بسم الله الرحمن الرحيم
وبه نستعين
الحمد لله الذي أقحم مصاقع الفصحاء بمعجز كلامه، وأخرس شقاشق البلغاء بترتيبه ونظامه، وبهر العرب العرباء باختراع مفتحه وختامه، الذي لا يرتقي نز الأوهام إلى زلازل كنه جبروته، ولا يستحوذ لهام الأفهام على سبر نقطة من مساحة بيداء ملكوته، ولا تؤمل أفكار الحكماء الراسخين، إدراك لمعة من أثيريات لاهوته.
ميز نوع الإنسان عن جنسه بفصل الكلام، وفضلّ منه صنف الملوك فعظمت فضائلهم المشتركة بين الخاص والعام. واختص من خلقه نبينا محمدًا عليه أفضل الصلاة والسلام.
أحمده حمد معترف بالقصور عن أداء ما يجب منه عليه، وأشكره شكر مغترف من بحور فضله منيبًا بكليته إليه. والصلاة والسلام على من اهتزت بأرواح نصرة أعطاف دولة العرب، فماج بها خضم دول الأكاسرة والقياصرة فاضطرب، وخضع من إعمال حسامه ربّ التاج والسرير لصاحب
1 / 17
الشاة والبعير، فعطست العرب فرحًا بأنف العز الشامخ، وجرت مرحًا ذيل الشرف الباذخ الذي أبكى بمولده عيون الكفرة فخمدت نار فارس، وضعضع دعائم الفجرة فأصبح إيوان كسرى وهو طلل دارس، محمد المبعوث لامتطاء العباد جادة الرشاد، المبلغ عن الخالق إلى الخلائق قوانين الصواب والقواعد السداد، وعلى آله الذين شيدوا من بيوت الدين قواعد، وشرفوا بأقدامهم أعواد المنابر وساحات المساجد، وأصحابه أئمة الدين ورؤساء أهل اليقين بدور التمام ومصابيح الظلام، ما لمع البرق وغنّى الحمام، وأضحك الروض بكاء الغمام وبعد: فيقول أفقر العباد إلى الله عبد الله بن المعتز بالله بن المتوكل على الله بن محمد المعتصم بالله بن الرشيد بن هارون بن المهدي محمد بن أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس ﵁: عقد الفكر طرفي ليلة بالنجوم، لوارد ورد عليّ من الهموم، نفض عن عيني كحل الرقاد، وألبس مقلتي حلل السهاد، فتأملت فخطر على الخاطر في بعض الأفكار، أن أذكر في نسخة ما وضعته الشعراء من الأشعار، في مدح الخلفاء والوزراء والأمراء من بني العباس، ليكون مذكورًا عند الناس، متابعًا لما ألفه ابن نجيم قبلي بكتابه المسمى طبقات الشعراء الثقات، مستعينًا بالله المسهل الحاجات، وسميته طبقات الشعراء المتكلمين، من الأدباء المتقدمين.
1 / 18
فكان أول ترجمة ابن نجيم بشار بن برد وما له من الأشعار والآثار فنظرت في ذلك أن أجمعهم في هذا الكتاب، فرأيت الاختصار لأشعارهم عين الصواب، ولو اقتصيت جميع ما لهم من الأشعار لطال الكتاب، وخرج عن حد القصد، فاختصرت ذلك وذكرت ما كان شاذًا من دواوينهم، وما لم يذكر في الكتب من أشعارهم، واقتصرت على ما كان من مطولات قصائدهم، وبالله الاستعانة والتوفيق، وإليه المرجع والمآب، وما توفيقي إلا بالله، وعليه فليتوكل المتوكلون، ومنه يطلب الطالبون، وهو حسبي ونعم الوكيل، نعم المولى ونعم النصير.
1 / 19
أخبار ابن هرمة
هو إبراهيم بن علي بن سلمة بن عامر بن هرمة القرشي، أحد بني قيس بن الحارث بن فهر، ويقال لهم: الخلج. حجازي سكن المدينة، ويكنى أبا إسحاق.
قال الأصمعي: ختم الشعر بابن هرمة، فإنه مدح ملوك بني مروان، وبقي إلى آخر أيام المنصور.
