Tabiciyyat Fi Cilm Kalam
الطبيعيات في علم الكلام: من الماضي إلى المستقبل
Noocyada
الإهداء
المقدمة
1 - علم الكلام نحو المستقبل ... لماذا؟
2 - علم الكلام نحو المستقبل، كيف ...؟
3 - الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس
4 - الطبيعيات ... من الكلام إلى الحكمة ... ولا فرق
5 - الكلام الجديد في الطبيعيات
ثبت المراجع
الإهداء
المقدمة
Bog aan la aqoon
1 - علم الكلام نحو المستقبل ... لماذا؟
2 - علم الكلام نحو المستقبل، كيف ...؟
3 - الطبيعيات: من الثيولوجيا إلى الأنطولوجيا وبالعكس
4 - الطبيعيات ... من الكلام إلى الحكمة ... ولا فرق
5 - الكلام الجديد في الطبيعيات
ثبت المراجع
الطبيعيات في علم الكلام
الطبيعيات في علم الكلام
من الماضي إلى المستقبل
تأليف
Bog aan la aqoon
أ.د. يمنى طريف الخولي
الإهداء
إلى درة عمري ... ومهجة نفسي
وزبد حصادي من الأيام ...
إلى ولدي ... وصديقي ... ... حكيم حاتم ...
أهدي هذا الكتاب ...
نشدانا لأن يحيا مستقبلا ...
أكثر تحقيقا لذاته القومية والحضارية ...
ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا .
ي. ط.
Bog aan la aqoon
المقدمة
الطبيعيات أو الفلسفة الطبيعية هي السلف التاريخي المباشر - وفي الآن نفسه الجذور الضاربة في البنية الثقافية - للعلم الطبيعي الذي يتربع على صدر نسق العلم الحديث، واحتل الموقع الاستراتيجي المعروف في مشروعه، هذا المشروع الذي اتسعت جنباته رويدا رويدا، حتى شملت كل فروع العلم؛ الفيزيوكيمياوية ثم الحيوية ثم الإنسانية، بفضل القيادة الناجحة للفيزياء الكلاسيكية النيوتونية، وفي مطالع القرن العشرين هبت ثورة النسبية والكوانتم (الكمومية) اللتين انتزعتا مقاليد السلطة الفيزيائية من النيوتونية، وكان هذا إيذانا بالتعملق المعاصر الرهيب للعلم الطبيعي، وبالنضج الثري الزاخر لفلسفة العلوم، حتى تعد من المنجزات اليانعة حقا للفكر الغربي الحديث؛ أوليست تقنينا لأصلاب أشد عناصر الحضارة الحديثة فاعلية واتقادا: العلم الحديث؟!
بيد أننا نحيا في عصر توظيف المعلومة، وليس مقبولا أن يقتصر بحثنا في فلسفة العلوم - التي هي غربية بقدر ما هي معاصرة ومستقبلية - على الدرس والنقل والترديد الأصم، بل لا بد من استيعاب هذا لتشغيله وتفعيله في واقعنا الحضاري، ويا حبذا لو جاء هذا التشغيل في رحاب ولخدمة الهاجس الملح إلحاحا على العقل العربي، منذ فجر يقظته الحديثة مع بدايات القرن التاسع عشر، وحتى الآن وما هو آت ... ألا وهو هاجس تجديد التراث وضخ الدماء في شرايينه، وبعث الحياة وعوامل النماء والتطور فيه، هذا الهاجس الذي تمخض عما يموج به الفكر العربي المعاصر من مشاريع شتى تهدف إلى تجاوز واقع مأزوم بآفاق فكر نهضوي، وكما سوف يتضح من السياق التالي، مثلت تلك المشاريع مددا قويا لهذا البحث، فقد حاول الاستفادة من معظمها، والذي تخلق في بقاع شتى من الوطن العربي/الثقافة العربية، بل ومواصلة مسيرتها!
إن جميعها - بطبيعة الإنجاز الفكري والفلسفي - مشاريع نخبوية مجردة بدرجات متفاوتة، تدور في رحى إشكالية العلاقة بين الفكر والواقع، بين مطرقة واقع موار وسندان فكر رهاج؛ لتبزغ الطبيعيات كبؤرة أولية متعينة للواقع، تميزت عن كل تعينات الواقع بأن العقل العلمي الممنهج استطاع أن يحكم قبضته عليها حين اقتنصها بين شباك النسق العلمي، التي تزداد ثقوبها ضيقا ودقة يوما بعد يوم، وإلى غير نهاية.
ويبرز علم الكلام بوصفه الانبثاقة الأولى للعقل العربي، لا سيما وأننا سوف نحاول الغوص في أعماقه، وتتبع توالي نصوصه فيما يختص بالطبيعيات، ثم يلزمنا منهاج البحث بتتبع مسار الطبيعيات إلى الفكر الفلسفي؛ هذا لأن الفلسفة الإسلامية - كما سوف نبين - لم تكن إلا تطويرا لعلم الكلام، ظهرت بعد أن تفاعل مع تراث الحضارات الأخرى، واستوفى نضجه، لتمثل الفلسفة مرحلة أعلى من مرحلة التمهيد الكلامي التي كانت المقدمة الضرورية لها. هكذا نجد معالجة الطبيعيات في علم الكلام يتضمن ركابها الطبيعيات في الفلسفة الإسلامية عند أساطين المشرق والمغرب معا، ثم أولئك المعروفين باسم الفلاسفة الطبيعيين الذين يتحملون عبء ما نسميه الآن تاريخ العلوم عند العرب.
إذن يتشكل متن هذا الكتاب من التفاعل والتحاور والتلاقح بين مقومات ثلاثة؛ هي أولا: فلسفة العلوم ومناهجها. وثانيا: نصوص تراثنا القديم الكلامي والفلسفي حيثما تتموضع الطبيعيات فيه. وثالثا: الفكر العربي المعاصر؛ إذ تتيح مشكلة الطبيعيات بالذات أن تتأتى محاولة الإسهام فيه منطلقة من كنانة فلسفة العلوم.
1
وأخيرا، لئن كانت غايتنا هي الطبيعيات في علم الكلام، فلا شك أن ثمة مبررات للتمسك بأن روح العصر، التي يتوجب استقطابها على كل تجديد وكل تفكير مستقبلي، إنما تتمركز في الطبيعيات؛ لأن العلم الطبيعي دون سواه - دون العلوم الرياضية التي عرف العقل البشري روعة تعملقها منذ ما قبل الميلاد، ودونا عن العلوم الإنسانية التي يشكل تخلفها النسبي مشكلة - هو الذي صنع عصر العلم، إنه العلم الطبيعي الحديث الذي أنجبه العصر الحديث ليصنع العالم الحديث.
وبنماء هذا العلم الطبيعي وتطوره، وتطور تقاناته وأجهزته، نمت وتطورت فروع العلم الأخرى، وتطور وتغير كل شيء؛ بدءا من المثل العقلية وانتهاء بواقع الحياة اليومية، مرورا بأشكال الصراع الطبقي؛ مما أدى إلى عصرنا هذا الذي جعل جدلية العلاقة مع الطبيعة، والسيطرة عليها وصيانتها بيئيا، والحفاظ على مقدراتها، هو الحلبة الكبرى لمعرفة الصراع والتفوق بين الحضارات. فهل نتوانى عن البحث في تأصيل وتطوير وضعية الطبيعيات في منظومتنا الثقافية وبنيتنا الحضارية؟!
وكان من الضروري أن تمثل فلسفة العلوم المدخل لهذا، باعتبارها التمثيل العيني الرسمي والشرعي، وربما الوحيد، للتفكير المعاصر في الطبيعة، إن رمنا قهرا لتحدياتنا وتقدما نريد من علم الكلام الجديد أن يكون إطارا أيديولوجيا له، فنسير بمجامع مقومات حضارتنا نحو شق أجواز المستقبل.
Bog aan la aqoon
وبالله قصد السبيل.
الفصل الأول
علم الكلام نحو المستقبل ... لماذا؟
(1) في ضرورة التجديد
إن البحث في بعث وتجديد معامل أصالتنا، أو بمصطلح أفضل خصوصيتنا الحضارية
1 - ولا مشاحة في الألفاظ كما يقولون - يكاد يكون فرض عين على المعنيين بالفكر الفلسفي فينا، ولئن بدأ هذا الهاجس يسيطر في مطالع يقظتنا ونهضتنا الحديثة منذ بدايات القرن الماضي، فإنه يزداد إلحاحا؛ بعد أن ماهت الفوارق بين التبعية والاستقلال الحضاري، وترسم بديلا موقف هامشي هو موقف التنازلات التي أصبحت تلامس حدود ثوابت الهوية، ووضع القومية موضع الاستفهام، والعروبة موضع التشكيك، والإسلام رديفا للرجعية، ولم تبق إلا خطوة واحدة ونتساءل: ما الوطن وما الوطنية؟!
