بسم الله الرحمن الرحيم
قال الشيخ الإمام العالم العامل الأوحد عماد الدين أبو الفدا إسماعيل بن عمر بن كثير الخصلي الشافعي أمتع الله بفوائده آمين.
الحمد لله الذي رفع قدر العلماء، وجعلهم بمنزلة النجوم فِي السماء، وخصهم بميراث الأنبياء فيما خلفوه من محكم الأوامر والنواهي وصادق الأنباء، أحمده على ما أسبغ من النعماء، وأجزل من العطاء، وأسبل من الغطاء، وكشف من البلاء وأتاح من السراء، وأزاح من الضراء، حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه يملأ أرجاء الأرض والسماء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المنفرد بالعظمة والكبرياء الواحد الأحد، الفرد الصمد، والمنعوت بالصفات الحسنى والأسماء، الأول الآخر، الظاهر الباطن، العالم بجميع الأشياء، المنزه عن الصاحبة، والأولاد، والأضداد، والأنداد، والشركاء،
والنظراء، شهادة موقنة خالصة ما لقي الله بها عبد يوم الجزاء إلا أوجب له بها الخلود فِي دار البقاء والسلامة من عذاب دار الشقاء، وأشهد أن محمدا عبده، ورسوله، وحبيبه، وخليله المصطفى من صميم العرب العرباء، المبعوث بالشريعة الكاملة التامة الشاملة العامة الناسخة الخاتمة إلى جميع من يستقل على الغبراء، ويستظل بالخضراء، صلوات الله وسلامه عليه دائما مستمرا ما اختلط الظلام بالضياء، وما انفلق الإصباح عن غرة النهار وأعلن الداعي بالنداء، ورضي الله عن أصحابه أجمعين الذين حازوا قصب السبق إلى أعلى مراتب الشرف والسناء، وفازوا بالقدح المعلى من سهام السعداء.
وبعد، فقد تطابقت دلالة الكتاب والسنة على شرف العلم وفضله ومدح حامليه وأهله، والتنبيه على ما خصوا به من التقديم ومعاملتهم بالإكرام والتعظيم كما قال تعالى فِي محكم كتابه الكريم: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨]، فقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة المقربين، وهذه مزية عظيمة اختصوا بها فِي العالمين. ولما كان الشافعي، ﵁، من أعظمهم قدرا وأجلهم خطرا، وأغزرهم علما، وأكثرهم حلما، أحببت أن أذكر شيئا من أحواله، وأن أنبه على مكارمه، وصالح أعماله، وأترجم بعد ذلك أصحابه ومتبعيه إلى زماننا هذا، وبالله المستعان. فهو الإمام العالم أحد أئمة الإسلام وفقهاء الأنام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطلبي، يجتمع مع رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، فِي عبد مناف بن قصي، هكذا نَسَبَهُ الربيع بن سليمان وغيره، قال: وهو ابن عم رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وهو ممن تحرم عليه الصدقة من ذوي القربى الذين لهم سهم مفروض فِي الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطلب. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، يقول: شافع بن السائب الذي ينسب إليه الشافعي، ﵁، قد لقي النبي، ﷺ، وهو مترعرع، وأسلم أبوه السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم، فأسر وفدى نفسه ثُمَّ أسلم، فقيل له: لِمَ لَمْ تسلم قبل أن تؤدي فداك؟ فقال: ما كنت أحرم المؤمنين طعما لهم. قال القاضي أبو الطيب: قال بعض أهل العلم بالنسب: الشافعي ابن عم رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وابن عمته؛ لأن المطلب عم رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، والشفا بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف أم السائب بن يزيد هي أخت عبد المطلب بن هاشم وأم الشافعي، ﵁، أزدية، وفي الحديث: الأزد جرثومة العرب، وقد روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي بسنده، عن ابن عبد الحكم، قال: لما حملت أم الشافعي، ﵁، به رأت كأن المشترى خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثُمَّ وقع فِي كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخص علمه أهل مصر، ثُمَّ يتفرق فِي سائر البلدان.
فصل ذكر مولده، ومنشئه وهمته العلية في حال صغره وصباه قال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، ثنا أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن شيظم الفامي قدم للحج، أنا نصر بن مكي ببلخ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، ﵁، ولدت بغزة سنة خمسين، يعني: ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين، قال: وأخبرني غيره عن الشافعي، ﵁، قال: لم يكن لي مال فكنت أطلب العلم في الحداثة، أذهب إلى الديوان أستوهب منهم الظهور، وأكتب فيها، وقال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب جمعه في آداب الشافعي، ﵁، ثنا أبي، قال: سمعت عمرو ابن سواد قال: قال لي الشافعي، ﵁: ولدت بعسقلان فلما أتى على سنتان حملتني أمي إلى مكة وكانت نهمتي في شيئين، في الرمي وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من العشرة عشرة وسكت عن العلم، فقلت له: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، قال: سمعت محمد بن إدريس، يقول: ولدت باليمن فخافت أمي علي الضيعة، وقالت: الحق بأهلك فتكون مثلهم، فإني أخاف أن يغلب على نسبك، فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا ابن عشر، أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي، وجعلت أطلب العلم، فيقول لي: لا تعجل بهذا وأقبل على ما ينفعك، فجعلت لذتي في هذا العلم وطلبه حتى رزق الله منه ما رزق. قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: قوله: باليمن غلط إلا أن يريد به القبيلة وهذا محتمل لكن خلاف الظاهر. قلت: فهذه ثلاث روايات في بلد مولده، والمشهور أنه ولد بغزة ويحتمل أنها بعسقلان التي هي قريب من غزة ثم حمل إلى مكة صغيرا، ثم انتقلت به أمه إلى اليمن، فلما ترعرع، وقرأ القرآن بعثت به إلى بلد قبيلته مكة فطلب بها الفقه، والله أعلم. وأما زمان مولده ففي سنة خمسين ومائة بلا نزاع وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة، ﵀، ثم قيل: ولد في اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة، ولا يكاد يصح هذا ويتعسر ثبوته جدا، وما يذكره بعض الجهلة من المشغبين من أن الشافعي، ﵁، مكث حملا في بطن أمه أربع سنين حتى توفي أبو حنيفة، ﵀، أو أنه يوم وجد الشافعي توفي أبو حنيفة، فكلام سخيف وليس بصحيح، وقد كان الشافعي، ﵁، من أكثر الناس تعظيما لأبي حنيفة، ﵄ ورحمهما. قال ابن أبي حاتم: حدثني أبو بشر أحمد بن حماد الدولابي في طريق مصر، حدثني أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي، ﵁، قال: كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي من أمي أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، وكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث، أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف فكنت أنظر إلى العظم فأكتب فيه الحديث، أو المسألة، وكانت لنا جرة عظيمة إذا امتلأ العظم طرحته في الجرة، حدثنا محمد بن روح، قال: سمعت الزبير بن سليمان القرشي يذكر عن الشافعي، ﵁، قال: طلبت هذا الأمر عن خفة ذات اليد كنت أجالس الناس وأتحفظ ثم اشتهيت أن أدون، وكان منزلنا بمكة بقرب شعب الخيف فكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب فيها حتى امتلأ في دارنا من ذلك حباب، قلت: وكان من عادة العرب الكتابة في العظام العسب واللخاف ورقاع الأدم وغير ذلك لقلة القرطاس عندهم، ولهذا لما كتب زيد بن ثابت، ﵁، القرآن عن أمر الصديق، ﵁، كتب عامته من هذه الأشياء. وقال أبو بكر الخطيب: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن عبد الله الطبري، ثنا أحمد بن عبد الله بن الخضر المعدل، ثنا