثبت كونه حيا.
[ السميع البصير ]
فإن قيل: وما الدليل على أنه سميع بصير؟
قيل له: الدليل على ذلك أنا وجدنا في الشاهد من كان حيا، وارتفعت عنه الآفات، وجب كونه سميعا بصيرا مدركا للمدركات، ولم يكن الموجود لكونه كذلك أكثر من أنه حي لا آفة به، فإذا ثبت ذلك وثبت أن القديم لا آفة به، ثبت أنه سميع بصير مدرك للمدركات.
Bogga 34
[ القديم ]
فإن قيل: فما الدليل على أنه قديم؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه لا يخلو من أن يكون معدوما أو موجودا، أو محدثا أو قديما، وقد ثبت أنه لا يجوز أن يكون معدوما، لأن المعدوم يستحيل أن يكون عالما قادرا حيا، وقد دللنا على وجوب كونه عالما قادرا حيا، ولا يجوز أن يكون محدثا، لأنه لو كان محدثا لوجب أن يكون له صانع، وكان القول في صانعه كالقول فيه، وهذا يؤدي إلى إثبات صانعين محدثين لا نهاية لهم، وذلك محال، فثبت أنه تعالى قديم.
[ نفي المعاني في حق الله تعالى ]
فإن قيل: فهل تقولون أن الله عالم يعلم؟ وقادر يقدر؟ وحي بحياة؟ وسميع بسمع؟ وبصير ببصر؟ وقديم بقدم؟ أم تقولون إنه عالم لنفسه وقادر لنفسه؟!
قيل له: لا نقول إنه عالم بعلم، وكذلك القول في سائر الصفات لمعاني هي: العلم، والقدرة، والحياة، والسمع، والبصر، والقدم، لم تخل هذه المعاني من أن تكون قديمة؟ أو محدثة؟ أو معدومة؟ ولا يجوز أن تكون معدومة، لأن المعدوم لا نوجب أن يكون له حكم.
ولا يجوز أن تكون محدثة، لأنها لو كانت محدثة لوجب أن يكون القديم تعالى قبل حدوثها غير عالم، ولا قادر، ولا حي، ولا سميع، ولا بصير، ولا موجود. وإن (¬1) لم يكن قادرا ولا عالما ولا حيا ولا سميعا ولا بصيرا ولا موجودا، لم يصح منه إحداث هذه المعاني.
Bogga 35
ولا يجوز أن تكون قديمة، لأنها لو كانت قديمة لوجب أن تكون أمثال القديم تعالى وأشباهه، لأن كون القديم قديما من أخص أوصافه، وما يشارك الشيء في أخص أوصافه، وجب أن يكون مثله شبهه، فبطل بهذا أن يكون القديم تعالى موصوفا بهذه الصفات لمعاني، وثبت أنه قادر لنفسه، وعالم لنفسه، وبصير لنفسه، وقديم لنفسه. وإذا ثبت أنه عالم لنفسه، وجب أن يكون عالما بجميع المعلومات، إذ حكمه تعالى مع جميعها حكم واحد، وقد دل الله تعالى على ذلك بقوله: { وفوق كل ذي علم عليم } [يوسف:76]. فأخبر أن كل عالم بعلم فوقه عالم، فوجب أن يكون القديم تعالى عالما لا بعلم، وقوله تعالى: { أنزله بعلمه } [النساء:166]. لا يوجب إثبات العلم به، لأن معناه أنزله عالما به.
[ تنزيه الله عن شبه الخلق ]
فإن قيل: فهل يجوز عندكم أن يكون القديم يشبه شيئا من الأشياء؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه لو أشبه شيئا، لكان محدثا، لأن الذي يشبه المحدث يجب حدوثه، وقد دللنا على أنه تعالى قديم، وكل ما ذكرناه قد ورد به الكتاب، ونطق به القرآن، قال تعالى: { وكان الله قويا عزيزا } [الأحزاب:25]. وقال: { وكان الله بكل شيء عليما } [الأحزاب:40، الفتح:26]. وقال: { الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم } [البقرة:255]. وقال: { وكان الله سميعا بصيرا } [النساء:134]. وقال: { وفوق كل ذي علم عليم } [يوسف:76]. وقال تعالى: { ليس كمثله شيء وهو السميع البصير } [الشورى:11]. وقال: { هل تعلم له سميا } [مريم:65]. أي: مثلا ونظيرا. وقال: { ولم يكن له كفوا أحد } [الإخلاص:4].