في مثل هذا الموقف يصبح تحديث الأصالة، أو التجديد في معامل خصوصيتنا، بمثابة طوق النجاة لنا من الانسحاق الحضاري والضياع الثقافي في خضم ما نعانيه من انخفاض معدلات التنمية في الدول العربية الفقيرة والثرية، واحتلال الأراضي ونهب الثروات وعلو الصهيونية، هبوط الوعي وتراجع المشروع القومي، وشيوع التطرف وذيوع التعصب، وانحسار العقلانية وكلالة البحث العلمي.
وقبل كل هذا وبعده، العجز عن الخروج من التبعية للغرب، وانحناءة الرأس لنزعته الإمبريالية، وهو - بمعية ربيبته وحليفته الصهيونية - يتخذ من تقدمنا وسؤددنا موقفا منذ أن تحول البحر المتوسط إلى بحيرة إسلامية تجوبها الألوية العربية المرتفعة، فتختنق موانئ أوروبا ويذبل اقتصادها، يعتريها الوهن والذبول والاصفرار، وتدخل في ليل قروسطيتها الطويل.
نذكر في هذا الصدد المؤرخ البلجيكي هنري بيرن
H. Pirnne (1826-1935)، فقد اشتهر بتفسيراته الثاقبة للعصور الوسطى الأوروبية وعزو تدهورها إلى التقدم السريع للإسلام الذي أدى إلى الانقطاع عن التراث الإغريقي والروماني، وإلى نهاية وحدة حوض المتوسط التي لم تعد إلا مع الحروب الصليبية. وفي كتابه الشهير «محمد وشارلمان» تبدأ العصور - لا بسقوط الإمبراطورية الرومانية، بل - بالفتوحات العربية وسيطرتها على مرافئ البحر المتوسط الجنوبية وطرق الملاحة والطرق البرية إلى الشرقين الأوسط والأقصى، التي كانت سببا في ثراء اليونان قديما، ثم ثراء إيطاليا ووسط أوروبا حديثا.
Bog aan la aqoon
هذه السيطرة الإسلامية عزلت أوروبا عن مصادر الثروات التجارية، فتدهور اقتصادها ليبدأ عصرها الوسيط. والدليل على هذا - فيما يرى بيرن - أنه انتهى باكتشاف إيطاليا لطرق برية إلى الصين في القرن الثالث عشر، واكتشاف البرتغال لرأس الرجاء الصالح، ووصولهم إلى شرق آسيا دون الاحتكاك بالمسلمين. وبالمثل يقول مؤرخ العلم الكبير
J. J. Crowther : «بقضاء المسلمين على الملاحة المسيحية في البحر الأبيض المتوسط قضوا على التجارة الخارجية والمواصلات في غرب أوروبا، وذبلت موان كثيرة مثل مارسيليا ومدن تجارية على الأنهار في داخل البلاد؛ لانعدام موارد التجارة، وتلاشي ما بقي من الحكومة المركزية الرومانية، وأغلقت مكاتب الإدارة والمحاكم والمدارس والمحطات القديمة، واختنقت دعائم النظام الإمبراطوري، ولم يبق من الطبقات الاجتماعية إلا كبار الملاك أبناء الأعيان وقوم بعضه من الفلاحين وبعضه من الأحرار المرتبطين بالأرض، وماتت الصناعة لعدم تموينها بما تحتاج إليه، وانتهت حركة الإنشاء والعمل إذا استثنينا الحاجيات الضئيلة التي تتطلبها الحياة المنزلية، وبذلك لم يعد هناك من حاجة لطلب العبيد - الآلات الصحيحة للعمل - وأصبحت الحالة لا تتطلب إلا المشتغلين بالزراعة ...»
2
على الإجمال سجى على أوروبا عصرها الوسيط.
منذ ذلك الزمان البعيد والحضارة الغربية تدرك خطورة أي تفوق عربي إسلامي، وتشهر العداء بالحملات الصليبية التي بدأت في القرن الحادي عشر، «وتشكل العدوانية العنصرية الصهيونية الحلقة المعاصرة من هذه الموجة.»
3
ويعلم الله وحده متى ستنتهي حلقاتها بعد أن ساد مؤخرا الحديث عن الثقافة باعتبارها المحور الأساسي للصراعات الدولية القادمة، فاعتمدت السياسات الغربية منذ مطالع التسعينيات في القرن العشرين ما سمي «بالحرب الثقافية»
4
ضد الثقافات المغايرة على العموم، والثقافة الإسلامية على الخصوص؛ بهدف تحجيمها والحيلولة دون احتلالها ناصية العلم والتقانة (التكنولوجيا). وفي تفسير هذا تتقدم دراسات إدوارد سعيد لتجيب على السؤال: لماذا كان الإسلام فقط هو الدين الوحيد الذي يمثل تقدمه ونهضته تهديدا خطيرا للحضارة الغربية وسطوتها وقيمها؟
وتشهد أواخر المائة التي تمثل القرن العشرين كارثة الخليج التسعينية، التي لا تقل بشاعة عن كارثة السابع والستين؛ إذ يممنا الأبصار شطر العواقب الوخيمة والنتائج الوبيلة. وعلى كثرة تناحرات العرب وتطاحنهم، بل وتقاتلهم منذ حرب البسوس وحروب القبائل في الجاهلية، حتى الفتنة الكبرى وحروب الدويلات الإسلامية، وصولا إلى حزيران الأسود وأيلول الأسود وآب الأسود ... وكل شهور العرب السوداء، بلون الظلام والتخلف، بلون البغضاء والفرقة بين الأشقاء ... على كثرة هذا كانت مأساة الخليج كارثة لم يكرث التاريخ بمثلها من قبل.
Bog aan la aqoon
وقد توالت تداعياتها المريرة، وأخطرها إصابة القومية بطعنة نجلاء، فتراجعت الوحدوية كحلم وكواقع، كأيديولوجيا وكطوبى لصالح القطرية. ويبقى أمر تداعياتها في حلوق المثقفين وكل مهموم بوعي الأمة، إنما هو تلك النزعة الانهزامية إزاء الحضارة الغربية، والتي بلغت حد السير في ركاب المشروع الصهيوني تلمسا لعوامل الاستقرار والنماء! في حضارة شرق أوسطية لا غربية ولا عربية، لتكتسح بقايا المخلفات القومية. وبعد طول النضال ضد الاستعمار ومباركة الكفاح من أجل الاستقلال ... صارت الهيمنة الغربية تجلب وتشترى، وصرنا نتوخى سبل الاستسلام لها كي تحل صراعاتنا ومشاكلنا، وكأننا نتشبث بموقع على هامش الحضارة الغربية، لنلتقط فتات موائدها، دون مشاركة في صنع صنوفها الشهية البهية.
شهد القرنان الماضيان عزما وحماسا للإحياء والتجديد والتنوير والتثوير، وقد علا الوطيس في أعقاب ثورة 1919، وشهد أجواء مواتية في العصر الذهبي لثورة يوليو قبل فاجعة 1967. وعلى أية حال كان قد استمر دائما بدرجات متفاوتة، ثم أوشك أن يخبو الآن، وتطفو على السطح نوبات تشنج الفرار المخبول إلى الماضي بقضه وقضيضه، وتتزايد حميتها، ربما كرد فعل عكسي للأحداث التي تترى ترسيخا للتبعية للغرب والدوران في فلكه، لا سيما بعد انهيار القوة العالمية المناوئة؛ الاتحاد السوفييتي. يحدث هذا في أواخر المائة الميلادية العشرينية، التي تشهد مراكز توهج حضارية أخرى في شرق آسيا، تغلبت على أوروبا وأمريكا في معدلات التنمية والتنهيض. •••
يصعب اعتبار محنتنا الراهنة أمرا طارئا، إذا تذكرنا كتاب الإمام جلال الدين السيوطي (911ه): «التنبئة بمن يبعث الله على رأس كل مائة»، وهو يقوم على أن المحن الاجتماعية تقتضي التجديد، جبرا لما حصل من الوهن بالمحن. إنهم يعدون محن الظلم السياسي والاجتماعي على رءوس المئين، فيذكرون الحجاج ومحنة خلق القرآن، وخروج القرامطة وأفاعيل الحاكم بأمر الله، واستيلاء الفرنج على كثير من البلاد الشامية ومن بينها بيت المقدس ... ويعدون على رأس كل قرن محنة.