علي بن محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن إبراهيم الطائي الأقطع، ثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: سمعت الشافعي، ﵁، يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، ثم روى الخطيب عن الشافعي، ﵁، أنه قال: أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه والمراد، ما خلا حرفين أحدهما دساها والآخر نسيه الراوي عنه، قلت: فهذه همة عالية ممن يحفظ الكتاب والسنة وله من العمر عشر سنين، فرضي الله عنه. ويقال: إن القبيلة الذين ضوى إليهم الشافعي، ﵁، هذيل وهم أفصح العرب، قال الحاكم النيسابوري: ثنا أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه، ثنا إبراهيم بن محمود، حدثني أبو سليمان، يعني: داود الأصبهاني، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: قرأ علي الشافعي، ﵁، أشعار هذيل حفظا، ثم قال: لا تخبر بهذا أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا، قال مصعب: وكان الشافعي، ﵁، يسمر مع أبي من أول الليل حتى الصباح ولا ينامان، قال: وكان الشافعي، ﵁، في ابتداء أمره يطلب الشعر، وأيام الناس، والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد، قال: وكان سبب أخذه أنه كان يسير يوما على دابة له وخلفه كاتب لأبي، فتمثل الشافعي، ﵁، بيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟ فهزه ذلك فقصد لمجالسة الزنجي بن خالد مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس، ﵀، وقال ابن أبي حاتم، ثنا الربيع ابن سليمان المرادي، قال: سمعت الحميدي، يقول: سمعت الزنجي بن خالد، يعني: مسلم ابن خالد الزنجي شيخ الشافعي، ﵁، يقول للشافعي، ﵄: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقال ابن أبي حاتم: وأخبرني أبو محمد ابن بنت الشافعي فيما كتب إلي، قال: سمعت أبا الوليد، يعني: الجارودي، أو عمى، أو أبي، أو كلهم، عن مسلم بن خالد، أنه قال للشافعي، ﵁، وهو ابن ثماني عشرة سنة: أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي، وهكذا روى الخطيب من وجه آخر عن الربيع: سمعت الحميدي يقول: قال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي، ﵁: يا أبا عبد الله أفت الناس، آن لك والله أن تفتي، وهو ابن دون عشرين سنة، قال الخطيب: وهذا هو الصواب، والأول ليس بمستقيم لأن الحميدي يصغر عن إدراك الشافعي، ﵁، وله تلك السن خمس عشرة سنة.
فصل في رحلته وطلبه العلم وولايته بأرض نجران وظيفة الحكم قال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي، يقول: قدمت على مالك وقد حفظت الموطأ ظاهرا، فقلت: إني أريد أن أسمع الموطأ منك، فقال: اطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقلت: لا عليك أن تسمع قراءتي فإن سهل عليك قرأت لنفسي، قال: اطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقال: اقرأ، فلما سمع قراءتي، قال: اقرأ، فقرأت عليه حتى فرغت منه، وحكى الإمام أحمد، عن الشافعي، ﵄، أنه قال: أنا قرأت على مالك وكانت تعجبه قراءتي، قال الإمام أحمد: لأنه كان فصيحا، قلت: وكذلك كان حسن الصوت بتلاوة القرآن، كما سنذكره بعد، وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو بشر الدولابي في طريق مصر، قال: ثنا أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي، سمعت الحميدي يقول: قال الشافعي، ﵁: وليت نجران وبها بنو الحارث وموالي ثقيف فجمعتهم فقلت: اختاروا سبعة منكم فمن عدلوه كان عدلا ومن جرحوه كان مجروحا، فجمعوا لي سبعة منهم، فجلست للحكم، فقلت للخصوم: تقدموا فإذا شهد الشاهد عندي التفت إلى السبعة فإن عدلوه كان عدلا وإن جرحوه قلت زدني شهودا، فلما أتيت على ذلك، وجعلت أسجل، وأحكم، فنظروا إلى حكم جار فقالوا: إن هذه الضياع والأموال التي تحكم علينا فيها ليست لنا وإنما هي لمنصور بن المهدي في أيدينا، فقلت للكاتب: اكتب وأقر فلان بن فلان الذي وقع عليه حكمي في هذا الكتاب أن هذه الضيعة، أو المال الذي حكمت عليه ليست له، وإنما هي لمنصور بن المهدي، ومنصور بن المهدي على حجته متى قام، قال: فخرجوا إلى مثله فيم يزالوا يعملون حتى رفعت إلى العراق فقيل لي: الزم الباب، فنظرت فإذا أنا لا بد لي من الاختلاف إلى بعض أولئك، وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة عند هارون فاختلفت إليه، وقلت: هذه أشبه بي من طريق العلم، فكتبت كتبه وعرفت قولهم، فكان إذا قام ناظرت أصحابه. قال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع، سمعت الشافعي، ﵁، يقول: حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي ليس عليه إلا سماعي، وثنا أحمد بن سريج: سمعت الشافعي، ﵁، يقول: أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارا ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا ردا عليه، قلت: هذا كله كان في قدوم الشافعي، ﵁، بغداد في القدمة الأولى، وكان ذلك في سنة أربع وثمانين ومائة، بعد موت القاضي أبي يوسف، ﵀، بسنتين، فلم يدركه ولا رآه، وما ذكره عبد الله بن محمد البلوي في رحلة الشافعي، ﵁، في مناظرة الشافعي، ﵁، أبا يوسف بحضرة الرشيد وتأليب أبي يوسف عليه، فكلام مكذوب باطل، اختلقه هذا البلوي، قبحه الله وأبو يوسف، ﵀، كان أجل قدرا وأعلى منزلة مما نسب إليه، وإنما أدرك الشافعي، ﵁، في هذه القدمة محمد بن الحسن الشيباني، وأنزله في داره، وأجرى عليه نفقة، وأحسن إليه بالكتب، وغير ذلك ﵏، وكانا يتناظران فيما بينهما كما جرت عادة الفقهاء، هذا على مذهب أهل الحجاز، وهذا على مذهب أهل العراق، وكلاهما بحر لا تكدره الدلاء، وقد بعث الشافعي، ﵁، في وقت يطلب من محمد بن الحسن كتبا عينها، فتأخر إرسالها فكتب إليه: قل للذي لم تر عينا من رآه مثله ... ومن كان من رآه قد رأى من قبله العلم ينهي أهله أن يمنعوه أهله ... لعله يبذله لأهله لعله ويقال: إن هذه الأبيات لمحمد بن الحسن وذلك فيما نقله ابن عساكر بإسناد، عن الشافعي، ﵁، أنه قال: كنت أنظر في جزء تجاه محمد بن الحسن، فقال: أرني ما تنظر فيه فلم أره، فتناول القلم والقرطاس فكتب هذه الأبيات، قلت: ولم يجتمع الإمام الشافعي، ﵁، في هذه القدمة بأحمد بن حنبل، ولا بغيره من المحدثين، لأن أحمد، ﵀، كان عمره إذ ذاك عشرين سنة، أو نحوها، ولم يكن مشهورا، وإنما اجتمع بهم في القدمتين الأخرتين في سنة خمس وتسعين، وأقام ببغداد سنتين ثم رجع إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد في سنة ثمان وتسعين، فأقام أشهرا ثم خرج إلى مصر، فأقام بها حتى مات، ﵀ ورضي عنه، سنة أربع ومائتين، وكان سبب وروده بغداد في المرة الأولى بظلم أولئك النفر من أهل نجران عليه في أحكامه عليهم، وقد كان فيها بارا راشدا تابعا للحق، ﵀، ثم عاد إلى بلده وطلبه، وكان في جميع أحواله يطلب العلم، ولا يصده عن ذلك صاد، ولا يثنيه عنه راد. قال ابن أبي حاتم: ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي، ﵁: ما اشتد على فوت أحد مثل فوت ابن أبي ذئب، والليث بن سعد، رحمهما الله، وثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، عن أبي بكر بن إدريس وراق الحميدي، سمعت الحميدي، يقول: قال الشافعي، ﵁: خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما حان انصرافي مررت برجل في طريقي وهو محتبي بفناء داره أزرق العين ناتئ الجبهة سناط، فقلت: هل من منزل؟ قال: نعم، قال الشافعي، ﵁، وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة، فأنزلني، فرأيت أكرم رجل بعث إلي بعشاء، وطيب، وعلف لدابتي، وفراش ولحاف، وجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب، إذ رأيت هذا النعت في هذا الحال فلما أصبحت قلت للغلام: اسرج فأسرج، فركبت ومررت عله، وقلت له: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فسل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي، فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا؟ قلت: لا، قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ قلت: لا، قال: أد ما تكلفت لك البارحة، قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك طعاما بدرهمين، وإداما بكذا، وعطرا بثلاثة دراهم، وعلفا لدابتك بدرهمين، وكرا الفراش واللحاف بدرهمين، قال: قلت: يا غلام أعطه، فهل بقي من شيء؟ قال: كرا المنزل فإني وسعت عليك وضيقت على نفسي، قال الشافعي، ﵁: فغبطت نفسي بتلك الكتب فقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء، قال: امض أخزاك الله فما رأيت قط أشر منك. قلت الشافعي، ﵁، نشأ باليمن، كما تقدم، ثم قدم مكة مع أمه، ثم رجع إلى اليمن في حال الشبيبة فولي بها بعض الأعمال، وحمد فيها ثم رجع إلى مكة، فلامه على ذلك بعض العلماء، منهم: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وسفيان بن عيينة، وكانت موعظة سفيان أنجع عند الشافعي، ﵁، ثم بعد ذلك ولي الحكم بنجران، كما تقدم، وكان من أمره ما كان، وروى ابن عساكر بأسانيده، أن نائب اليمن كتب إلى الرشيد يشكو إليه من جماعة من الطالبيين، وكانوا ينسبون إلى التشيع، وأدمج معهم الإمام الشافعي، ﵁، فبعث الرشيد إلى نائب اليمن في طلبهم وأنهم يبعثون مثقلين بالحديد فلما دخل الشافعي، ﵁، بغداد، واجتمع بأمير المؤمنين، وجرى بينه وبين محمد بن الحسن مناظرات حسنة، وعرفوا فضل الشافعي، وإمامته، وسيادته، عظموه وأكرموه، وأنزله محمد بن الحسن في بعض منازله وأجرى عليه الإحسان والتفضيل وكانا يتناظران في الخلوة، قال الشافعي، ﵁: كانت فيه جدة في بحثه، وأطلق للشافعي، ﵁، قريب من ألفي دينار وكثر ماله لسببها، ويقال: إنه فرقها، إلا أنه قال: لم أملك مالا قبلها أكثر منها، وقيل: بل أطلق له الرشيد خمسة آلاف دينار، والله أعلم، وقد أعطى من هذا المال للقرشيين أكثره، أو عامته.
فصل في ذكر مشايخه في القراءة والحديث والفقه قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قراءة، أنا الشافعي، أنا إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، يعني: قارئ مكة، قال: قرأت على شبل، يعني: ابن عباد، وأخبره شبل أنه قرأ على عبد الله بن كثير، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أُبَيِّ بن كعب، وقرأ أُبَيُّ بن كعب على رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، قال الشافعي، ﵁: وقرأت على إسماعيل بن قسطنطين، وأما الحديث فرواه عن جماعة ذكرهم شيخنا الإمام الحافظ جمال الدين أبو الحجاج المزي، ﵀، في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم وكذلك الرواة عنه، وقد زدت في الرواة عنه مما ذكره الدارقطني وغيره، فقال شيخنا: روى عن إبراهيم بن سعد الزهري، وإبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، وإسماعيل بن جعفر المدني، وإسماعيل ابن علية البصري، وأبي ضمرة أنس بن عياض الليثي، وأيوب بن سويد الرملي، وحاتم بن إسماعيل المدني، وأبي أسامة حماد بن سلمة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وسعيد بن سالم القداح، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن الحارث المخزومي، وعبد الله بن المؤمل المخزومي، وعبد الله بن نافع الصائغ، ومات قبله، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعطاف بن خالد المخزومي، وعمرو بن أبي سلمة التنيسي، ومات قبله، ومالك بن أنس، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن خالد الجندي، ومحمد بن عثمان بن صفوان الجمحي، وعمه محمد بن علي بن شافع، ومسلم بن خالد الزنجي، ومطرف بن مازن قاضي صنعاء، وهشام بن يوسف الصنعاني القاضي، ويحيى بن حسان التنيسي، ويحيى بن سليم الطائفي، ويوسف بن خالد السمتي، وروى عنه أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وإبراهيم بن محمد الشافعي، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن خالد الخلال، وأحمد بن أبي سريج الرازي، وأحمد بن سنان القطان الواسطي، وأحمد بن صالح المصري، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري ابن أخي ابن وهب، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، وأحمد بن محمد الأزرقي، وأحمد بن محمد ابن سعيد الصيرفي البغدادي، وأحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي، وأبو عبد الرحمن الشافعي المتكلم، وأحمد بن يحيى بن الوزير المصري، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، وإسحاق بن بهلول، وأبو إسماعيل بن يحيى المزني، وبحر بن نصر بن سابق الخولاني، والحارث بن سريج النقال، وحامد بن يحيى البلخي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والحسن بن عبد العزيز الجروي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني البغدادي، والحسن بن علي الكرابيسي، والربيع بن سليمان المرادي المؤذن راوية كتبه، والربيع بن سليمان الجيزي، وسعيد بن عيسى الرعيني، وسليمان بن داود المصري، وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي، وأبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، وعبد العزيز بن عمران بن مقلاص، وعبد العزيز بن يحيى الكناني المكي صاحب الحيدة، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، وعلي بن سلمة اللبقي، وعلي بن معبد الرقي، وعمرو ابن سواد بن الأسود العامري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله الأسواني، وأبو يحيى محمد بن سعيد بن غالب العطار، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وابنه أبو عثمان محمد بن محمد بن إدريس الشافعي، ومحمد بن يحيى بن حسان التنيسي، ومحمد بن يحيى العدني، ومسعود بن سهل المصري الأسود، وأبو الوليد موسى بن أبي الجارود المكي، وهو راوي كتاب الأمالي وغيره، وهارون بن سعيد الأيلي، ويحيى بن عبد الله الخثعمي، وأبو يعقوب يوسف ابن يحيى البويطي، ويونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري رحمهم الله تعالى. قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم الآبري السجستاني، في كتاب مناقب الشافعي، ﵁: سمعت بعض أهل المعرفة بالحديث، يقولون: إذا قال الشافعي، ﵁، في كتبه: أنا الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك، وإذا قال: أنا الثقة، عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان، وإذا قال: أنا الثقة، عن الوليد بن كثير فهو أبو أسامة، وإذا قال: أنا الثقة عن الأوزاعي فهو عمرو بن أبي سلمة، وإذا قال: أنا الثقة، عن ابن جريج فهو مسلم بن خالد الزنجي، وإذا قال: أنا الثقة، عن صالح مولى التوأمة فهو إبراهيم بن أبي يحيى، أخرج له أصحاب السنن الأربع أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وذكره البخاري في موضعين من صحيحه أحدهما: في الركاز، وقال مالك، وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله، وكثيره الزكاة، وليس المعدن بركاز، والثاني: في البيوع، وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، لا تكون بالجزاف، ومما يقويه قول سهل بن أبي حثمة بالأوسق الموسقة، قلت: وإنما لم يخرج له صاحبا الصحيح لنزول إسناده عندهما وإلا فجلالته وإمامته مجمع عليها. قلت: ووقع لي من مصنفات الشافعي، ﵁، رواية مسنده المنتخب من كتاب الأم، ورواية الرسالة الكبيرة في أصول