فمن شعره في عبد الواحد بن سليمان:
إذا قيل من خير من يجتدى ... لمعترّ فهرٍ ومحتاجها
ومن يعجل الخيل يوم الوغى ... بإلجامها قبل إسراجها
أشارت نساء بني مالك ... إليك بها قبل أزواجها
وكانت له مدائح في عبد الله بن حسن بن حسن بن علي بن أبي طالب وفي حسن بن زيد ﵉، وكان منقطعًا إليهما، فلما خرج محمد ابن عبد الله علي المنصور قعد عنه وقيل له يومًا، وقد أتهم في التشيع أنت القائل:
ومهما ألام على حبّة ... فإني أحبّ بني فاطمة
1 / 20
بني بنت من جاء بالمحكما ... ت والدين والسنة القائمة
فقال: قائلها من عضَ بظر أمه، فقال له ابنه، يا أبت ألست تقولهما في وقت كذا وكذا؟ فقال: يا بني أيهما خير، أعض بظر أمي، أم يأخذني ابن قحطبة؟ وله في الحكم بن المطلب يمدحه:
لا عيب يوجد فيك إلا أنني ... أمسى عليك من المنون شفيقا
قال ابن المعتز: ومما يستجاد من شعره قوله:
قد يدرك الشرف الفتى ورداؤه ... خلق وجيب قميصه مرقوع
بشار بن برد
كان شاعرًا مجيدًا مفلقًا ظريفًا محسنًا، خدم الملوك وحضر مجالس الخلفاء، وأخذ فوائدهم، وكان يمدح المهدي ويخضر مجلسه، وكان يأنس به ويدنيه ويجزل في العطايا، وكان صاحب صوت حسن ومنادمة، وكان حضر المهدي في مجلس مع جواريه بعث إليه لأجل المسامرة والمحادثة وكان بشار يعد من الخطباء البلغاء الفصحاء وله قصائد وأشعار كثيرة، فوشى به بعض من يبغضه إلى المهدي بأنه يدين بدين الخوارج فقتله المهدي. وقيل: بل قيل للمهدي: إنه يهجوك، فقتله والذي صح من الأخبار في قتل بشار أنه كان يمدح المهدي، والمهدي ينعم عليه، فرمي بالزندقة فقتله. وقيل: ضربه سبعين سوطًا فمات؛ وقيل ضرب عنقه. وكانت وفاته سنة سبع، وقيل: ثمان وستين ومائة في أيام المهدي.
1 / 21
ولما توفي تذكره المهدي وحسن معاشرته له. كان أنيس مجلسه وقد كان معجبًا به وبشعره، وكان يدنيه، وكان بشار كفيفًا قبل موته بأربعين سنة، ولهذا كان يحضر المجلس والجواري عند المهدي لكونه لا يبصرهن. وحكى أن المهدي لما قتل بشارًا ندم على قتله وأحبّ أن يجد شيئًا يتعلق به، فبعث إلى كتبه، فأحضرها وأمر بتفتيشها طمعًا في أن يجد فيها شيئًا مما حزبه عليه، فلم يجد من ذلك شيئًا، ومرّ بطومار مختوم، فظن أن فيه شيئًا، فأمر بنشره، فإذا فيه: بسم الله الرحمن الرحيم، إني أردت أن أهجو آل سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، فذكرت قرابتهم من رسول الله ﷺ وآله، فمنعني ذلك من هجوهم، ووهبت جرمهم لله ﷿، وقد قلت بيتين لم أذكر فيهما عرضًا ولم أقدح في دين، وهما:
دينار آل سليمان ودرهمهم ... كالبابليين شدًّا بالعفاريت
لا يوجدان ولا يرجى لقاؤهما ... كما سمعت بهاروت وماروت
فقال: الآن والله صح الندم.
وحدثني أبو جعفر قال: قال ابن أبي أفلح: قال رجل لبشار: إن الله ﷿ ما سلب أحدًا كريمتيه إلا عوضه عنهما حسن صوت أو ذكاء، فأنت فماذا عوضك من بصرك؟ فقال: عوضني فقدان النظر إلى ابن زانية مثلك منذ أربعين سنة.