5
وحينما تكون المحنة دهماء - من قبيل استيلاء الفرنج على بيت المقدس - فإننا نجد أستاذ الأصوليين في التجديد وأستاذ المجددين في الأصولية الشيخ أمين الخولي يفضل مجددا في أصول العقائد - هو متكلم - على مجدد في الفروع والعبادات - هو فقيه.
يعترض أمين الخولي بشدة على قول لشيخ الأزهر يقصر فيه التطور على أحكام العبادات، وينأى به عن الأصول والعقائد، مؤكدا أن التطور سنة شاملة، والقرآن يقرر أنه بالتغير يعامل المتغير، فيقول الخولي: «كل شيء يتغير مع الزمن، لا سيما المتطاول منه، تتغير صورته الذهنية ومفهومه العقلي، ويتغير تبعا لذلك وقعه على النفس، ويتغير أيضا التعبير عنه والتمثل له، وكل أولئك تغيرات تطرأ على أي شيء، ويجب على صاحب الدين أن يقدرها، فيغير تعبيره وعرضه واستدلاله.»
6
إن التغير وبالتالي التجديد سنة مقررة، وأصل ثابت بينه الرسول.
7
الإمام السيوطي يستهل كتابه المذكور «التنبئة» بقوله: «الحمد لله الذي خص هذه الأمة الشريفة بخصائص واضحة للمجتهدين، وبعث على رأس كل مائة سنة من يجدد لها أمر الدين.» ويقول: لا يجوز خلو العصر من مجتهد، واستعاذ بالله من صيرورة الأمر إلى هذا الحد!
Bog aan la aqoon
8
ولما كان التغير والتجديد أصلا ثابتا في العقيدة، فإنه بدوره أمر واقع في الحياة الاعتقادية إبان القرون الأولى للحضارة الإسلامية وعصرها الذهبي، حيث تتكشف اختلافات، بل صراعات جمة حول العقيدة؛ ومن العقائد ما بلغ الاختلاف حولها حد سفك الدماء كالذات والصفات وخلق القرآن. وبالطبع ليس مثل هذا التغيير - ولا موضوعاته أصلا وفروعا - هو المنشود؛ ولكن المهم - كما يقول أمين الخولي - أنه بيان لإمكانية الاختلاف، وبالتالي قابلية التطوير والتجديد، فينتهي الخولي إلى أن: «تطور العقائد ممكن، وهو اليوم واجب لحاجة الحياة إليه، وحاجة الدين إلى تقريره.»
9
والتجديد قد يكون دوريا مع التغيرات الدورية، وقد يكون جذريا مع المحن عند رءوس المئين، وعن مثل هذا التجديد الجذري المستجيب لاحتياجات الواقع، يقول الخولي: «إن ذلك التجديد في رءوس القرون هو العمل الثوري الكبير الذي تحتاجه الأمة، كأنما هو ثورة اجتماعية دورية يقوم بها عارف بالحياة متصل بها وعميق الفكرة عنها.»
10
وتحتاجه الأمة الآن أكثر من احتياجها إياه في أية مرحلة أخرى، أو على رأس أية مائة سابقة، هجرية أو ميلادية، وفي مواجهة جحافل التبعية والاستسلام التي استهللنا بها الحديث تلح الحاجة إلى إعادة قراءة أصولنا الدينية قراءة تاريخية علمية وتجديدية، لا أن ننفصل عنها أو نتنكر لها، إمعانا في الاستسلام والتبعية، هذا ما يمليه واقعنا، ومن زاوية الفكر: «الدين يبقى في حاجة دائما إلى فكر ثوري الطبيعة والمناهج؛ ليحدث فيه الثورة من داخل، خصوصا متى كانت عناصر الثورة في أصوله نصا ومنهجا وممارسة. وهي كذلك في الدين الإسلامي ... عنيت بها العقلانية والعلمية والاجتهادية ... غير أن السياسة التي سادت باسم الدين كممتها وأطفأتها ضمانا لصالح أربابها.»
11
وقد بات من الضروري إحياؤها؛ استنقاذا للوعي وللشخصية القومية. من الضروري تجديد منطلقاتنا الفكرية كي تشق طريقها نحو المستقبل.
إن التجديد ينصب في الموقفين القومي العروبي والإسلامي على السواء، فالعروبة تقع من الإسلام موقع سويداء القلب ، والإسلام يقع منها موقع آفاق الروح، والامتداد الحضاري. الأهم أن كليهما - القومي والإسلامي - ينطلق موتورا من نفس الميراث الاستعماري، ويرابض في نفس خندق مواجهة التغريب وذوبان الشخصية والخصوصية في محاولات الغرب الدءوبة لاستقطاب العالم بأسره تحت لواء ثقافته التي يجد في الزعم بأنها عالمية.
وسواء أكنا قوميين أو إسلاميين نتفق جميعا على ضرورة العمل من أجل انبعاثة روح حضارتنا وتأكيدها في مواجهة الآخر الغربي المسيطر، حتى إن عبد الله العروي - وبعد أن حمل كتابه «العرب والفكر التاريخي» تسليما بهيمنة المشروع الثقافي الغربي - يعود في عمل آخر ليشير إلى أن «الانبعاث لا يعني إحياء إنجازات الماضي بقدر ما يعني استعادة العرب للمركز القيادي الذي احتلوه فيما سبق بطول الوطن العربي وعرضه.»
Bog aan la aqoon
12
إنها استعادة الانبعاث للفاعلية في المكان، بمعنى استغلاله علميا وتسخيره والسيطرة والاستقلال به، واستعادة الانبعاث للفاعلية في الزمان، بمعنى فاعلية الأمة في مواجهاتها ومحاوراتها مع الأمم الأخرى، وبالتالي إثبات وجودها الحضاري والتاريخي والوطني والإنساني؛ على الإجمال الانبعاث هو انبعاثه روح الحضارة. وحين يطرح العروي السؤال: ما هي روح الحضارة الإسلامية؟ يخلص إلى أن: «الخوض في مسألة روح الحضارة ينتهي حتما إلى تأسيس علم كلام مستحدث.»
13 (2) علم الكلام ... أيديولوجيا
في مثل هذه المقاربات لصلب ثقافتنا - أو حضارتنا، وأيضا لا مشاحة في الألفاظ - كان لا بد وأن يتبوأر علم الكلام الذي هو نبتة إسلامية أصيلة، نشأ قبل عصر الترجمة، قبل التأثر بالفلسفة اليونانية، كأول محاولة للتعبير عن النصوص الدينية وفهمها فهما عقليا خالصا، وتحويلها إلى معان كحركة طبيعية في تجاوز النص الديني إلى المعنى العقلي،
14
فكان بحق أوسع وأهم المجالات لما أسماه محمد عابد الجابري «العقلانية العربية الإسلامية»، أو أنه - كما رأى الشيخ مصطفى عبد الرزاق - الفلسفة الإسلامية الشاملة، حتى لعلم أصول الفقه بكل تألقه المنهجي.
إن العرب في جاهليتهم لم يعرفوا الفلسفة البتة، هذا صحيح؛ لأنهم ببساطة «لم يعنوا بأول أدوات الحضارة النظرية وهي التدوين وتأليف الكتب.»
15
ولكن طويلا ما رددنا أن حركة التفلسف العربية - فيما بعد - بدأت بالترجمة، واستقر هذا في وعينا كبديهية أولى في درسنا للفلسفة الإسلامية، وبالطبع لا جدال في أهمية وفاعلية حركة الترجمة، ولكن أن تكون هي نقطة البدء والمحرك الأول، فهذا يعني أن الفلسفة الإسلامية محض نتاج للمؤثر الخارجي اليوناني، فتكون أصلا وامتدادا في وضع المنفعل المتلقي، ويظل الغرب وتراثه ابتداء وأبدا في وضع الفاعل الملقن، وتتأكد مركزيتهم وهامشيتنا، وكما يقول حسين مروة عن الزعم بانفعال الفكر العربي الإسلامي بالمصادر الخارجية: «الانفعال وحسب يتضمن القول بأن المنفعل تابع ومقلد وناقل فحسب دون إبداع.»