الفقه، والسنن من طريق المزني. وأما الفقه فأخذه الشافعي، ﵁، أولا عن مسلم بن خالد الزنجي بمكة، والزنجي تفقه على ابن جريج، وابن جريج أخذ الفقه عن عطاء بن أبي رباح وتفقه عطاء على ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما، وأولئك أخذوا عن رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وتفقه ابن عباس على عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم من الصحابة، ﵃، وأخذه الشافعي أيضا عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس وابن عمر، ﵃، ثم تفقه الشافعي، ﵁، بمالك بن أنس إمام دار الهجرة في زمانه، ومالك تفقه بشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، ومالك أيضا عن نافع، عن ابن عمر، ﵃ أجمعين. وأما الذين تفقهوا بالشافعي، ﵃، ومن بعدهم من الطبقات إلى زماننا، فسأفرد لهم ديوانا يجمع طبقات أصحاب المذهب من أصحاب الوجوه والمشهورين بحمله من المتقدمين منهم، والمتأخرين، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمستعان. قلت: ومن أجل من أخذ عنه، واجتمع به، وتفقه بكتبه الإمامان السيدان الكبيران الحبران شيخا السنة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه المروزيان. قال الحسن بن محمد الزعفراني: كنا نختلف إلى الشافعي عندما قدم إلى بغداد ستة أنفس: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحارث النقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، وأنا، ورجل آخر سماه، وما عرضنا على الشافعي كتبه إلا وأحمد بن حنبل حاضر لذلك، وقال الخطيب: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم، ثنا محمد بن خلف بن جيان الجلال، حدثني عمر بن الحسن، عن أبي القاسم بن منيع، حدثني صالح بن أحمد بن حنبل، قال: مشى أبي مع بغلة الشافعي، ﵁، فبعث إليه ابن معين، فقال: يا أبا عبد الله أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته؟ فقال: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك. وقال البيهقي: أنا الحاكم، أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر العدل، قال: وحدث عن أبي القاسم بن منيع، قال لي صالح بن أحمد: ركب الشافعي، ﵁، حماره فجعل أبي يسايره يمشي، والشافعي راكب وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين فبعث إلى أبي، فبعث إليه، إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار كان خيرا لك، هذا، أو معناه، وقال: أبو أحمد بن عدي، سمعت موسى بن القاسم بن موسى بن الحسن بن موسى الأشيب، يذكر عن بعض شيوخه، قال: لما قدم الشافعي، ﵁، بغداد لزمه أحمد بن حنبل يمشي مع بغلة له فأخلى الحلقة التي يقعد فيها أحمد، ويحيى، وأبو خيثمة وغيرهم، فوجه يحيى بن معين: إنك تمشي مع بغلة هذا الرجل، يعني: الشافعي، فوجه أحمد: لو كنت من الجانب الآخر كان أنفع لك، وقال الحافظ أبو نعيم، ثنا أحمد بن إسحاق: ثنا أحمد بن روح، ثنا محمد بن ماجه القزويني، قال: جاء يحيى بن معين يوما لأحمد بن حنبل، فبينما هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته، فوثب أحمد فسلم عليه وتبعه فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله لم هذا؟ فقال أحمد: دع هذا عنك إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة، قلت: الإمام أحمد، ﵀، عرف قدر الشافعي، ﵁، لما عنده من الفقه ويحيى بن معين لم يكن عنده من ذلك كما عند الإمام أحمد رحمهم الله، وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود، يقول: ما رأيت أحمد بن حنبل يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي، وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن الفضل القزاز، قال: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلت في مكان واحد معه، أو في دار، يعني: بمكة، وخرج أبو عبد الله، يعني: أحمد بن حنبل، باكرا، وخرجت أنا بعده فلما صليت الصبح وردت المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة فكنت أدور مجلسا مجلسا طلبا لأبي عبد الله أحمد بن حنبل حتى وجدت أحمد بن حنبل عند شاب أعرابي، وعليه ثياب مصبوغة وعلى رأسه جمة فزاحمت حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله، تركت ابن عيينة عنده الزهري، وعمرو بن دينار، وزياد بن علاقة، ومن التابعين ما أنت به عليم، فقال لي: اسكت، فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول لا يضرك في دينك ولا في عقلك ولا بفهمك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وقال ابن أبي حاتم، سمعت من أبي إسماعيل الترمذي، قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول كنا بمكة، والشافعي بها، وأحمد بن حنبل بها، فقال لي أحمد بن حنبل: يا أبا يعقوب، جالس هذا الرجل يعني الشافعي، قلت: وما أصنع به؟ سنه قريب من سننا، أترك ابن عيينة والمقري؟ فقال: ويحك، إن ذاك لا يفوت وهذا يفوت، فجالسته، قلت: هذا لعله كان في سنة ست، أو سبع وتسعين ومائة، بعد أن قدم الشافعي، ﵁، بغداد في سنة خمس وتسعين، فعرف أحمد ثم عاد إلى مكة، ورجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين كما سيأتي، وقال زكريا بن يحيى الساجي: حدثني محمد بن خلاد بن خالد البغدادي، حدثني الفضل بن زياد، عن أحمد بن حنبل، قال: هذا الذي ترون كله، أو عامته من الشافعي وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعي، وأستغفر له.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة فيما كتب إلي: ثنا أبو أيوب حميد بن أحمد البصري، قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث، فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه قول الشافعي، ﵁، وحجته أثبت شيء فيه، ثم قال: قلت للشافعي: وما تقول في مسألة كذا وكذا؟ قال: فأجاب فيها، فقلت: من أين قلتها؟ هل فيه كتاب، أو حديث؟ قال: بلى، فنزع في ذلك حديثا للنبي، ﷺ، وهو حديث نص، وروى البيهقي عن المروزي أنه سمع أحمد يقول: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرا قلت فيها بقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش ويروي عن النبي، ﷺ، أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علما»، وسيأتي هذا مسندا، وقال الخطيب: حدثني الحسن بن أبي طالب، حدثني علي بن عمر التمار، ثنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدثوني عن إبراهيم الحربي، أنه قال: قال أستاذ الأستاذين، قالوا: من هو؟ قال: الشافعي، أليس هو أستاذ أحمد بن حنبل، وقال الحاكم النيسابوري: سمعت الفقيه أبا بكر محمد ابن علي الشاشي، يقول: دخلت على ابن خزيمة وأنا غلام، فقال: يا بني، على من درست الفقه؟ فسميت له أبا الليث، فقال: على من درس؟ قلت: على ابن سريج، فقال: وهل أخذ ابن سريج العلم إلا من كتب مستعارة، فقال بعضهم: أبو الليث هذا مهجور بالشاشي فإن البلد للحنابلة، فقال ابن خزيمة: وهل كان ابن حنبل إلا غلاما من غلمان الشافعي. وقال ابن أبي حاتم: ثنا أحمد بن عثمان النحوي، سمعت أبا فديك الكسائي، يقول: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: كتبت إلى أحمد بن حنبل وسألته أن يوجه إليَّ من كتب الشافعي ما يدخل حاجتي فوجه إلي بكتاب الرسالة. قال: وثنا أبو زرعة، قال: بلغني أن إسحاق بن راهويه كتب له كتب الشافعي، فتبين في كلامه أشياء قد أخذه عن الشافعي، وقد جعله لنفسه، قال أبو زرعة: ونظر أحمد بن حنبل في كتب الشافعي. قال ابن أبي حاتم: وثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، قال: تزوج إسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل كان عنده كتب الشافعي وتوفي، لم يتزوج بها إلا لحال كتب الشافعي، ﵁، فوضع جامعه الكبير على كتاب الشافعي والجامع الصغير على جامع الثوري الصغير، قال: وأخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة فيما كتب إلي قال: قال أبو ثور: كنت أنا، وإسحاق بن راهويه، وحسين الكرابيسي، وذكر جماعة من العراقيين، ما تركنا بدعتنا حتى رأينا الشافعي، ﵁. وحدثنا أبو عبد الله الفسوي، عن أبي ثور، قال: لما ورد الشافعي، ﵁، العراق جاءني حسين بن علي الكرابيسي، وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي، فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه فقم بنا نسخر به، فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة فلم يزل الشافعي، ﵁، يقول: قال الله، قال رسول الله، ﷺ، حتى أظلم علنا البيت، وتركنا بدعتنا واتبعناه، وقال داود بن علي الأصبهاني الظاهري، وله كتاب فضائل الشافعي، ﵁: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا، وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة، فسألته عن أشياء، فرأيته رجلا فصيحا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد كان أوتي فهما في القرآن لو كنت عرفته للزمته، قال داود: فرأيته يتأسف على ما فاته من الشافعي، ﵁، قال داود: عبد العزيز المكي، أحد من له فهم بالقرآن، كان أحد أصحاب الشافعي، ﵁، وممن أخذ عنه، رواه ابن عساكر. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة، يقول: كتبت كتب الشافعي من الربيع أيام يحيى بن عبد الله بن بكير سنة ثمان وعشرين ومائتين، وعندما عزمت على سماع كتب الشافعي بعت ثوبين رقيقين كنت حملتهما لأقطعهما لنفسي فبعتهما، وأعطيت الوراق، قال: وسمعت أبي، يقول: قال لي أحمد بن صالح: تريد أن تكتب كتب الشافعي؟ قلت: نعم لا بد أن أكتبها فهذه أسانيد جيدة تدل على أن كلا من هؤلاء الأئمة ﵏ حذا حذوه، واتبع أثره، وسلك مسالكه في النظر والاستنباط، فإذا عد العاد قول أبي ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والمزني، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأضراب هؤلاء وجوها في مذهب الشافعي، ﵁، جاز أن يقال مذهب الإمام أحمد يعد وجها في مذهب الشافعي، ﵀، فإنه قد ذكره جماعة من العلماء معدودا من جملة أصحاب الشافعي، منهم: أبو داود السجستاني، داود بن علي الظاهري، والحربي، وأبو إسحاق الشيرازي في الطبقات، وكذا قول إسحاق بن راهويه، كما ذكروا قول ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن سريج وغيرهم من أئمة المذهب وجوها في المذهب يعني أنها معتبرة في مذهب الشافعي، فللحاكم أن يحكم بها، وللمفتي أن يفتي بها، لأنها مؤصلة على تأصيل الشافعي، ومأخوذة من طريقته في الاستنباط، فإنه قد نص في غير موطن على أنه إذا صح الحديث فهو مذهبه، وقال للإمام أحمد: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث أعلمني به أذهب إليه حجازيا كان، أو عراقيا، أو شاميا، أو يمينا، وسيأتي ذكر هذا كله في موضعه، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. وقال البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله الذبياني، سمعت أبا الهبير سهل بن عبد الصمد الرقي، سمعت داود بن علي هو الأصبهاني، يقول: اجتمع للشافعي، ﵁، من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأول ذلك شرف نسبه ومنصبه، وأنه من رهط النبي، ﷺ، ومنها صحة الدين وسلامة المعتقد من الأهواء والبدع، ومنها سخاوة النفس، ومنها معرفته بصحيح الحديث وسقيمه، ومنها معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها حفظه لكتاب الله، وحفظه لأخبار رسول الله، ومعرفته بسير النبي، ﷺ، وبسير خلفائه، ﵃، ومنها كشفه لتمويه مخالفيه، ومنها تأليفه الكتب القديمة والجديدة، ومنها ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة، مثل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، في زهده وعلمه وورعه وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، والحسين الفلاس، وأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبي الوليد موسى بن أبي الجارود، والحارث بن سريج النقال، وأحمد بن خالد الخلال، والقائم بمذهبه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ولم يتفق لأحد من العلماء والفقهاء ما اتفق له. قال البيهقي: إنما عد داود من أصحاب الشافعي، ﵁، طائفة يسيرة، وقد عد أبو الحسن الدارقطني، من روى عنه من أحاديثه وأخباره وكلامه زيادة على مائة، مع قصور سنه عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما يكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنه الستين، أو السبعين، والشافعي، ﵁، لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين سنة. قال: وأنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، ثنا الفضل بن الفضل الكندي، ثنا زكريا بن يحيى الساجي، قال: قلت لأبي داود السجستاني: من أصحاب الشافعي؟ قال: أولهم عبد الله بن الزبير الحميدي، وأحمد بن حنبل، ويوسف بن يحيى، وأبو يعقوب البويطي، والربيع بن سليمان، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأبو الوليد بن أبي الجارود المكي، والحسن بن محمد الزعفراني، والحسين بن علي الكرابيسي، وإسماعيل بن يحيى المزني، وحرملة بن يحيى، قال: ورجل ليس بالمحمود أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى الذي يقال له الشافعي، وذلك أنه بدل وقال بالاعتزال، هؤلاء ممن تكلم في العلم وعرفوا به من أصحابه. وأما أنا فأخذت الفقه في مذهب الإمام الشافعي، ﵁، أولا عن الإمام العالم المحقق محيي الدين أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن خليل بن فارس الشيباني الشافعي الحاكم، ﵀، وهو أخذ الفقه عن الشيخ الإمام العلامة العابد الزاهد الورع ضابط المذهب محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النواوي، نَوَّرَ الله ضريحه، وقال: أخذت الفقه عن أبي الحسن سلار بن الحسن الإربلي ثم الدمشقي وهو الإمام المجمع على جلالته وإمامته وتقدمه يا رسول الله علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي، وهو أخذه عن جماعة، منهم: أبو بكر الماهاني، عن أبي القاسم بن البزري الجزري، عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي الكيا الهراسي. ثم أخذت الفقه أيضا، عن شيخنا الإمام العلامة شيخ المذاهب برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن الشيخ الإمام العلامة تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري، وغير واحد من أصحاب الشيخ تاج الدين المذكور، رحمة الله عليهم كلهم عنه، وهو تفقه بالشيخ الإمام عز الدين أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام، وهو تفقه على الفخر بن عساكر عن الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوري عن الإمام أبي سعد عمر بن سهل بن سعد الدامغاني، عن أبي حامد الغزالي الطوسي، والغزالي الكيا الهراسي تفقها على إمام الحرمين واسمه أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، وهو أخذه عن أبيه الشيخ أبي محمد الجويني، عن أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير إمام الطريقة الخراسانية، عن أبي زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي العباس أحمد بن عمر بن سريج، عن أبي القاسم عثمان بن بشار الأنماطي، عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإمام العالم أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ﵀، ورضي عنه.