قال السدري: كان عمي بشار من أفقه الناس وأعلمهم بكتاب الله،
1 / 22
فعاشر قومًا من الحرانيين فخبث دينه. وكان مفتنا بارعًا، وكان من الشعر بمكان لم يكن به أحد غيره، وكان يقول: ما أعلم شيئًا مما عندي أقل من الشعر.
حدَّثني ابن أبي أفلح قال: أخبرني أبو حاتم السجستاني قال: سئل أبو عبيدة - وأنا حاضر - عن شعر بشار فقال شذرة ونقرة.
قال: ودخل المهدي أيام خلافته على جماعة من جواريه، وهن مجتمعات في حجرة بعضهن، فجلس عندهن يشرب، فقلن له: لو أذنت لبشار في الدخول علينا لنسامره ونحادثه - وكان من أحسن الناس حديثًا وأظرفهم مجلسًا، وأكثرهم ملحا - فأمر به فأحضر. واجتمعن عليه فحدثهن، وجعل يسرد عليهن من نوادره وملحه وينشدهن عيون شعره، فسررن بذلك سرورًا شديدًا، وقلن له: يا بشار، ليتك أبونا فلا نفارقك أبدًا. قال: نعم، وأنا على دين كسرى. فضحك منه المهدي، وأمر له بجائزة.
واطلع المهدي يومًا على بعض جواريه، وهي عريانة تغتسل، فأحست به، فضمت فخذيها، وسترت متاعها بكفيها، فلم يشملاه، حتى انثنت
1 / 23
فسترته بعكن بطنها، فخرج المهدي ضاحكًا، وبشار في الدار، فقال: أجز هذا البيت. " أبصرت عيني لحيني " فقال بشار على البديهة:
................. ... منظرًا وافق شيني
سترته إذ رأتني ... تحت بطن الراحتين
فبدت منهُ فضول ... لم توار باليدين
فانثنت حتى توارت ... بين طيٍّ العكنتين
فقال المهدي: والله ما أنت إلاّ ساحر، ولولا أنك أعمى لضربت عنقك، ولقد حكيت الأمر على وجهه حتى كأنك رأيته، ولكني أعلم أن ذلك من فرط ذكائك، وجودة فطنتك.
وكان بشار مولى لبنى عقيل. وقال بعضهم: لبنى سدوس، وكان يلقب المرعث. والمرعث: المقرط، والرعاث: القرط. وكان يرمي بالزندقة، وهو القائل:
كيف يبكي لمحبس في طلول ... من سيبكي لحبس يوم طويل
إنّ في البعث والحساب لشغلا ... عن وقوف برسم دارٍ محيل
وهذان البيتان يدلان على صحة إيمانه بالبعث. وكان مطبوعًا جدًّا لا يتكلف، وهو أستاذ المحدثين وسيدهم، ومن لا يقدم عليه، ولا يجارى في ميدانه. والصحيح عند أهل العلم أن المهدي قتله بهجوه يعقوب بن داوود وزيره بقوله:
1 / 24
بني أمية هبوا طال نومكم ... إنّ الخليفة يعقوب بن داوود
ضاعت خلافتكم يا قوم فالتمسوا ... خليفة الله بين الزقّ والعود
وقال قوم: بل قتله على قوله:
لا يؤيسنك من مخبأة ... قول تغلظه وإن قبحا
عسر النساء إلى مياسرة ... والصعب يمكن بعدما جمحا
فقال المهدي: رميت جميع نساء العالمين بالفاحشة. والقول الأول أثبت.
وكان حماد عجرد يهجو بشارًا ولا يلتفت إليه حتى قال فيه:
ويا أقبح من قرد ... إذا ما عمي القرد
وما اشتد عليه قوله:
لو طليت جلدته عنبرا ... لنتنت جلدته العنبرا
أو طليت مسكًا ذكيًا إذا ... تحول المسك عليه خرا
وكان حماد مفلقًا مجيدًا، إلا أن موضعه لم يدان بشارًا ولا يقاربه.
