فرغب في تحصيل العلوم من لم تكن له رغبة، وتأهب للاشتغال من لم يكن عنده الهبة، وصار كل منهم يظهر بالتأليف مقدوره، ويبذل في التصنيف ميسوره، ويُشرف ما ألفه وصنفه، بخدمة سُدته السنية، وأبوابه العلية، ويبلغ به من إحسانه أقصى المرام والأمنية.
فأحببت أن أدخل نفسي في عدادهم وإن لم أكن لذلك أهلًا، وأضرب معهم في الخدمة بسهمٍ وإن لم أكن ممن يعرف الضرب أصلًا.
فالكريم يغض عن الزلة، والحليم يعفو عن الذنب؛ والخيار يستر العوار، والكلام يُشرف فيمن قيل فيه.
وقد شرفت نظمي بمديحه، وقلت فيه قصيدة، أحببت أن أجعلها في هذه المقدمة مُقدمة، وفي هذه الترجمة مُفخمة.
وهي هذه:
دَانتْ لهَيْبَتِك الأيَّامُ والأُمَمُ ... وقد أطَاعَكَ فيها السَيفُ والقلمُ
وليسَ يخرُجُ عن أمرٍ أمَرْتَ به ... إلا شقيٌّ بهِ قدْ زَلتِ القدَمُ
وَأصْبحَ الجَوْرُ لا يُجارُ ولا ... يُلْفي له في جميع الأرض مُعْتَصَمُ
والعدلُ في كفِّه مَاضٍ أشَمُّ به ... من عُصْبَةِ الظلمِ والعدوان ينتقمُ
لا يظلمُ الذئبُ شاةَ البَرِّ ليس لها ... رَاعٍ سواهُ وقد أوْدَى به النَّهَمُ
هذا الذي قِيل في أمْثالِ مَن سَلفوا ... مِن كَثْرِة الأمْنِ يمشي الذئبُ والغنمُ
يُحْصَى الحَصَا قبلَ أن تُحْصَى مَآثرُه ... والغيْثُ يفْنَى ولا تفنىَ لهُ نِعَمُ
يُكاثِر الرَّملَ في الهَيْجَاء عَسْكرُهُ ... وَكلُّ مَن شئتَ منهُم وَحْدَهُ أممُ
هو المرادُ الذي رَبُّ العبَادِ قَضَى ... في عَالم الذَّرِّ أن يَحْيَى به العَدَمُ
وَأن تَعُدَ به الدنيا كما بُدِئتْ ... عِلْمًا وعَدْلًا وجُودًا دُونَه الدِّيَمُ
أما ترى العلمَ ينمُو كُلَّ آونةٍ ... والجَهْل يَزدَادُ نقصًا ليس يَنكتمُ
أمَا ترى عَلَمَ الإسْلامِ مُرْتفعًا ... والكفرُّ أصبَحَ لاَ بَنْدٌ ولا عَلَمُ
والمالُ فاضَ وفاض البَاذِلُونَ له ... وكلُّ أرْضٍ على مَن حَلَّهَا حَرَمُ
يَا آلَ عُثمانَ يا مَن لا نظيرَ لهُمْ ... بين الملُوك وهل يُرجَى نظيرُهُمُ
يا مَن بأعْتابهمْ مِن حين مَا نُصِبَتْ ... شِفاهُ كلِّ مُلُوكِ الأرْض تستلمُ
لم تصْفُ للناس أيَّامٌ ولا سَلمتْ ... من التكدُّرِ إلا في زَمَانِكمُ
فاللهُ يُبْقِي لأهْلِ الأرض دَوْلَتَكم ... فإنِّها دَوْلةٌ يحيى بهَا النَّسَمُ
واللهُ يُعْطيكُمُ مَالا يُحيطُ بِهِ ... وَصْفٌ وَلا عَن مَدَاهُ تُفْصِحُ الكَلِمُ
ولا تزال الوَرَى في ظلِّ دَوْلتكمْ ... بخَفْضِ عَيشٍ وَثغْرُ الدَّهْر يَبْتسمُ
باب
يشتمل على فوائد مهمة، تتعلق بفن التاريخ،
لا يسع المؤرخ جهلها وهو باب يشتمل على فصول:
الفصل الأول
كانت العرب تؤرخ في بني كنانة من موت كعب بن لؤي، فلما كان عام الفيل أرخت منه، وكانت المدة بينهما مائة وعشرين سنة.
قال أبو الفرج الأصبهاني، صاحب " الأغاني ": إنه لما مات الوليد بن المغيرة بن عبد الله ابن عمرو ابن مخزوم، أرخت قريش بوفاته مُدة؛ لإعظامها إياه، حتى إذا كان عام الفيل جعلوه تاريخا. هكذا ذكره ابن دأب.
وأما الزبير بن بكار فذكر أنها كانت تؤرخ بوفاة هشام بن المغيرة تسع سنين، إلى أن كانت السنة التي بنو فيها الكعبة، فأرخوا بها. انتهى.
وأرخ بنو إسماعيل ﵊ من نار إبراهيم ﵊ إلى بنائه البيت، ومن بنائه البيت إلى تفرق معد ومن تفرق مَعَدِّ إلى موت كعب بن لؤي؛ ومن عادة الناس أن يؤرخوا بالواقع المشهور، والأمر العظيم، فأرخ بعض العرب بأيام الخُنان لشُهرتها.
قال النابغة الجعدي:
فَمَنْ يَكُ سائلًا عني فإني ... مِن الفِتيْان أيامَ الخُنَان
مَضَتْ مائةٌ وُلدتُ فيه ... وعامٌ بعد ذاك وحجتان
1 / 3