16
Bog aan la aqoon
إن نشأة علم الكلام في التربية الإسلامية ونموه في مناخها الموار الفائر، بفعل مكوناتها وصراعاتها، حتى وصل بفضل عوامل عديدة، منها حركة الترجمة، إلى طور الفلسفة الإسلامية، يطيح بذلك الوهم الذي يجعلنا منفعلين فحسب، ومن الضروري هنا الإشارة إلى لفتة حسين مروة الثاقبة، حين أوضح بالتفصيل المدروس كيف أن المحرك الأول للعقل العربي، وبالتالي النقطة الأولى المفضية للفلسفة الإسلامية لم تكن حركة الترجمة، بل كانت عقيدة الجبر التي رفعها الأمويون لتبرير حكمهم الجائر القائم على الدم الطاهر المراق، وبالتالي ظهرت الثورة عليهم في شكل رفض أيديولوجيتهم السلطوية؛ أي رفض عقيدة الجبر على يد الثالوث من شهداء القدرية أو الحرية: معبد الجهني وعمرو القصاص وغيلان الدمشقي، الذين هم أسلاف المعتزلة. والمعتزلة بدورهم أسلاف الفلاسفة الإسلاميين.
17
ومن هذه الثورة الشعبية ضد السلطة الجائرة، أو هذا الصراع الأيديولوجي بين الجبرية والقدرية في الربع الأخير من القرن الهجري الأول، بدأت رحلة العقل العربي إلى عالم التفلسف مصداقا للقول الشهير: تاريخ الفلسفة هو تاريخ الحرية.
بكل هذا الدور الحاسم والفعالية الشاملة لعلم الكلام، ولأنه أصيل، بمعنى الكلمة وخصوصي، تخلق في رحم الحضارة الإسلامية، وأيضا لأنه يدور بصورة أو بأخرى حول التنظير العقلي للعقائد الإسلامية التي هي المخزون النفسي والبناء الشعوري للجماهير، النسيج القيمي، ملامح المجتمع وقسماته وأطر معاييره ... على الإجمال الموجهات العامة للوعي وللسلوك، فقد أصبح التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، لا سيما وأن علم الكلام بالذات، ودونا عن سائر علوم تراثنا القديم، هو الذي نشأ في أتون الصراع السياسي ، وأن المتكلمين كانوا دائما هم أيديولوجيو الدول الإسلامية. المعتزلة جندتهم الدولة العباسية الأولى في حربها ضد خطر الشعوبيات عليها، وما حملته من تيارات فكرية مناهضة للعقلية الإسلامية كالمانوية والمجوسية والغنوصية؛ «فكان المعتزلة هم أيديولوجيو الدولة آنذاك، يعملون على نشر وتكريس العقل الديني الإسلامي، وبالتالي سلطة الدولة.»
18
ولما تعاظم شأن المعتزلة - لتعاظم شأن العقل معهم - وقوي بناؤهم الأيديولوجي وبات خطرا يهدد الدولة الاستبدادية التي بدأت عوامل الضعف والتفكك تتسرب إليها، نهض الأشاعرة للرد عليهم وتحجيمهم، فأصبح الأشاعرة أيديولوجيي الدولة الإسلامية في العصر العباسي الثاني وما تلاه. ومن قبل حين تكلم الإمام جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبي طالب (83-148ه) أسس جعفر بكلامه أيديولوجية الدولة الشيعية، وقد كان للشيعة دورهم في نشأة علم الكلام وفي تطور مباحثه.
لقد تشكل علم الكلام كاستجابة للمشكل السياسي وللمتغيرات الحضارية التي لا تنفصل بدورها عن الفتوحات العسكرية والامتداد السياسي. «كانت المواقف السياسية يبحث لها عن سند عام في الدين، كان ذلك أولى الخطوات التنظيرية التي أسست ما سيطلق عليه فيما بعد «علم الكلام». إذن فعلم الكلام في حقيقته التاريخية لم يكن مجرد كلام في العقيدة، بل كان ممارسة للسياسة في الدين.»
19
على الإجمال؛ أتى علم الكلام القديم نتاجا لتفاعل ثلاثة مقومات، هي: العقائد، المعترك السياسي، العقل الفلسفي أو على الأقل النظري.
العقائد: أولا هي صلب الأيديولوجيا الإسلامية ونخاعها، وثانيا لا تكتسب الجماعة هويتها إلا من خلال الهوية السياسية، وبعد رسوخ مفهوم الدولة في العصر الحديث؛ فإن الأيديولوجيا الآن لا تنفصل البتة عن السياسة، ولا يتضح دورها إلا من خلالها، «وقد احتفظ مفهوم الأيديولوجيا دائما، ورغم التغيرات في محتواه، بنفس المعيار السياسي للحقيقة والواقع.»
Bog aan la aqoon
20
وثالثا سوف نرى لاحقا أن الأيديولوجيا إن أريد لها النماء والصيرورة والفاعلية والمواءمة مع المتغيرات، فلا مندوحة لها عن الاستعانة مجددا بالتنظير وبالعقل الفلسفي، لكل ذلك يغدو مشروعا أن نضع علم الكلام في وضع الإنابة ما دمنا بصدد المشكل الأيديولوجي؛ إقرارا بشمولية الأيديولوجيا للخصوصية الحضارية . •••
ومهما تصاعد الجدل حول مصطلح «الأيديولوجيا» فإنها تظل دائما حاجة وضرورة ملازمة للوجود الإنساني، من حيث إنها التعبير عن معتقدات الجماعة التي تجعلها «جماعة» ذات هوية، وليست مجرد حاصل جمع آحاد الأفراد. ولئن كانت الأيديولوجيا منظومة نظرية؛ فإنها لا تتناهى تجريديا، بل لا بد لها أن تأتي تعبيرا عن واقعات جماعية محددة ... عن معتقداتها المتجهة نحو مصالحها اتجاها ينبع من متعينات واقعها، مما يجعل الأيديولوجيا حاملة لإمكانيات الحركية والتغيير والتطوير نحو مثاليات الجماعة وطموحاتها. إن بها منظومة فكرية تدعو إلى تفسير العالم وتغييره في آن واحد، من هنا كانت الأيديولوجيا متضافرة دائما مع الطوباوية أو اليوتوبية
Utopism
وتصور ما ينبغي أن يكون، ولئن كانت الأيديولوجيا - كما أوضح كارل مانهايم - تتعايش مع الحالة الراهنة في المجتمع، بينما الطوباوية دائما في وضع التعارض مع الحالة الراهنة، فإن العنصر الأيديولوجي والعنصر الطوباوي في الفكر الإنساني لا يولدان منفصلين عن بعضهما؛ طوباويات الطبقات الصاعدة كثيرا ما تتحول إلى أيديولوجيا، «ومعيار التفريق بينهما هو درجة تحقيق الطوباوية في التاريخ وتحولها إلى أيديولوجيا.»
21
لذلك اعتبر إمجه
Emge
اليوتوبيا - أو الطوباوية - أيديولوجيا مرئية يتوقع حدوثها، إنها تسعى لتحقيق النظام الاجتماعي الذي ترسم معالمه، فتطالب بتغيير جذري للعلاقات المجتمعية والسياسية، تنفي أوضاعا راهنة وتستحث نظاما جديدا، فيقول الفيلسوف البولاني الماركسي كولاكوفسكي: إن اليوتوبيا قوة حقيقية، إنها المثل الأعلى لنظم جديدة والهدف المستكن لواقع تاريخي، ولكنها في الوقت نفسه أداة للتأثير في الواقع، ولتخطيط العمل المجتمعي بصورة مسبقة.
22
Bog aan la aqoon
وفي كل حال تنطلق اليوتوبيا - كما الأيديولوجيا - من موقف اجتماعي معين وتحتوي على حقائق تاريخية معينة - كما أوضح إرنست بلوخ
E. Bloch . وبهذا التضافر مع اليوتوبيا أو الطوبى، تحمل الأيديولوجيا قوة لتأكيد وترسيخ المجتمع، كما يراها البعض كمانهايم، من حيث تحمل قوة دافعية لحركيته، كما يراها البعض الآخر كجورج سوريل.