ومن جيد شعر بشار كلمته في عمر بن العلاء:
إذا نبهتك حروب العداة ... فنبه لها عمرًا ثم نم
ولولا الذي زعموا لم أكن ... لأمدح ريحانة قبل شمّ
وحضر بشار يومًا مجلس عقبة بن سلم الهنائي، وقد حضر عقبة بن رؤبة بن العجاج ينشده أرجوزة، فاستحسنها بشار. فقال عقبة: يا أبا معاذ، هذا طراز لا تحسنه أنت ولا نظراؤك، فغضب بشار فقال: تقول هذا؟ والله إني لأرجز منك ومن أبيك ومن جدك. ثم غدا على عقبة ابن سلم الهنائي بأرجوزته الدالية التي يقول فيها:
يا طلل الدار بذات الصمد ... بالله خبر كيف كنت بعدي
1 / 25
وفيها يقول:
الحر يلحى والعصا للعبد ... وليس للمحلف مثل الردّ
وصاحب كالدمل الممد ... حملته في رقعة في جلد
فأعجب به عقبة، وقال لأبن رؤبة: والله ما قلت أنت ولا أبوك ولا جدك مثل هذا. ووصل بشارًا وأجزل له العطية.
وكان بشار أستاذ أهل عصره من الشعراء غير مدافع، ويجتمعون إليه وينشدونه ويرضون بحكمه.
وتشبيهاته - على أنه أعمى لا يبصر - من كل ما لغيره أحسن. ومن ذلك قوله:
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
ومن خبيث هجائه قوله:
فلا تبخلا بخل ابن قزعة إنه ... مخافة أن يرجي نداه حزين
إذا جئته للعرف أغلق بابه ... فلم تلقه إلا وأنت كمين
فقل لأبي يحيى: من تبلغ العلا ... وفي كل معروف عليك يمين؟
وفيه يقول:
بجدك يا بن قزعة نلت مالًا ... ألا إن اللئام بهم جدود
1 / 26
ومن حذر الزيادة في الهدايا ... أقمت دجاجة فيمن يزيد
ومما يستحسن لبشار، لإحكام رصفه، وحسن وصفه كلمته التي يقول فيها بيته الذي ذكرناه في التشبيه، فأولها:
جفا جفوة فازور إذ مل صاحبه ... وأزرى به أن لا يزال يصاحبه
خليلي لا تستكثرا لوعة الهوى ... ولا لوعة المحزون شطت حبائبه
شفى النفس ما يلقى بعبدة مغرمًا ... وما كان يلقى قلبه وضرائبه
فأقصر عن داعي الفؤاد وإنما ... يميل به أمس الهوى ويطالبه
إذا كان ذواقًا أخوك الهوى ... توجّهه في كلّ أوب ركائبه
فخّل له وجه الطريق ولا تكن ... مطيّة رحّال كثير مذاهبه
أخوك الذي إن ربته قال إنما ... أربت وإن عاتبته لان جانبه
إذا كنت في كل الأمور معاتبًا ... أخًا لك لم تلق الذي لا تعاتبه
فعش واحدًا أو صل أخاك فإنه ... مقارف ذنب مرة ومجانبه
إذا أنت لم تشرب مرارًا على القذى ... ظمئت وأي الناس تصفو مشاربه؟
من الحيّ قيس قيس عيلان إنها ... عيون الندى منها تروي سحائبه
وما زال منها ممسك بمدينة يراقب أو ثغر تخاف مرازبه
1 / 27
إذا الملك الجبار صعر خدّه ... مشينا إليه بالسيوف نعاتبه
وكنّا إذا دبّ العدوّ لسخطنا ... وراقبنا في ظاهر لا نراقبه
غدونا له جهرًا بكلّ مثقف ... وأبيض تستسقي الدماء مضاربه
كأن مثار النقع فوق رءوسنا ... وأسيافنا ليل تهاوت كواكبه
وأرعن يعشى الشمس لون حديده ... وتخلس أبصار الكماة كتائبه
تغص به الأرض الفضاء إذا غدا ... تزاحم أركان الجبال مناكبه
تركنا به كلبا وقحطان تبتغي ... مجيرًا من الهبل المطلّ مغالبه
وكان بشار يعد في الخطباء والبلغاء. ولا أعرف أحدًا من أهل العلم والفهم دفع فضله ولا رغب عن شعره. وكان شعره أنقى من الراحة، وأصفى من الزجاجة وأسلس على اللسان من الماء العذب. ومما يستحسن من شعره - وإن كان كله حسنًا - قوله:
أمن تجنّي حبيب راح غضبانا ... أصبحت في سكرات الموت سكرانا
لا تعرف النوم، من شوق إلى شجن ... كأنما لا ترى للناس أشجانا
أود من لم ينلني من مودته ... إلا سلامًا يردّ القلب حيرانا
يا قوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ... والأذن تعشق قبل العين أحيانا
1 / 28
وهذا معنى بديع لم يسبقه إليه أحد. وهذه قصيدة طويلة وقد قدمنا في كتابنا هذا أنا نروم الإيجاز والاختصار.