[ تنزيه الله عن الحلول في الأماكن ]
فإن قيل: فهل يجوز على القديم تعالى الكون في شيء من الأماكن؟
قيل له: معاذ الله! بل ذلك محال لأن الكون في المكان يكون على أحد وجهين:
أحدهما: ككون الأجسام في الأماكن، وذلك لا يكون إلا بالمجاورة، وذلك دليل الحدوث.
Bogga 36
والثاني: كحلول (¬1) الأعراض في المحآل، وذلك أيضا دليل الحدوث، لأن الحلول لا يكون إلا بالحدوث.
ألا ترى أن ما استحال فيه الحدوث، استحال فيه الحلول! فإذا كان الكون في الأماكن لا يكون إلا على هذين الوجهين، وكان كل واحد منهما يدل على حدوث الكائن، وجب القضاء بأن القديم تعالى لا يجوز أن يكون في شيء من الأماكن وإذا ثبت هذا ثبت أنه يستحيل عليه تبارك وتعالى النزول، والصعود، والإنتقال، والإستقرار.
فإن سأل سائل: عن معنى قول المسلمين إن الله تعالى بكل مكان؟
قيل له: معناه أن الله تعالى حافظ لكل مكان، ومدبر له.
فإن قيل: ما معنى قوله تعالى: { الرحمن على العرش استوى } [طه:5] ؟
قيل له: معنى (¬2) الإستواء: هو الإستيلاء (¬3) والغلبة (¬4). وذلك مشهور في اللغة، والعرش قد يراد به الملك، وذلك مما لا يختلف فيه أهل اللغة.
Bogga 37
فإن قيل: فما تقولون في معنى قوله: { وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله } [الزخرف:84] ؟
قيل له: معناه: أنه هو الذي يستحق العبادة، يستحق أن يعبد في السماء والأرض، لأن الإله هو الذي يستحق العبادة، وهذا مشهور متعارف في ألفاظ الناس.
Bogga 44
ألا ترى أنهم يقولون: فلان أمير في بلد كذا، وبلد كذا. وفلان قاض في بلد كذا، وبلد كذا؟ ولا يريد أنه كائن في البلدان لأن ذلك يستحيل، وإنما يراد أن الأم له والقضاء في هذه له، فقد صح ما ذكرناه من التأويل.
[ الرؤية ]
فإن قيل: فهل تقولون إن الله تعالى يرى بالأبصار؟
قيل له: لا نقول ذلك، بل نحيله، والدلالة على ذلك، قول الله تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [الأنعام:103]. والإدراك بالأبصار هو الرؤية بالبصر عند أهل اللغة، فكأنه قال تبارك وتعالى: لا تراه (¬1)، فثبت لذلك صحة ما ذهبنا إليه، من نفي الرؤية عن الله عز وجل (¬2).
Bogga 45
فإن قيل: ما أنكرتم أن يكون تعالى يرى في الآخرة، لأنه ليس فيها نفي الرؤية في الآخرة؟
قيل له: لا يجوز ذلك، لأنه تعالى مدح نفسه بنفي الرؤية عنها، فيجب أن يكون إثباتها نقصا، والنقص لا يجوز على الله تعالى في الآخرة، ولا في الدنيا.
فإن قيل: فما الفصل بينكم وبين من قال: إن الله تعالى يجوز أن يرى، واحتج بقوله: { وجوه يومئذ ناضرة ، إلى ربها ناظرة } [القيامة:22-23]. كما استدللتم على نفي الرؤية، بقوله (¬1) تعالى: { لا تدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار } [الأنعام:103] ؟
Bogga 46
قيل له: إن النظر بالعين ليست حقيقة الرؤية، بل حقيقة الرؤية تقليب الحدقة في جهة المرئي طلبا لرؤيته، وإذا كان هذا هكذا، فظاهر الآية لا تدل على إثبات الرؤية، وتأويلها ما روي عن المفسرين، وهو: أنه إنما أراد به انتظار الثواب (¬2)، عند أهل اللغة يجوز أن تقول: ناظرة إلى الله، بمعنى ناظرة إلى ثوابه، على ضرب من التوسع، وأراد انتظاره الثواب، والنظر إليه، لأن النظر بمعنى الإنتظار مشهور عند أهل اللغة. ويجوز أن يقال ناظر إلى الله، بمعنى ناظر إلى ثوابه، على ضرب من التوسع، كما قال الله تعالى حاكيا عن إبراهيم عليه السلام: { إني ذاهب إلى ربي سيهدين } [الصافات:99]. أي: إلى حيث أمر ربي، فأما الأخبار المروية في إثبات الرؤية، فإن أكثرها ضعاف (¬1)، وقد بين ذلك العلماء في الكتب المؤلفة في هذا الباب، فإن صح منها شيء فالمراد بالرؤية هو العلم، وذلك غير مستنكر في اللغة (¬1).