فصل في ذكر فضائله، وثناء الأئمة عليه، ﵏ أجمعين أنا شَيْخُنَا الإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ ابْنُ الزَّكِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ الْمِزِّيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ ابْنُ الْبُخَارِيِّ الْمَقْدِسِيُّ، أنا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، أنا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أنا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ الأَصْبَهَانِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَارِسٍ، ثنا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثنا دَاوُدُ، هُوَ: الطَّيَالِسِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ مَعْبَدٍ الْكِنْدِيِّ، أَوِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ: «لا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ الأَرْضَ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَابًا، أَوْ وَبَالا، فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالا» . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَذِّنُ، ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ: أَبُو نُعَيْمٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، ثنا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، ثنا ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ﵁، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ طِبَاقَ الأَرْضِ عِلْمًا، اللَّهُمَّ كَمَا أَذَقْتَهُمْ عَذَابًا فَأَذِقْهُمْ نَوَالا» . وَدَعَا بِهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قال عبد الملك بن محمد أبو نعيم: هذه الصفة لا تنطبق إلا على الشافعي، ﵁، هذا حاصل كلامه وبالإسناد المتقدم إلى الخطيب: أنا أبو نعيم الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود العبدي، ثنا عثمان بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، ﵁، قال: لا أعلمه إلا عن النبي، ﷺ، قال: «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو الفضل بن أبي نصر العدل، أخبرنا أبو الحسن، محمد بن أيوب بن يحيى بن حبيب، بمصر: سمعت أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزاز، يقول: سمعت عبد الملك الميموني، يقول: كنت عند أحمد بن حنبل، وجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه، وقال: يروى عن النبي، ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها»، فكان عمر بن عبد العزيز، ﵁: على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي عل رأس المائة الأخرى. قال البيهقي: وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، حدثنا أبو عبد الله، محمد بن العباس العصمي، حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن ياسين الهروي، سمعت إبراهيم بن إسحاق الأنصاري، يقول: سمعت المروروذي، يقول: " قال أحمد بن حنبل: إذا سئلت عن مسألة، لا أعرف فيها خبرا، قلت فيها بقول الشافعي، ﵁، لأنه إمام عالم من قريش، وقد روى عن النبي، ﷺ، أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علما»، وذكر في الخبر: «إن الله يقيض في رأس كل مائة سنة رجلا يعلم الناس دينهم» . وروى أحمد بن حنبل ذلك عن رسول الله، ﷺ، قال أحمد: فكان في المائة الأولى: عمر بن عبد العزيز، ﵁، وفي المائة الثانية: الشافعي، ﵁، قال أبو عبد الله: وإني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي، وقال أبو سعيد الفريابي: قال أحمد بن حنبل: «إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله، ﷺ، الكذب»، فنظرنا، فإذا في رأس المائة: عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين: الشافعي، ﵄. وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت مالكا يقول: ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى، يعني: الشافعي. وقال ابن عبدي: سمعت عبدان، يقول: سمعت عمرو بن العباس يقول: قيل لعبد الرحمن بن مهدي: إن الشافعي لا يورث المرتد؟ فقال عبد الرحمن: إن الشافعي شاب مفهم، لأن رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، قال: «لا يتوارث أهل ملتين» . وقال أبو ثور: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي، ﵁، وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ المنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة. قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو الله للشافعي فيها. وقال ابن أبي الدنيا: سمعت أبا بكر بن خلاد يقول: سمعت ابن مهدي يقول: أنا أدعو الله في دبر صلاتي للشافعي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: أخبرت عن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: إني لأدعو الله للشافعي، في كل صلاة، أو في كل يوم، يعني: لما فتح الله عليه من العلم، ووفقه للسداد فيه. وقال الحافظ أبو أحمد بن الحسين البيهقي، ﵀: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني الزبير بن عبد الواحد، سمعت الحسن بن سفيان، سمعت الحارث بن سريج النقال، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان، يقول: أنا أدعو الله للشافعي، أخصه بذلك، وبه قال الزبير بن عبد الواحد، سمعت عبدان الأهوازي، يقول، حدثني محمد بن الفضل: حدثنا هارون قال: ذكر يحيى بن سعيد القطان الشافعي، فقال: ما رأيت أعقل، أو أفقه، منه، قال: وعرض عليه كتاب الرسالة له، وروى الحافظ ابن عساكر، عن ابن مهدي أنه، قال: لما نظرت في كتاب الرسالة للشافعي أذهلتني، لأني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، وإني لأكثر الدعاء له. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ حَاضِرٌ، فَحَدَّثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ﵄، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، مَرَّ بِهِ رَجُلٌ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ، فَقَالَ: «تَعَالَ، هَذِهِ امْرَأَتِي صَفِيَّةُ» . فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ» فقال ابن عيينة للشافعي، ﵁: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ قال: إن كان القوم اتهموا رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، كانوا، بتهمتهم إياه، كفارا، لكن رسول الله، أدب من بعده، فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا، حتى لا يظن بكم، لا أن النبي، ﷺ، يتهم، وهو أمين الله في أرضه، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله، ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه. وقال زكريا الساجي: حدثني ابن بنت الشافعي، ﵁، قال: سمعت أبي وعمي يقولان: كنا عند ابن عيينة، وكان إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا يسأل عنها، يلتفت إلى الشافعي فيقول: سلوا هذا. وقال أبو سعيد زياد: حدثنا تميم بن عبد الله أبو محمد: سمعت سويد بن سعيد، يقول: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة، فجاء الشافعي، فسلم عليه وجلس، فروى ابن عيينة حديثا رقيقا، فغشى على الشافعي، فقيل: يا أبا محمد! ما ابن إدريس، فقال عيينة: إن كان مات ابن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه. وقال الدارقطني: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل النابلسي الشهيد، حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي، سمعت تميم بن عبد الله الرازي، سمعت أبا زرعة، سمعت قتيبة، يقول: مات الثوري، ومات الورع، ومات الشافعي ومات السنن، ويموت أحمد بن حنبل كذا وتظهر البدع. وقال قتيبة بن سعيد: الشافعي إمام. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا أعقل من الشافعي، وفي رواية: ما رأيت رجلا قط أعقل ولا أورع ولا أفصح من الشافعي، وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحدا أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي، لوسعهم عقله. وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، عن الربيع، أنه قال: لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض، لرجحهم، ولو كان في بني إسرائيل احتاجوا إليه. وعن معمر بن شبيب قال: سمعت المأمون يقول: قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملا.