ومما يستحسن من شعره أيضًا وهو المعنى الذي لم يسبق إليه:
لم يطل ليلي ولكن لم أنم ... ونفى عني الكرى طيف ألمّ
فاهجر الشوق إلى رؤيتها ... أيها المهجور إلا في الحلم
حدثني عن كتابٍ جاءني ... منك بالذم وما كنت أذم
ومن مستحسن شعره رائيته العجيبة البديعة المعاني الرفيعة المباني:
رأيت صحابتي بخناصرات ... حمولا بعد ما متع النّهار
فكاد القلب من طرب إليهم ... ومن طول الصّبابة يستطار
وفي الحيّ الذين رأيت خود ... خلوب الدل آنسةٌ نوار
برود العارضين كأن فاها ... بعيد النوم عانقه عقار
كأنّ فؤاده كرةٌ تنزّى ... حذار البين لو نفع الحذار
يروّعه السرار بكلّ شيءٍ ... مخافة أن يكون به السّرار
وودّا لليل زيد إليه ليلٌ ... ولم يخلق له أبدًا نهارُ
جفت عيني عن التغميض حتّى ... كأنّ جفونها عنها قصار
وبلغني أن مسلم بن الوليد وجماعة، منهم أبو الشيص وأبو نواس وغيرهما، كانوا عند بعض الخلفاء، فسألهم عن ديباج الشعر الذي لا يتفاوت نمطه،
1 / 29
فأنشدوه لجماعة من المتقدمين والمحدثين، فكأنه لم يقع منه بالغرض، وسأل عن أحسن من ذلك، فقال أبو نواس: أنا لها يا أمير المؤمنين. وأنشد هذه الأبيات الرائية لبشار، فاستحسنها جدًّا، وقال: ومما أجاد فيه وأفرط قوله في الافتخار:
إذا ما غضبنا غضبة مضريّةٌ ... هتكنا حجاب الشمس أو قطرت دمًا
إذا ما أعرنا سيّدًا من قبيلة ... ذرى منبر صلّى علينا وسلّما
ومما يستحسن له قوله في عقبة بن سلم:
حيّيا صاحبيّ أمّ العلاء ... واحذرا طرف عينها الحوراءِ
إن في طرفها دواء وداءً ... لمحبّ، والداء قبل الدواء
عذبتني بالحب عذبها الل ... هـ بما تشتهي من الأهواء
يقع الطير حيث يلتقط الح ... ب وتغشى منازل الكرماء
إنما همة الجواد ابن سلم ... في عطاء وموكب أو لقاء
ليس يعطيك للرجاء وللخو ... ف ولكن يلذ طعم العطاء
ومما يختار من مديحه قوله في ابن العلاء
فتى لا يبيت على دمنة ... ولا يلعق الشهد إلا بسمّ
ثم يأخذ في الافتخار في قوله منها:
ألا أيّها السائلي جاهلًا ... لتعرفني أنا أنف الكرم
1 / 30
نمتني الجياد: بنو عامر ... فروعي وأصلي قريش العجم
وإنّي لأغني مقام الفتى ... وأصبي الفتاة ولا تعتصم
ومن غزله الطيب الحسن المليح قوله:
يا منية القلب إنّي لا أسميك ... أكني بأخرى أسميها وأعنيك
يا أطيب الناس ريقًا غير مختبر ... إلاّ شهادة أطراف المساويك
قد زرتنا زورة في الدّهر واحدة ... فاثني ولا تجعليها بيضة الديك
يا رحمة الله حلّى في منازلنا ... حسبي برائحة الفردوس من فيك
ومن بدائعه قوله:
وخريدة سودٍ ذوائبها ... قد ضمخت بالمسك والورس
أقبلن في رأد الضحاء بها ... فسترن عين الشمس بالشمس
وله القصيدة المشهورة التي يقول فيها هذا البيت " يا رحمة الله ... الخ " وقد ضمنه أبو نواس بشعره وهو هذا البيت:
يا رحمة الله حلي في منازلنا ... وجاورينا فدتك النفس من جار
وأخبار بشار كثيرة ونوادره في الشعر وطرائفه أكثر من أن يتضمنها هذا الكتاب على ما قدمنا فيه من إيثارها الإيجاز والاختصار وقد أتينا بما يستدل على ما سواه.