ونرجئ الآن مسألة تقابل وتصارع الأيديولوجيا مع العلم التجريبي
23
أو مع الفلسفة؛ إذ ها هنا يهمنا فقط وظيفتها، والتي أكد عليها لويس ألتوسير
L. Althusser
تأكيدا، ربما لأنها تماثل الوظيفة المعرفية للعلم التجريبي؛ إذ يقدم العلم إطارا لتعقل حوادث الطبيعة وتفهمها تمهيدا للسيطرة عليها، كذلك تقدم الأيديولوجيا إطارا لتمثل العلاقات الاجتماعية وتنظيمها، بل وربما القدرة التوجيهية لها، بمقتضى منطق أو قاعدة أو مبدأ أو قيمة، يتواضع الناس عليها، ويحصل الإجماع بينهم على اعتمادها، وهذا أحد الأسباب القوية التي تؤدي إلى صمود الدين وخلوده على الرغم من غزوات العقلانية وبطولات العلم؛ وذلك لأن الدين نجح كأيديولوجيا في تزويد الناس برؤية متجانسة تحقق لهم التوازن الذاتي أمام الطبيعة والمحيط الاجتماعي، وتمنحهم قواعد وأطر وأدوات لتنظيم وجودهم.
24
ومن ناحية أخرى يمكن الدخول في مقاربة ومقارنة مثمرة وبناءة لعلاقة الأيديولوجيا بالفلسفة؛ فالأولى تسعى إلى غاية اجتماعية قومية محدودة، بينما تسعى الثانية إلى غاية إنسانية عامة شاملة. لكن الفلسفة كأي نتاج اجتماعي ما كان لها أن توجد إلا من خلال أيديولوجيا، كما أن النظر الفلسفي يبقى ضرورة للأيديولوجيا في إثارته الأسئلة الجوهرية، وتعيين المشكلات الأولية التي منها تتفرع المشكلات الثانوية. وحق القول إنه: «يقي الأيديولوجيا مغبة السقوط لعدم تمييزها بين الأصول والفروع وبين الكليات والجزئيات، ويدفعها إلى تجنب الاكتفاء بالإجابة على التساؤلات دون النفاذ إلى الأعمق والأشمل من المعطيات الحاضرة والماضية، والنظر الفلسفي في ذلك يجرد الأيديولوجيا من مثال الإطلاقية التي تضع الأيديولوجيا خارج التاريخ، ويتسرب نتيجة لذلك الوعي الزائف في تفسيرها واقعات التاريخ تفسيرا إسقاطيا أو تفسيرا قصديا، فتسحب رؤية الماضي على الحاضر، ورؤية الحاضر على المستقبل.»
25
Bog aan la aqoon
هكذا تتبدى لنا أهمية التجديد الفلسفي لعلم الكلام من حيث هو أيديولوجيا. •••
إن علم الكلام يملك المساهمة الكبرى في التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، على أساس أن الأيديولوجيا هي الوجود الواعي للأمة، من حيث هي مجموعة الأفكار المبدئية العامة لكل جماعة معينة بشأن أصولها وأهدافها ومعاييرها وقيمها ومصالحها الحضارية.
26
هكذا أتانا علم الكلام القديم حاملا الإطار العام لأيديولوجية المجتمع آنذاك، بشتى توجهاتها وفرقها، لا سيما المعتزلة والأشاعرة، وسيادة الأخيرة، وينتظر من علم الكلام الجديد الذي نرومه متجها نحو المستقبل، أن يصلح إطارا وموجها أمثل للحضارة الإسلامية الحديثة على مشارف القرن الحادي والعشرين، وأن يكون قادرا على التلاؤم مع روح العصر المثقل بإشكالياته الجمة الخاصة به، قصوراته القديمة ومحنه الطارئة وتحدياته المستجدة، والنازع إلى النهوض رغم التأزم والعقبات، نريده علم كلام قادرا على مواجهة الواقع الراهن ومتطلباته وتحدياته الضروس. بكلمة واحدة، لا بد وأن يكون أيديولوجيا لحضارة متأزمة وناهضة معا، تحاول الوقوف على أسباب الأزمة؛ للخروج منها إلى آليات النهوض.
لقد تعثرت محاولات التحديث، أو أنها على الأقل وبعد ما يقرب من قرنين من الزمان لم تؤت أكلها المنشود، لا سيما إذا قورنت بتجارب تحديث أخرى، كنا الأسبق منها زمانيا من قبيل التجربة اليابانية، وسوف تستمر محاولاتنا التحديثية في تعثرها طالما تصطدم بالتراث كمخزون نفسي للجماهير، ولا تستوعبها أيديولوجيا واضحة المعالم تجسد نزوع الأمة، ويجد فيها الواقع تعبيرا عن ذاته. من هنا كان التوجه العام للبحث عن أيديولوجيا إسلامية مقابل أيديولوجيات التحديث المعاصر التي تتشكل بخطوط غربية. فكما لوحظ مرارا وتكرارا: «لقد عول الفكر العربي على العديد من الأيديولوجيات، فانتهى إلى المزيد من التفكك والتبعية، فلماذا لا يكون الإسلام قرآنا وسنة وتاريخا هو أيديولوجيا الوحدة والتحرير؟»
27
إن الإسلام هو البديل المطلوب؛ لأنه يرتبط بالجماهير، ويوفر لها الغذاء المعنوي في وقوفها ضد الهيمنة الأمريكية التي تستهدف السيطرة الاقتصادية والسياسية التامة على البلاد العربية.
28
أما أصحاب النزعة التحديثية المتطرفة، السائرون في اتجاه العدمية التراثية، بتعبير طيب تيزيني، المؤتمون بإسماعيل مظهر وشبلي شميل وسلامة موسى ... والتالين لهم، أولئك الذين لا يرون في الإسلام أصلا وفروعا، جملة وتفصيلا، شكلا ومضمونا، إلا معاملا لكل تخلف ورجعية، فعليهم الالتفات إلى تحدينا الأكبر إزاء الصهيونية، وهو إن لم يعد تحديا عسكريا فسيظل دائما تحديا حضاريا، والصهيونية فكر ديني متشدد؛ باسم الدين في إسرائيل يكون الوطن والوطنية والقومية والهوية والجنسية والحرب والسلام والمفاوضات والمعاهدات والحقوق والاستثناءات والامتيازات والتنازلات والتشددات والنكوصات، وأيضا المجازر والمذابح والاعتقالات ... إلخ،
29
Bog aan la aqoon
ونحن لا نستطيع التراجع عن تحد أو صراع هو في جوهره ديني، وإذا كان الدين هو الذي يرسم حدود الحلبة؛ فإن مخزوننا النفسي ونسيجنا الشعوري وطبيعة حضارتنا - والدين فيما يقال اختراع مصري - تجعلنا أولى من غيرنا بترسيم مثل تلك الحدود.
والواقع أن الدين دائما أيديولوجيا، من حيث هو نسق من المعتقدات تلجأ إليه الجماعة «يرضي حاجات نفسية فردية جماعية؛ أهمها التماسك والشعور المشترك بوسائل شتى من الشعائر والطقوس والتعاليم المقدسة. من هذه الزاوية يملك الدين قدرة تعبوية هائلة ينعدم فيها غالبا الشك والتساؤل والانقسام.»
30
لكل ذلك كان علم الكلام هو التمثيل العام للأيديولوجيا الإسلامية، فهو القادر على تأطير حضارتنا بكل خصوصيتها، من أجل انبعاثه في عصر التحديات الضروس المستجدة، شريطة أن يكون بدوره مستجدا ... علم كلام جديدا نازعا نحو المستقبل، فعدم تطوير علم الكلام القديم، وتقوقع الموروث إجمالا على ذاته، هو ما ارتد في الواقع المعاصر إلى تطرف وعدوانية ظهرت مؤخرا في الجماعات الإرهابية الجانحة، التي تساهم في إبراز أهمية التجديد بقدر ما تبدت أهمية علم الكلام.
إنها أهمية علم الكلام الجديد ... السائر نحو المستقبل. •••
ولا شك أن تجديد علم الكلام، ونفض رواسب الجمود عن كواهله، شقا لطريق المستقبل، يحتاج إلى فريق عمل ... بل فرق. إنها مسئولية جيل ليضطلع كل بما يستطيعه، بهذه الرؤية أو تلك، من هذه الزاوية أو تلك، في هذا الوضع أو ذاك ... ومنطلق فلسفة العلوم يفرض علينا موضعا متعينا هو الطبيعيات التي طال انفلاتها من بين أيدينا. لن يشق علم الكلام طريق المستقبل ما لم ينضبط وضع الطبيعيات فيه، ومن ثم في وعي الجماعة، ما لم يتسلح بوضعية مستجدة ومكينة للطبيعيات، فيكون أيديولوجيا مؤهلة للالتحام الخلاق بالحلم العلمي التقاني.