وقال زكريا بن يحيى الساجي: حدثنا أبو جعفر الترمذي، حدثني أبو الفضل الواشجردي، سمعت أبا عبد الله الصاغاني، قال: سألت يحيى بن أكثم، عن أبي عبيد القاسم بن سلام والشافعي، أيهما أعلم عندك؟ فقال يحيى: كان أبو عبيد يأتينا ههنا، وكان رجلا إذا ساعدته الكتب، كان حسن التصنيف من الكتب، ويرتبها بحسن ألفاظه لاقتداره على العربية. وأما الشافعي فقد كان عند محمد بن الحسن كثيرا في المناظرة، فكان رجلا: قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل، والفهم والدماغ، سريع الإصابة، أو كلمة نحوها، ولو كان أكثر سماعا للحديث لاستغنى أمة محمد، ﷺ، عن غيره من الفقهاء. وقال أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي: سمعت خضر بن داود، سمعت الحسن بن محمد الزعفراني يقول: قال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوما، فبلسان الشافعي، يعني: لما وضع كتبه، رواه ابن عساكر. وقال ابن أبي حاتم: أخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة، فيما كتب إلي: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الدينوري، قال: سمعت أحمد بن حنبل، قال: كانت أقفيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، ما كان يلقنه كان قليل الطلب في الحديث. قلت: معنى قل طلبه للحديث: إنه لم يكثر من السماع على مشايخ الحديث، ولم يمعن في الرحلة فيه، بل قد كان عنده علوم كثيرة وبلاغ عظيم. وقد سئل إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: هل تعلم سنة لم تبلغ الشافعي؟ فقال: لا، قلت ومعنى هذا أنه ليس ثم سنة معتمد عليها في الأصول والفروع إلا وقد بلغت الشافعي، لكن قد تبلغه من وجه لا يرتضيه، فلذلك يقف في بعضها، أو يعدل عنها، أو يعلق القول على صحتها، والله أعلم. وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي: حدثنا زكريا الساجي، حدثني داود الأصبهاني، سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله، قال: فجاء فأقامني على الشافعي، وهذا صحيح، وقد تقدم مع غيره. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمر ابن السماك شفاها، أن عبد الله بن أحمد حدثه، قال: قال لي أبي: كنت أجالس محمد بن إدريس الشافعي، فكنت أذاكره بأسماء الرجال، وكان أبي يصف الشافعي فيطنب في وصفه، وقد كتب أبي عنه حديثا كثيرا، وكتب من كتبه بخطه بعد موته أحاديث عدة، مما سمعه من الشافعي، ﵁. وقال البيهقي: أخبرنا محمد بن الحسين السلمي، سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت أبا القاسم بن منيع، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: كان الفقه قفلا على أهله، حتى فتحه الله بالشافعي. وقال الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا عبد الله بن جعفر بن شاذان، حدثنا عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث. وقال الميموني: قال أحمد: خمسة أدعو لهم سحرا: أحدهم الشافعي. وقال الحاكم: حدثني أبو الحسن: أحمد بن محمد السري المقري بأبيورد، حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الأشقر البغدادي: سمعت الفضل بن زياد العطار، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما أحد مس محبرة وقلما، إلا وللشافعي في عنقه منة. وقال زكريا الساجي: ثنا جعفر بن أحمد، قال: قال أحمد بن حنبل: كلام الشافعي، ﵁، في اللغة حجة. وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الزبير بن عبد الواحد، حدثني أبو المؤمل العباس بن الفضل، سمعت محمد بن عوف: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه. وقال إبراهيم الحربي: سألت أحمد بن حنبل عن الشافعي؟ فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران، قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما لك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب حتى ظهرت أتبع للسنة من الشافعي. وقال ابن عساكر: أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني، قراءة، أخبرنا عبد الدائم بن الحسن، أنبأنا عبد الوهاب بن الحسن الكلابي، إجازة، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الهروي، حدثني محمد بن يعقوب الفرجي، قال: سمعت علي ابن المديني يقول لعلي بن المبارك، وقد ذكر مسألة، فقال له علي ابن المديني: عليكم بكتب الشافعي. وحدثني محمد بن يعقوب، سمعت محمد بن علي المديني، يقول: قال لي أبي: لا تترك للشافعي حرفا واحدا إلا كتبته، فإن فيه معرفة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت دبيسا، قال: كنت مع أحمد بن حنبل في المسجد الجامع، فمر حسين، يعني: الكربيسي، فقال: هذا، يعني: الشافعي، رحمة من الله تعالى لأمة محمد، ﷺ، ثم جئت إلى حسين، فقلت: ما تقول في الشافعي؟ فقال: ما أقول في رجل ابتدأ في أفواه الكتاب، والسنة، والاتفاق؟ ! وما كنا ندري ما الكتاب والسنة، نحن ولا الأولون، حتى سمعنا من الشافعي، ﵁: الكتاب، والسنة، والإجماع. قال: وحدثنا علي بن الحسن الهسنجاني، قال: سمعت أبا إسماعيل الترمذي، قال: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: ما تكلم أحد بالرأي، وذكر الثوري والأوزاعي ومالكا، وأبا حنيفة، إلا والشافعي أكثر اتباعا، وأقل خطأ منه، والله أعلم. وقال ابن عدي: سمعت منصور بن إسماعيل الفقيه، ويحيى بن زكريا، يقولان: سمعنا أبا عبد الرحمن النسائي، يقول: سمعت عبيد الله بن فضالة النسائي، الثقة المأمون، يقول: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: الشافعي إمام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم: سمعت أبا إسحاق الشافعي، يعني: إبراهيم بن محمد، وذكر محمد بن إدريس، فقال هو ابن عمي، وعظمه، وذكر من قدره وجلالته، يعني في العلم. وروى الخطيب عن أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، أنه كان إذا ذكر عنده الشافعي، يقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعي. وقال زكريا الساجي: حدثني ابن بنت الشافعي: سمعت أبا الوليد بن أبي الجارود، يقول: ما رأيت أحدا إلا وكتبه أكبر من مشاهدته، إلا الشافعي، فإن لسانه كان أكبر من كتابه. وقال زكريا: حدثني أبو بكر بن سعدان: سمعت هارون بن سعيد الأيلي، يقول: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب، لاقتداره على المناظرة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: محمد بن إدريس: فقيه البدن، صدوق، وقال الزبير بن عبد الواحد: سمعت عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، بمصر، يقول: سمعت أبا زرعة الرازي، يقول: ما عند الشافعي حديث غلط فيه. ونقل نحوه عن أبي داود، والله أعلم. وقال أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، سمعت إسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان، يقول: سمعت جدي: سمعت أبا ثور، يقول: ما رأينا مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي مثل نفسه، قال أبو بكر الخطيب: أخبرنا أبو الحسن أحمد ابن محمد المجهز: سمعت عبد العزيز الحنبلي، صاحب الزجاج، يقول: سمعت أبا الفضل الزجاج، يقول: لما قدم الشافعي إلى بغداد، وكان في المسجد: إما نيف وأربعون، أو خمسون حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة، ويقول لهم: قال الله، قال الرسول، وهم يقولون: قال أصحابنا، حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره. قلت: ولهذا قال حرملة: سمعت الشافعي، يقول: سميت ببغداد ناصر الحديث. وقال الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أحمد كامل القاضي، حدثني أبو الحسين القواس، حدثني ابن بنت الشافعي، سمعت الزبير بن بكار يقول: قال لي عمي مصعب: كتبت عن فتى من بني شافع، من أشعار هذيل ووقائعها، وقرأ: لم تر عيناني مثله، قال: قلت: يا عم، أنت تقول لم تر عيناني مثله! قال: نعم لم تر عيناني مثله. وقال ابن أبي حاتم: في كتابي عن الربيع بن سليمان، سمعت أيوب بن سويد يقول: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل هذا الرجل: ما رأيت مثل هذا