1 / 31
أخبار السيد الحميري
هو إسماعيل ين محمد بن يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري، وكان شاعرًا ظريفًا حسن النمط مطبوعًا جدًّا، محكم الشعر مع ذلك، وكان أحذق الناس بسوق الأحاديث والأخبار المناقب في الشعر. لم يترك لعلي بن أبي طالب ﵇ فضيلة معروفة إلا نقلها إلى الشعر.
حدَّثني محمد بن عبد الله السدوسي عن المدائني قال: كان أبو هاشم ينال من هذا الشراب، وولي سليمان بن حبيب بن المهلب الأهواز - وكان للسيد صديقًا - فرحل إليه من الكوفة، فأكرمه ورفع مجلسه ونادمه، وأقام عنده حينًا، وكان سليمان لا يشرب الشراب ويمنع من شربه ويتشدد فيه. فامتنع السيد من شربه فأضر ذلك به وتغير لونه، فقال له يومًا: أراك قد تغيرت عن الحال التي قدمت عليها، فقال: أصدقك أيها الأمير، كنت أنال من هذا الشراب فيمرئ طعامي ويشد عضدي ويقوي بدني، فأمسكت عنه مساعدة للأمير أصلحه الله، فصرت إلى ما ترى. فتبسم سليمان وقال: أحق ما يجب علينا من حق من يمدح آل الرسول صلى الله عليه وآله أن نحتمل له شرب النبيذ، فأصب منه فإنه غذاؤك. ثم كتب إلى عامله بالجبل أن احمل إلى أبي هاشم مائتي دورق ميفختج. ودفع الرقعة إلى السيد فقال: أصلح الله الأمير، البليغ من يوجز الكلام ويختصره، قال سليمان: وما رأيت من العيّ؟ قال: جمعك بين كلمتين مستغني بإحداهما، دع
1 / 32
" مي " وامح فختج فقال: صدقت وحمل إليه ما أراد.
وحدثني محمد بن عبد الله قال: قال لي السيد: اختصم رجلان في أبي بكر وعلي فأطالا ثم رضيا بأن يحكم بينهما أول طالع يطلع عليهما. فكنت ذاك - وأنا على بغلة، وهما لا يعرفانني - قال محمد: وكان السيد وسيمًا جسيمًا - فابتدر إليّ الشيعيّ منهما وقال: أصلحك الله، إنا اختلفنا؟ في شيء ورضينا بأول طالع علينا حكمًا فقلت ففي ماذا اختلفتما قال: أنا أقول: إن عليًا خير الناس بعد رسول الله. قال: فقلت: فماذا يقول هذا ابن الزانية؟ وحدثني محمد بن عبد الله قال: قال السدري راوية السيد: كان السيد أول زمانه كيسانيًا يقول برجعة محمد بن الحنيفة وأنشدني في ذلك:
حتى متى؟ وإلى متى؟ ومتى المدى؟ ... يا بن الوصيّ وأنت حيّ ترزق
والقصيدة مشهورة.