لكن كيف؟ كيف السبيل لهذا؛ ولأن يشق الكلام أجوازا؟
الفصل الثاني
علم الكلام نحو المستقبل، كيف ...؟
(1) جدلية الاستيعاب والتجاوز
Bog aan la aqoon
اتضح في الفصل السابق أن الطرح المستقبلي ينشأ أصلا عن ضرورة التجديد، التي سيطرت على آفاق فكرنا المعاصر، وفي سياقها يأتي هذا البحث - من منظور فلسفة العلوم - طامحا في علم كلام ينطلق نحو المستقبل مسلحا بعتاد الطبيعيات. إنه إذن بحث تجديدي في علم الكلام.
والبحث التجديدي في علم الكلام يعني ضمنا استيعاب وتجاوز علم الكلام القديم، كما يتمثل في نصوص تراث هو تراثنا نحن، نحتويه ويحتوينا، فيتوجب له الاستيعاب؛ لكنه نتاج لظروف تاريخية معينة، وقصورات معرفية جمة، فرضت على متغيراته أشكالا ما، ولما كانت هذه الظروف قد انتهت منذ قرون عديدة خلت، وتراجعت القصورات المعرفية، واتخذت مواقع وصورا مباينة تماما؛ فإنه من الضروري أن يكون استيعاب علم الكلام القديم من أجل تجاوزه، مرتكزين في هذا وذلك على ثوابته.
إن مقولة الاستيعاب والتجاوز تشق طريق علم الكلام إلى المستقبل؛ فهي الرفض العقلاني المثمر البناء، الذي يسلم بالتاريخية ومراحل التاريخ، ويحقق الهدف بالتعامل مع المرحلة في إطار متعيناتها وظروفها، ويبرأ من مثلمة الانشغال بثابت أزلي يعلو على عالم الإنسان في الزمان والمكان، بمطلق مغترب عن الواقع في صيرورته الدائمة.
وإذا تذكرنا إشارة كارل مانهايم إلى أن التفكير الجدلي (الديالكتيكي) يكافح باستمرار للإجابة على سؤالين؛ أولا: ما هو مركزنا في العملية الاجتماعية؟ وثانيا: ما هي متطلبات اللحظة الراهنة؟
1
اتضح أن المقصود بهذا، أو القضية المطروحة هي تاريخية علم الكلام التي ستستفيد من المنهج الجدلي ذي الفعالية المشهودة في مثل هذه المجالات الحضارية الواسعة النطاق. إن هذا البحث يطرح «الاستيعاب والتجاوز» كتناول جدلي لتاريخية علم الكلام.
إن تاريخية علم الكلام بمثابة مصادرة أولية أو بديهية لا بد من التسليم بها؛ فالعقائد إلهية مقدسة ثابتة مطلقة، أما علم الكلام فليس البتة هكذا، بل هو علم إنساني محض، صنعه البشر في زمان محدد وموقف معين، واستجابة لظروف تاريخية معينة، هي كأية ظروف تاريخية، متغيرات، متغيرات سوف تنداح، لتتخلق ظروف تاريخية أخرى، لها متطلبات ومقتضيات أخرى.
وسلاما على فرنسيس بيكون
F. Bacon (1561-1626) أبي الميثودلوجي، علم مناهج البحث، أقوى العوامل الفاعلة في صنع الحداثة الغربية والجذع المتين لفلسفة العلوم، سلاما عليه، وهو يحذر من «أوثان الكهف»؛ أي تصورات البيئة الخاصة حين تسيطر على الذهن بوصفها حقائق مطلقة، ويحذر من «أوثان المسرح»؛ أي أفكار ممثلي وأعلام الفكر السابقين، وكلاهما - أوثان الكهف والمسرح - قائم على الخلط بين النسبي والمطلق وإغفال نسبوية وتاريخية التصورات العقلية.
يقول حسن حنفي : «هناك فرق شاسع بين علم الكلام والعقائد الدينية، فعلم الكلام محاولات اجتهادية لفهم العقيدة أو العثور على أساس نظري لها، وتخضع كل هذه المحاولات للظروف التاريخية التي نشأت فيها، وللأحداث السياسية التي سببتها، وللغة العصر التي عبرت بها، وللمستوى الثقافي الذي ظهرت خلاله. لا يمكن إذن التوحيد بين العقيدة كحقيقة مطلقة، وبين الصياغات التاريخية لها التي تحدث في زمان معين ومكان معين وبلغة معينة، وعلى مستوى ثقافي معين.»
Bog aan la aqoon
2
وتبدو جدلية الاستيعاب والتجاوز أداة منهجية فعالة للم أشتات الماضي والحاضر والمستقبل، في إطار متماسك، يبدو لنا قادرا على تقنين تاريخية علم الكلام المتجه نحو المستقبل وفقا للمرحلة التاريخية الراهنة، فيعني صيرورة إلى دورة جديدة، ومسارا إلى الأمام، غده أكثر زخما وثراء من أمسه، مما يجعل الانتقال صعوديا إلى مرحلة أعلى، وليس دائريا ينتهي إلى نقطة بدئه. هكذا يتضح أن الاستيعاب والتجاوز ببساطة يجعل الكلام التراثي كائنا حيا يتصف بالنماء والسيرورة، فيمكن أن يساهم في وضعية الطبيعيات بما تحمله من إمكانيات تقدمية. •••
وهذا يلزم عنه بالضرورة المنطقية إسقاط النظرة التقديسية، أو بالأصح التحجرية للتراث، التي تصادر عليها الحركات السلفية المعاصرة، في تعصبها وتطرفها المرضي، الذي بلغ حد إرهاب الآمنين وترويعهم.
والتوقف بإزاء هذه الحركات الإسلامية السلفية المتطرفة التي برزت ناتئة في واقعنا الحضاري ليس خروجا عن أطر معالجة فلسفية منطلقة باعتبارات إبستمولوجية، بل هو التفعيل لكل هذا والذي ننشده منذ بدء البداية، والأهم أنه إثبات لفعالية جدلية الاستيعاب والتجاوز التي نطرحها كآلية لتاريخية علم الكلام.
تلك التاريخانية - مرة أخرى - مقدمة أكثر من ضرورية؛ فلئن كان الله - تعالى - قد جعل الإنسان تاج الخليقة وبطل الرواية الكونية، فذلك لأن الإنسان هو الكائن الوحيد الذي يصنع تاريخا. التاريخ هو ما يجعل عالم الإنسان مختلفا عن عالم الحيوان والنبات والجماد الذي لا يعرف صنع المتغيرات ولا تراكماتها؛ التاريخ هو فاعلية الإنسان، هو صيرورة الحضارات وسيرورة الثقافات، هو التغير الذي جعل الإنسان الكائن الوحيد الذي يدرك معنى الزمان ويصنع له حسابا، فكان الوحيد الذي يعرف معنى الصعود والتقدم واختلاف الأمس عن اليوم، وهذه التاريخانية هي حجر العثرة الذي تصطدم به تلك الجماعات المتطرفة، ليتصاعد مستصغر الشرر الذي قد يضرم مستعظم النيران.
لقد تمسكوا بحديث الفرقة الناجية من النار، الذي شكك في صحته وفي جواز الاستدلال به ابن حزم وآخرون؛ تمسكوا به ليلزموا الطرف الأقصى الواحد والوحيد، رافضين كل المتغيرات في تدرجاتها إلى أطراف أخرى تشكل جميعها الواقع، ثم اتخذ هذا الرفض شكلا تصاعد وباله كثيفا أليما في مسلسل فتن دامية وتساقط القتلى والشهداء من الجانبين، العكس بالعكس طبعا، والجانبان من سويداء الأنا ... من الوطن.
ومهما كانت نواياهم، ومهما كانت أهدافهم وأسانيدهم، فإن الخطأ المحوري في استدلالاتهم الذي يؤدي إلى هذا الاصطدام الدامي، أو على الأقل العقيم، مع الواقع، لهو في إنكار تلك التاريخانية.
بداية الواقع مأزوم، وكلنا نعمل، أو يجب أن نعمل على تجاوز هذه الأزمة بآفاق فكر نهضوي لا يمتنع أن يكون دينيا، أو بمجالات عمل تنموي لا يقتصر على أن يكون اقتصاديا. التنهيض والتنمية هما الشكلان الإيجابيان لرفض أزمة الواقع ... لتجاوزها. كلاهما يسير على معامل المتغيرات في مسار التاريخ بحثا عن الأفضل، دخولا في حركة التقدم نحو المستقبل.