Bogga 49
ألا ترى أن الله تعالى يقول: { ألم تر إلى ربك كيف مد الظل } [الفرقان:45]. يريد: ألم تعلم، وكذلك قوله تعالى: { ألم تر كيف فعل ربك بأصحاب الفيل } [الفيل:1]. وقوله تعالى: { أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون } [الأنبياء:30]. فبان (¬1) بهذه الآيات صحة ما ادعيناه من الرؤية، وقد تكون بمعنى العلم (¬2).
[ الله واحد ]
فإن قيل: ما الدليل على أن الله تعالى واحد؟
Bogga 55
قيل له: الدليل على ذلك، أنه لو كان معه ثاني لصح بينهما التمانع، وصحة التمانع تقضي عليهما، أو على أحدهما بالعجز والضعف، لأن المتمانعين إذا تمانعا، يمنع كل واحد منهما صاحبه، أو يكون (¬3) أحدهما يمنع صاحبه، فإن منع أحدهما صاحبه، وجب القضاء بالضعف على الممنوع، وإن منع كل واحد منهما صاحبه، وجب القضاء عليهما بالضعف، والإله لا يكون ضعيفا، فثبت أنه واحد لا ثاني معه. وقد نبه الله تعالى على معنى هذا الدليل بقوله: { قل لو كان معه آلهة كما يقولون إذا لابتغوا إلى ذي العرش سبيلا } [الإسراء:42]. وبقوله تعالى: { لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا } [الأنبياء:22]. وبقوله: {ما اتخذ الله من ولد وما كان معه من إله إذا لذهب كل إله بما خلق ولعلا بعضهم على بعض سبحان الله عما يصفون } [المؤمنون:91].
[ القرآن ]
فإن قيل: فما قولكم في القرآن؟
قيل له: نزعم أنه كلام الله، ووحيه ومستنزله، وأنه مخلوق، والدليل على ذلك أنه محدث، ولا محدث له إلا الله، وما أحدثه الله تعالى، فيجب أن يكون مخلوقا.
فإن قيل: ولم قلتم إنه محدث؟
قيل له: لأنه سور مفصلة، وله أول وآخر، ونصف وثلث وسبع، وما كان كذلك فيجب أن يكون محدثا، لأن كل ذلك شيء يستحيل على القديم تعالى، وأيضا فإنا قد بينا فيما تقدم من هذا الكتاب أن ما شارك القديم تعالى في كونه قديما فيجب أن يكون مثلا له، وقد بينا أن الإله لا مثل له، فوجب أن لا يكون القرآن قديما، وإن لم يكن قديما فوجب حدوثه، وقد قال الله تعالى وجل ذكره: { ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث إلا استمعوه وهم يلعبون } [الأنبياء:2]. وقال: { وما يأتيهم من ذكر من الرحمن محدث } [الشعراء:5]. والذكر هو القرآن.
ألا ترى إلى قول الله تعالى: { إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون } [الحجر:9] ؟
- - -
Bogga 56
باب [ العدل ]
[ الإرادة ]
اعلم أن أفعال القديم تعالى تحسن لوقوعها على وجه، لا تقع عليه (¬1) إلا إذا كان القديم تعالى مريدا، والذي يدل على ذلك، أنه تعالى قد ثبت أنه آمر ومخبر (¬2)، وقد ثبت أن الآمر لا يكون آمرا إلا بأن يكون مريدا للمأمور به، والمخبر (¬3) لا يكون مخبرا إلا إذا أراد إيقاع الحروف خبرا، فإذا ثبت ذلك ثبت أن القديم تعالى مريد.