وحدثني محمد بن عبد الله قال: قال السدري: ما زال السيد يقول: بذلك حتى لقي الصادق ﵇. بمكة أيام الحج، فناظره وألزمه الحجة فرجع عن ذلك. فذلك قوله في تركه تلك المقالة، ورجوعه عما كان عليه ويذكر الصادق ﵇:
تجعفرت باسم الله والله أكبر ... وأيقنت أن الله يعفو ويغفر
ويثبت مهما شاء ربي بأمره ... ويمحو ويقضي في الأمور ويقدر
وقال الأنصاري: قال العتبي: ادعى رجل على رجلٍ مالًا عند سوار
1 / 33
القاضي، فطالبه سوار بالبينة، فلم يكن له شاهد إلا السيد ورجل آخر، فأحضرهما؛ فقال سوار: قد قبلنا شهادة أبي هاشم ولكن زدنا في الشهود، فظن السيد أنه رد الشاهد الآخر، فلما خرجا قال له الرجل: والله ما رد إلا شهادتك ولم يفصح بذلك خوفًا من لسانك وتبين الأمر على ما قال: فغضب السيد على سوار وهجاه وخرقه، وفيه يقول:
يا أمين الله يا من ... صور يا خير الولاة
إنّ سوار بن عبد الل ... هـ من شر القضاة
إن سوارًا الأعمى ... من ذوي جهر جناة
جملي نعثلي ... لكم غير موات
جدّه سارق عنز ... فجرة من فجرات
لرسول الله والقا ... ذفه بالمنكرات
والذي قام ينادي ... من وراء الحجرات
يا هناه أخرج إلينا ... إننا أهل هناة
فاكفنيه لا كفاه الل ... هـ شرّ الطارقات
فهجوناه ومن نه ... ج يصب بالفاقرات
1 / 34
وبعث هذه الأبيات إلى المنصور. وكتب إليه سوار: يا أمير المؤمنين إن السيد رافضي يقول بالرجعة ويرى المتعة. فكتب إليه المنصور: إن بعثناك قاضيًا ولم نبعثك ساعيًا. وعزله وأقطع السيد أرضًا بالبصرة من أراضي الحجاج.
ومن جيد شعره قصيدته التي تسمى المذهبة وهي التي أولها:
ين التطرف بالولاء وبالهوى ... أإلى الكواذب من بروق الخلب
إلى أمية؟ أم إلى الشيع التي ... جاءت على الجمل الخدب الشوقب
تهوي من البلد الحرام فنبهت ... بعد الهدو كلاب أهل الحوأب
وهي قصيدة مشهورة جدًا، فاقتصرنا على ما أردناه منها. ومن مستحسن شعره في آل رسول الله صلى الله عليه وآله:
أتى حسنًا والحسين الرسولُ ... وقد برزا ضحوة يلعبان
وضمّهما ثم فدّاهما ... وكان لديه بذاك المكان
وطأطأ تحتهما عاتقيه ... فنعم المطية والراكبان
1 / 35
والقصيدة أيضًا مشهورة، فاقتصرنا على ما ذكرناه فقط، وقصائد الجياد كثيرة لو اشتغلنا بذكرها لطال شغلنا، وقد حكوا عن بعضهم أنه قال: رأيت حمالًا عليه حمل ثقيل وقد جهده. فقلت: ما هذا؟ قال: ميميات السيد. وحكى عن السدري، أنه كان له أربع بنات، وأنه كان حفظ. كل واحدة منهن أربعمائة قصيدة من شعره، فحسبك هذا.
وحدثني الأنصاري قال: أخبرني المنذري قال: لما احتضر السيد نظر إليه غلامه وبكى، فقال له: ما يبكيك؟ قال: وكيف لا أبكي وأنت تموت وليس لك كفن؟ فقال: إذا أنا قضيت فصر إلى صف الخزازين، فقل ألا أن السيد الحميري مادح آل رسول الله صلى الله عليه وآله قد مات ففعل، فوافاه سبعون كفنا فيها الوشي والدبيقي. فهذا خبره، وكان شعره ﵀.
1 / 36