مشكلة الجماعات الإسلامية المتطرفة أنها لا ترفض الواقع المأزوم فحسب، بل تدفعها الثبوتية إلى رفض المتغيرات أيضا، بل وأصلا وانطلاقا من رفض التاريخانية؛ فيطابقون بين الدين وبين التراث، بين الثابت وبين المتحول، وبين الإسلام وبين «الفتاوى» لابن تيمية وتلخيصها في «الفريضة الغائبة»، «نيل الأوطار» و«فتح القدير» لتلميذه الشوكاني، وكتب ابن القيم الجوزية، وفتح الباري للعسقلاني، و«المحلى» لابن حزم، «المغني» لابن قدامة ... حتى «المصطلحات الأربعة» - الحاكمية والألوهية والربانية والوحدانية - للإمام أبي الأعلى المودودي ... وصولا إلى «معالم على الطريق» لسيد قطب.
معظمها أعمال قيمة، لكن تنبع قيمتها من قدرتها على تمثيل روح عصرها والاستجابة لمتطلباته وتحدياته، التي تختلف عن متطلبات وتحديات عصرنا، كلها خارجة من الثابت في حضارتنا: الكتاب والسنة. لكنهم ليسوا أوصياء علينا، ونحن لسنا قاصرين عاجزين عن الإبداع والاجتهاد مثلهم، والخروج من هذا المعين الثابت بما يسد حاجات عصرنا. وكما قال الشيخ أمين الخولي: لهم عصرهم ولنا عصرنا، نتعلم منهم ولا نحذو حذوهم النعل بالنعل.
Bog aan la aqoon
إنها «أوثان المسرح» التي حذر منها فرنسيس بيكون، النابعة من الافتتان بممثلي أو أعلام الفكر السابقين. كما ينبهر متفرج المسرح ببراعة الممثل في تجسيد الدور، «أو براعة المفكر في تجسيد روح عصره ومتطلباته»، وينسى المتفرج واقعه ومشكلاته، يتألم لمآسي الممثل ويفرح لظفره بالمحبوبة، حتى وإن كان بين المتفرج ومحبوبته فراسخ وأميال! كذلك تماما تعيش الجماعات المتطرفة في واقع تلك المصنفات التراثية التي كانت نتاجا أو استجابة لظروف حضارية انتهت منذ قرون عديدة، ملغين ظروف واقعنا، ولا يلتفتون إلى أن فتاوى ابن تيمية لمواجهة المغول لا تصلح لمواجهة القوى الإمبريالية المعاصرة، وأن معالم سيد قطب كانت على طريق الاصطدام مع التجربة الناصرية الاشتراكية التي أصبحت الآن أثرا بعد عين. من هنا يتصاعد الشرر، من المطابقة بين الدين والتراث، بين العقائد من ناحية، ومن الناحية الأخرى حصائل الجهد البشري في مرحلة تاريخية معينة، فيريدون صياغة الحاضر على غرار الماضي، من حيث المحتوى المعرفي والمفاهيم، حتى تفصيلات الأنماط السلوكية! تنشغل إسرائيل بالأسلحة النووية والقنابل الذكية، وينشغلون هم بالشهب والحراب على من حرم النقاب، متصاغرين متخاذلين في تحدي الإسلام الحقيقي أمام الآخر الغربي الذي نزع النقاب عن المادة ليكشف الذرة، ثم نزع النقاب عن الذرة ليكشف الجسيمات، ثم نزع النقاب عن الجسيمات الذرية ليكشف - أخيرا - الكواركات، ولا يكتفي أبدا. أي النقابين الانشغال به الآن خير وأبقى؟! بديهي أن هدف بحثنا هذا بأسره توجيه الاهتمام نحو النقاب الثاني؛ لأننا نحسبه عند الله وعند عباده خيرا وأجدى.
أما تلك المطابقة الخاطئة بين الإسلام وتراثه، بين العقائد وتنظيرها؛ أي كلامها في مرحلة تاريخية معينة، فتضر بالإسلام قبل سواه؛ لأنها تفترض فيه تحجرا عند مرحلة أسبق، تحجرا زائفا لا يوجد إلا في عقولهم؛ فالدين رسالة ... مسئولية أبت أن تحملها السماوات والأرض وحملها الإنسان ... إنه إيجابية؛ أي عمران ونماء وتطور.
وهم بهذا المفهوم المتحجر للدين والتراث، يصرون على أن التراث حاضر اليوم وفاعل، أو ينبغي أن يكون هكذا، «وأن الحضور والفعل اللذين له مستمدان من استمرار الماضي في الحاضر، استمرار الجوهر في تجلياته، وأن الزمان والفعل ما هو إلا عنصر خارجي ويسجل لحظات لا كيفية فيها ولا في تتابعها.»
3
وهذه رومانطيقية مجردة،
4
رومانطيقية اللياذ بالعوالم الذاتية المنفصلة عن العالم الموضوعي المشترك بين الذوات أجمعين، رومانطيقية العجز عن الفكر وعن الفعل، رومانطيقية التضاد مع العقلانية، وبالتالي هي ضد التنوير، بل إنها على وجه التعيين هي الإظلام؛ فالإظلام هو تغييب الواقع، فلا يعود التراث والدين أفيونا للشعوب لأنه مخدر لها بأفكار أخروية ووعود سماوية فحسب، بل أيضا وأساسا؛ لأنه اغتصاب للواقع وتغييب للآن، وإلغاء للزمان برمته، وبالتالي نفي لفكرة التقدم.
بل إنهم يفعلون بفكرة التقدم ما هو أكثر من النفي؛ إذ يعكسونه، يجعلون التقدم قهقريا، مما يجعل التاريخ يتساقط من واقع خارج الزمان ينفي الحركة ويئد التطور ويلغي التقدم. إنهم ينطلقون من مقدمة تسلم بأن ذروة التقدم كائنة في الماضي، مستعينين بالحديث الشريف: «خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ...» وقد تشكك فيه ابن حزم وآخرون. هم يفضلون القرون الأربعة الأولى، وربما القرن الأول فقط، وكلما سرنا قدما مع مسار التاريخ سرنا طرديا مع سقوط مستمر وانهيار تدريجي ومتوال لتلك الذروة التقدمية، حتى نصل إلى عصرنا الحالي، فنصل إلى أدنى درجات الانهيار، وكل عصر آت درجة أدنى من الانهيار؛ ليكون تقدم التاريخ قد أصبح انهيارا تاما وسقوطا شاملا، فيصبح التقدم الحقيقي هو التقدم القهقرى؛ الرجوع إلى الوراء، واللحاق بالعصر الذي ولى وفات.
من هنا كان محور هذه النزعة السلفية يكمن في اعتبار اللحظة الماضية المنطلق الأنطولوجي والإبستمولوجي، وليس فقط الأكسيولوجي، منطلق الحلول للحاضر والمستقبل. وكما أشار طيب تيزيني: «إن الماضي يبرزها هنا، على هذا النحو مبتدأ وخبرا، منطلقا ونهاية، لكل فعالية إنسانية لاحقة، إنه، بتعبير آخر، المخول القادر أصلا على إكساب كل فعالية إنسانية - مهما كانت أبعادها ومواصفاتها - اعتبارها ومشروعيتها في الوجود. وإذا كان الأمر كذلك؛ فإن الماضوية تبرز عنصرا مكونا للنزعة السلفية.»
5
Bog aan la aqoon
وقد نوه تيزني إلى أن الماضوية التي ترفض الحاضر فضلا من المستقبل تقف في مربع واحد مع الأسطورة التي ترفض التاريخ بأسره؛ فالأسطورة دائما فوق التاريخ، و«اللاتاريخية هي الأساس المكين للنزعة السلفية»؛
6
فتغض النظر وتصم الآذان عن كل المتغيرات.
لهذا انبثقت الصياغة السلفية عن كراهية الحاضر ونفور منه، وعجز عن التعامل معه، حتى شكلها الحنين الدافق والهيام الرومانطيقي المشبوب بالماضي فتلوذ بعوالمه المنفصلة عن العصر، متوهمة إحياء الدين في الواقع، وإحياء الواقع بالدين، وهي في حقيقة الأمر تنطوي على قرني إحراج يدمر الطرفين معا؛ فهي تدمر الواقع حين تنفيه، أو تتصور إمكانية نفيه، بكل زخمه الحضاري، وكل إشكالياته المتعينة ونواتجها غير المتوقعة وظروفه المتولدة والمولدة لحيثيات أخرى، وكل إنجازاته وعثراته وتحدياته المستجدة، وتفر إلى واقع انتهى منذ قرون طويلة خلت، ولم يعد له وجود إلا من حيث تمخض عن تراث قابل للاستيعاب والتجاوز، والتعامل الخلاق مع تخلق حيثيات حضارية جديدة.