فإن قيل: ولم قلتم إن الآمر لا يكون آمرا إلا إذا كان مريدا للمأمور به، والمخبر لا يكون مخبرا إلا إذا أراد إيقاع الحروف خبرا؟
قيل له: إنما قلنا ذلك لأن لفظ الأمر يصلح للتهدد كما يصلح للأمر (¬4)، فلا بد من وجه ما، له يكون الآمر (¬5) آمرا، وليس ذلك الوجه إلا كون الآمر مريدا للمأمور به، لأن سائر الأوصاف والمعاني لا تؤثر في ذلك، وكذلك القول في الخبر، لأن الخبر عن زيد بن عبد الله، مثل الخبر عن زيد بن خالد، بل اللفظتان واحدة، فلا بد من أمر ما، له يتعلق كل واجد من الخبرين بمخبره، وليس ذلك غير كون المخبر مريدا إيقاع الحروف خبرا، إذ سائر المعاني والأوصاف لا تؤثر فيه.
فإن قيل: فهل تقولون بأنه تعالى مريد بإرادة محدثة لنفسه (¬6)، أومريد بإرادة محدثة؟
Bogga 57
قيل له: نقول إنه مريد بإرادة محدثة (¬7)، ونحيل القول إنه مريد لنفسه، لأنه لو كان مريدا لنفسه لوجب أن يكون مريدا لجميع الإرادات، [وهذا] يؤدي أن يكون مريدا للضدين في حالة واحدة، وذلك محال، ويجب أن يكون الواحد منا إذا أراد أن يرزق (¬1) أموالا وأولادا، أن القديم أيضا مريدا (¬2) لذلك، وهذا فاسد، فثبت بطلان القول بأنه مريد لنفسه، وإذا بطل ذلك ثبت أنه مريد بإرادة محدثة.
[ مراد الله من المكلفين الطاعات ]
فإن قيل: ما الذي أراد الله تعالى من جميع المكلفين عندكم من الكافر، والفساق (¬3)؟
قيل له: الذي أراد الله تعالى من جميع المكلفين برهم وفاجرهم، مؤمنهم وكافرهم، هو الطاعات، الفرائض منها والنوافل، ولا يجوز أن يريد شيئا من القبائح.
Bogga 59
ألا ترى إلى قوله تعالى: { يريد الله ليبين لكم ويهديكم سنن الذين من قبلكم ويتوب عليكم والله عليم حكيم ، والله يريد أن يتوب عليكم ويريد الذين يتبعون الشهوات أن تميلوا ميلا عظيما ، يريد الله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا } [النساء:26-28]. وقال: { يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر } [البقرة:185]. وقال: { وما الله يريد ظلما للعباد } [غافر:31]. فنفى عن نفسه إرادة القبائح، وبين أنه مريد للطاعة، وكذب الله تعالى من أراد إضافة الشرك إلى الله ووبخهم على ذلك، فقال تعالى: { وقال الذين أشركوا لو شاء الله ما عبدنا من دونه من شيء نحن ولا آباؤنا ولا حرمنا من دونه من شيء كذلك فعل الذين من قبلهم فهل على الرسل إلا البلاغ المبين } [النحل:35]. وقال: { سيقول الذين أشركوا لو شاء الله ما أشركنا ولا آباؤنا ولا حرمنا من شيء كذلك كذب الذين من قبلهم حتى ذاقوا بأسنا قل هل عندكم من علم فتخرجوه لنا إن تتبعون إلا الظن وإن أنتم إلا تخرصون } [الأنعام:148]. ومما يدل على أن الله لا يريد القبائح أنه لو أرادها لوجب أن يكون العصاة مطيعين، وذلك محال، لأن المطيع إنما يكون مطيعا لوقوعه إذا فعل مراده (¬1)، وأيضا فإن إرادة القبيح قبيحة، والله تعالى لا يفعل القبائح، فثبت أنه لا يفعل إرادة الكفر والفسوق والمعاصي، فإذا لم يفعل إرادتها لم يكن مريدا لها، وليس يلزمنا ما تظنه المجبرة من أنا قد حكمنا على الله بالضعف، متى قلنا إنه غير مريد لما (¬2) وجد من القبائح، لأنه إذا وجد ما كان القديم غير (¬3) مريد له، لا يؤثر ذلك في أحواله.
ألا ترى أن كل من مضى من اليهود والنصارى إلى الكنائس والبيع، لا يوجب ضعفا للمسلمين والإمام، وإن كان ذلك غير مراد لهم، لأن ذلك لا يؤثر في أحوالهم.
فإن قيل: أوليس المسلمين قد قالوا ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. وهذا خلاف مذهبكم، لأن عندكم أن الله تعالى أراد الطاعات من الكفار ، مع أنها لم تكن، وهو غير مريد للمعاصي الكائنة منهم؟
قيل له: إن المسلمين أرادوا بذلك ما يريده الله تعالى من أفعال نفسه، دون أفعال غيره.
ألا ترى أن غرضهم بهذا القول وصف إقراره وثبات امتداحه، وقد علمنا أن وقوع ما يريده الواحد منا من أفعال عبادته، لا يدل على قدرته.
ألا ترى أن العبد قد يفعل ذلك مع ضعف سيده، وإنما يدل على اقتدار المريد ما يقع من المراد، إذا كان من أفعاله، فوجب أن يكون غرض المسلمين ما بيناه، فإذا صح ذلك لم يجب له فساد مذهبنا.
Bogga 60
فصل
[ الله غير مريد للقبائح ]
فإن سأل سائل فقال: ما الدليل على أن الله تعالى لا يفعل شيئا من القبائح؟
قيل له: الدليل على ذلك أنه تعالى قد ثبت:
استغناؤه عن جميع القبائح.
وكونه عالما بقبحها.
وعالم باستغنائه عنها.
والعالم بقبح القبيح متى استغنى عنه، لا يجوز أن يختاره على وجه من الوجوه.
فإن قيل: فلم قلتم إنه سبحانه مستغن عن جميع القبائح؟
قيل له: لأنه لا يخلو من أن يستحيل عليه عز وجل الشهوة ونفور النفس، أو لا يستحيلان عليه؟
فإن استحالا عليه ثبت استغناؤه عن جميع الأشياء، لأن المحتاج إنما يحتاج إلى إدراك ما يشتهيه، أو دفع ما تنفر نفسه عنه، فمن استحالت عليه الشهوة ونفور النفس، استحالت عليه الحاجة. والحي إذا استحالت عليه الحاجة ثبت استغناؤه عن الأشياء. فإن صح عليه الشهوة ونفور النفس تعالى عن ذلك استغنى بالحسن عن القبيح، لأن المحتاج ليس يحتاج إلى الشيء على الوجه الذي يقبح دون الوجه الذي يحسن، وإنما يحتاج إليه فقط. وفي كلا (¬1) الأمرين ثبوت استغناء القديم تعالى عن المقبحات.
فإن قيل: ولم قلتم إنه عالم بقبح المقبحات، وعالم باستغنائه عنها؟
قيل له: قد قدمنا الكلام في أنه تعالى لا يجوز أن يكون عالما بعلم، وإذا بطل أن يكون عالما بعلم، ثبت أنه تعالى عالم لنفسه، ومن حكم العالم لنفسه أن يعلم المعلومات كلها، على جميع الوجوه التي يصح أن تعلم عليها.
Bogga 61
فإن قيل: فهل تقولون إن ما يقبح عندكم فعله، يقبح من الله تعالى فعله؟
قيل له: نقول إنه يقبح فعله من القديم تعالى، متى فعله على الوجه الذي إذا فعلناه عليه قبح منا. والذي يدل على ذلك أن الذي يقبح إنما يقبح لصفة ترجع إليه، لا لصفة ترجع إلى الفاعل.
ألا ترى أن المؤمن (¬1) فيه صفاته الراجعة إليه، مثال ذلك أن الخبر يقبح لكونه كذبا، فلو خرج عن كونه كذبا لحسن، وكذلك الضرب، قد يقبح لتعريه من المنافع، فلو حصلت فيه المنافع لحسن.
فبان بذلك أن الموجب لقبح الفعل هو ما يرجع إلى الفعل من الأحكام، فإذا كان ذلك كذلك وجب أن يقبح من القديم تعالى ما يقبح منا، إذا فعله على الوجه الذي لكونه عليه قبح منا فعله.
[ هل يعذب الله من لا ذنب له ]
فإن قيل: فهل يجوز أن يعذب الله أطفال المشركين في الآخرة؟
قيل له: لهم لا يجوز.
فإن قيل: فما الدليل على ذلك؟
قيل له: لأنه لا يحسن أن يعاقب إلا من يستحق العقاب، بارتكاب المعاصي، أو بالإنصراف عن الواجبات، أو بفعل. وقد علمنا أن الأطفال لم يرتكبوا شيئا من المعاصي، ولا انصرفوا عن شيء من الواجبات، وقد (¬2) قال الله تعالى: { ولا تزر وازرة وزر أخرى } [الأنعام:164، الإسراء:15، فاطر:18، الزمر:7]. وقال: { ولا يظلم ربك أحدا } [الكهف:49]. ولا ظلم أقبح من تعذيب الطفل، ولا جناية له اكتسبها، ولا جريرة اقترفها، ولا واجبا تركه.
Bogga 62