وهي تدمر الدين حين تنفي عنه الديناميكية والحياة والقدرة على التواصل والاستمرارية، وبالتالي إمكانية أن يؤدي المهام المنوطة به حين تختلف الأزمنة والأمكنة، هكذا تنتهي الصياغة السلفية المتطرفة إلى تدمير، أو على الأقل استلاب الحياة والفعالية من الدين ومن الواقع على السواء.
كان لا بد أن يكون هذا هو مآل الصياغة السلفية ما دامت تنطلق من التسليم باغتراب الواقع الراهن عن الدين، واغتراب الدين عنه، كوضع منته لا مخرج منه إلا النفي، نفي الواقع بالسلب واللا والتكفير والهجرة منه، أو نفي الدين إلى عوالم أخرى ماضوية، يتصورونها أكثر حضورا من أي حاضر، فتنتهي الحركة السلفية من حيث بدأت: واقع راهن متأزم ودين مغترب عنه.
ولا غرو، فالدوران المنطقي واللف في المتاهات المغلقة هو مآل كل من ينفصل عن الواقع الراهن، محاولا أن ينفيه وهو غير قابل للنفي، أو يعجز عن التعامل معه، وهو تعامل لا مندوحة عنه. •••
وإذا كان هذا هو مآل التوجه الذي يتصاعد الآن كثيفا وبيلا، فإن علم الكلام الجديد ينطلق نحو المستقبل، بحركة جدلية من ذينك الطرفين : الدين/التراث والواقع/الأزمة، ولكن ليس بما يدمر أحدهما أو كليهما، أو يفر منهما كدأب السلفية، بل انطلاقة بما يشبه المركب الجدلي الذي يستوعب كلا الطرفين ويتجاوزهما إلى المركب الشامل المنشود الذي يفضي بدوره إلى مرحلة جديدة.
من هنا طرحت جدلية الاستيعاب والتجاوز كأداة تمهيدية فعالة في يد علم الكلام تساهم في شق الطريق وتعبيده، وحين تصل إلى مركبها الجدلي ستتضح أهميتها، بل ضروريتها في انضباط وضع الطبيعيات بمنظومة علم الكلام الجديد الذي نرومه سائرا نحو المستقبل.
المهم الآن أنه في هذا الطريق السائر قدما - على عكس اتجاه الطريق اليميني السالف - لن نجد علاقة حاضر علم الكلام بماضيه علاقة اتصال سلبي، تجعل الماضي فاعلا والحاضر مفعولا فيه أو به، والأقدمين أوصياء علينا وكلاء عنا في الفعل والإنجاز والتشييد، ومحاولات الإجابة عن تساؤلات عصرنا الملحة التي لم يطرحها عصرهم، ولعلها لم تدر بخلدهم، وهي أيضا - بطبيعة الحال - ليست علاقة انفصال بائن تجعل الحاضر منبت الجذور، وكأنه نبتة شيطانية نشأت عن فراغ. إنها جدلية الانفصال/الاتصال التي تؤذن بالمركب الشامل، والمرحلة الجدلية الجديدة، ودورة حضارية أخرى هي مرحلتنا المعاصرة، التي ننشدها منطلقة نحو المستقبل. (2) القطيعة المعرفية ... آلية مستقبلية
Bog aan la aqoon
هكذا تتشابك جدليتا «الاستيعاب/التجاوز» و«الانفصال/الاتصال» لتمثلا الأداة التمهيدية الفعالة في يد علم الكلام، القادرة حقا على أن تشق به طريقا جديدا نحو المستقبل.
وفيما يختص بوضع الطبيعيات تصبح تلك الأداة الفعالة سلاحا ماضيا أو آلية ناجزة قادرة على الحسم والإنجاز والإضافة؛ إذ يبلغ علم الكلام بهما؛ بهاتين الجدليتين مركبهما الشامل الذي يعني وضع «القطيعة المعرفية». وما دمنا قد ناهزنا حدود الطبيعيات فمن الضروري أن نجيب على التساؤل: ما القطيعة المعرفية؟ ومن الملائم أن تأتي الإجابة الآن في هذا السياق الجدلي.
فالقطيعة المعرفية
La rupture Epistemologique
ترتبط بالحركة الجدلية ارتباطا عضويا، هكذا يكشف عنها مبتدعها جاستون باشلار
G. Bachelard (1884-1962) شيخ فلاسفة العلم في فرنسا، الذي وضعها في إطار فلسفته الجدلية ... كمركب جدلي ... من الحضور والغياب ... من الإثبات والنفي ... من الاتصال والانفصال؛ لتكون ثمة إضافة كيفية حقا لنسق علمي تنتسب إليه، وليست مجرد إضافة كمية. إنها ترتكز في أصولها إلى قانون الجدل الشهير: تراكمات كمية تؤذن بنوع من القطع الكيفي.
وتعني القطيعة المعرفية أن التقدم العلمي مبني على أساس قطع الصلة بالماضي، ليس بمعنى نفيه وإنكاره، أو التنكر له، فذلك غير وارد في التقدم العلمي، الذي يمتاز عن أي تقدم آخر في حضارة البشر بأنه ليس أفقيا، بل رأسيا، يرتفع طابقا فوق طابق، فلا يرى نيوتن - كما أكد هو نفسه - أبعد من سابقيه إلا لأنه يقف على أكتافهم ... القطيعة تعني أن الحاضر لا يعود مجرد تواصل ميكانيكي أو استمرار تراكمي لمسار الماضي، أو تعديل أو إضافة كمية له، بل يعني التقدم شق طريق جديد لم يتراء للقدامى ولم يرد لهم بحال، بحكم حدودهم المعرفية الأسبق، وبالتالي الأضيق والأكثر قصورا، والمثال الأثير لباشلار «المصباح الكهربائي»؛
7
فهو ليس استمرارا لأساليب الإضاءة الماضية التي تقوم على الاشتعال والاحتراق، بل قطيعة لكل هذه الأساليب لحد الشروع في مرحلة تعتمد الإضاءة فيها على الحيلولة دون أي اشتعال أو احتراق ... فهي خلق وإبداع جديد تماما؛ إنها الجدة.
الجدة العلمية
Bog aan la aqoon
Scientific Novelty
هنا بأدق معاني العلم والعلمية، ويمكن مبدئيا قصر هذا المعنى على الطبيعيات الحديثة ... على العلوم الفيزيوكيميائية. ها هنا لا تأتي الجدة العلمية إلا عن طريق التكذيب، سلب الخطأ، الصراع مع القديم ورفضه، هكذا تحدث التحولات الأساسية التي تطرأ على «العلم» عندما يعيد النظر في مفاهيمه الكبرى، مما يجعل البنية الإبستمولوجية لفرضية علمية مختلفة تماما عن بنية الفرضية التالية لها في تاريخ العلم في جدليات ناشطة حقا.
8
إن الفكر العلمي فكر قلق، يبحث عن فرص جدلية ليخرج من ذاته ويكسر أطره الخاصة، وقوام البنية العلمية ليس بالتراكم، ليس لكتلة المعارف العلمية تلك الأهمية الوظيفية المفترضة.
9
لكن باشلار الذي لا يعبأ كثيرا بالمنطق، ويطلق رؤاه النافذة لظاهرة العلم الحديث كشاعر ملهم، ينجح أحيانا فيرفض فكرة الاتصال في فلسفة العلم وتاريخه، ويركز على الجانب الانفصالي تركيزا بلغ حدا يخل بجدليته المكينة التي تحيط بجانب الاتصال/الانفصال . والحق أن عامل الاتصال واستمرارية التاريخ العلمي له أهمية في فلسفة العلم،
10
وليس من السهل رفضه تماما على طريقة باشلار.
وباشلار على أية حال من أساطين فلسفة العلم المعاصر، وقد خلق مفهوم «القطيعة المعرفية»؛ ليكون من أهم مفاهيم فلسفته الخصبة الثرية للعلم؛ إذ استطاع عن طريقه أن يبلور تقدم العلوم الطبيعية، من حيث هو سلسلة من الثورات؛ لذلك فالقطيعة عند باشلار تناظر تحطيم العلم الثوري للنموذج القياسي «البراديم
» عند توماس كون
Bog aan la aqoon