الرجل قط، وقد رواه ابن عدي: حدثنا يحيى بن زكريا بن حيويه، وإبراهيم بن إسحاق بن عمر، قالا: حدثنا الربيع، سمعت أيوب بن سويد، يقول: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي، وقد رأى الأوزاعي. قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الوليد الفقيه، حدثنا إبراهيم بن محمود، قال: سمعت الزعفراني، يقول: ما رأيت مثل الشافعي: أفضل، ولا أكرم، ولا أسخى، ولا أتقى، ولا أعلم منه، وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت أبي ويوسف بن يزيد يقولان: ما رأينا مثل الشافعي. وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، يقول: ما أحد ممن خالفنا، يعني: خالف مالكا، أحب إلى من الشافعي. وقال أبو بكر الخطيب: أخبرنا محمد بن علي بن أحمد المقري، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، بالكوفة، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حاتم بن إدريس البلخي، أخبرنا نصر بن المكي، حدثنا ابن عبد الحكم، قال: ما رأينا مثل الشافعي: كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون إليه، فيعرضون عليه، فربما أعل نقد النقاد منهم، ويوقفهم على غوامض من نقد الحديث، لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون، ويأتيه أصحاب الفقه: المخالفون والموافقون، فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والدراية. ويجيئوه أصحاب الأدب، فيقرئون عليه الشعر، فيفسره، ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها. وكان من أضبط الناس للتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل، وصحة دين، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله. قال ابن عدي: حدثني محمد بن القاسم بن سريج، سمعت محمد بن عبد الله المعمري، سمعت الجاحظ، يقول: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا، فلم أر أحسن تأليفا من المطلبي، كأن كلامه نظم درا إلى در. وقال زكريا الساجي: سمعت هارون بن سعيد الأيلي، يقول: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئناه وهو يصلي، فما رأيت أحسن صلاة، ولا أحسن وجها منه، فلما تكلم، ما رأينا أحسن كلاما منه، فافتتنا به. وقال زكريا بن يحيى: حدثني الحسن بن محمد الزعفراني، قال: حج بشر، المريسي سنة إلى مكة، ثم قدم، فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا، يعني: الشافعي، ﵁. قال: فقدم الشافعي علينا، بعد ذلك، بغداد، فاجتمع إليه الناس، وخفوا عن بشر، فجئت إلى بشر يوما، فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم، قد قدم علينا، فقال: إنه قد تغير عما كان عليه. قال الزعفراني: فما كان مثله إلا مثل اليهود في أمر عبد الله بن سلام، حيث قالوا: سيدنا وابن سيدنا: فلما أسلم؟ قالوا: شرنا وابن شرنا. فهذه شهادات الموافقين والمخالفين ... والفضل ما شهدت به الأعداء وقال ابن عدي: سمعت يحيى بن زكريا بن حيويه، يقول: سمعت هاشم بن مرثد الطبراني، يقول: سمعت يحيى بن معين، يقول: الشافعي صدوق، لا بأس به. وقال زكريا الساجي: حدثنا أحمد بن روح البغدادي، سمعت الزعفراني، يقول: كنت مع يحيى بن معين في جنازة، فقلت له: يا أبا زكريا! ما تقول في الشافعي؟ فقال: دعنا، لو كان الكذب له مطلقا، لكانت مروءته تمنعه أن يكذب. وقال الحسن بن محمد الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودا، حتى جاء الشافعي، فأيقظهم، فتيقظوا. وقال الربيع: كان أصحاب الحديث لا يعرفون مذاهب الحديث وتفسيره حتى جاء الشافعي.
فصل في معرفته بالكتاب والسنة، ومتابعته لهما ووقفه عندهما، ﵁ قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرنا أبو الوليد، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبيدة، قال: كنا نسمع من يونس بن عبد الأعلى تفسير زيد بن أسلم، فقال لنا يونس: كنت أولا أجالس أصحاب التفسير، وأناظر عليه، فكان الشافعي إذا أخذ في التفسير، كأنه شهد التنزيل، وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت أحدا أقدر على معاني القرآن، والعبارة على المعاني، والاستشهاد على ذلك من قول الشعر واللغة منه، رواه ابن عساكر. وروى البيهقي، عن الحاكم، عن الزبير بن عبد الواحد، عن أبي سعيد: محمد بن عقيل الفاريابي، عن الربيع، أو المزني: إن شيخا سأل الشافعي، ﵁، عن الحجة في الدين؟ فقال: كتاب الله وسنة رسول الله، ﷺ، واتفاق الأمة، فقال له الشيخ: من أين قلت: اتفاق الأمة، أمن الكتاب، أو السنة؟ فقال: من كتاب الله، فقال: من أين هذا في كتاب الله تعالى؟ قد أجلتك ثلاثة أيام، فإن جئت بحجة، وإلا تبت إلى الله، فلما كان اليوم الثالث، وجاء الشيخ، تلا عليه الشافعي، قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥] . قال الشافعي، ﵁: لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض، قال: فقال الشيخ: صدقت، وقام فذهب. وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الماليني، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، حدثنا عبد الله بن وهب، يعني: الدينوري، حدثنا عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي، سمعت الشافعي محمد بن إدريس بمكة، يقول: سلوني ما شئتم أجبكم من كتاب الله ومن سنة رسول الله، قال: فقلت له: أصلحك الله: ما تقول في المحرم يقتل زنبورا؟ فقال: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر ". وحدثنا سفيان، عن مسعر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، ﵁، أنه أمر المحرم بقتل الزنبور، ورواها ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الله بن وهب الدينوري بها، وجعل ذلك ببيت المقدس. واستأنس ابن عساكر لذلك في إيراد الشافعي في تاريخ دمشق، لأنه دخل الشام، وقال: لعله سئل عن ذلك مرتين في الموضعين، والله أعلم. وقال البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم محمد بن يعقوب، عن الربيع، عن الشافعي، أنه قال: الأصل كتاب الله، أو سنة، أو إجماع الناس، أو قول بعض أصحاب رسول الله، ﷺ. وهذا من أدل الدليل على أن مذهبه: أن قول الصحابي حجة، وهو الذي عول عليه البيهقي وغيره من الأصحاب، وزعم الأكثرون منهم: الشيخ أبو حامد الإسفراييني، أنه رجع عن هذا في الجديد، ورأى فيه أن قول الصحابي ليس بحجة، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع، قال: سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه فقال: وددت أن الخلق تعلمه ولا ينسب إلى منه شيء أبدا، وحدثنا أبي: حدثني حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي، يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أوجر عليه، ولا يحمدوني. وقال البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي، يقول: سمعت يحيى بن منصور القاضي، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة، وقلت له: هل تعرف سنة لرسول الله، ﷺ، في الحلال والحرام، لم يودعها الشافعي في كتابه؟ قال: لا. قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: قال أبو الوليد الفقيه، حدثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني، حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، يقول: سمعت الشافعي، يقول: لولا أن يطول على الناس لوضعت في كل مسألة جزء حجج وبيان. وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا بحر بن نصر الخولاني المصري، قال: قدم الشافعي من الحجاز، فبقى أربع سنين بمصر، ووضع هذه الكتب في أربع سنين، ثم مات. وكان أقدم معه من الحجاز كتب ابن عيينة، وخرج إلى يحيى بن حسان، فكتب عنه، وأخذ كتبا من أشهب بن عبد العزيز، يقال فيه آثار وكلام من كلام أشهب، وكان يضع الكتب بين يديه، ويصنف الكتب، فإذا ارتفع له كتاب: جاءه كاتب يقال له: ابن هرم فيكتب، ويقرأ عليه البويطي، ويجمع من يحضر ليسمع، فيعلم في كتاب ابن هرم ثم ينسخونه بعد، فكان الربيع على حوائج الشافعي، فربما غاب في حاجة، فيعلم له، فإذا رجع، قرأ الربيع عليه ما فاته. وقال البويطي: سمعت الشافعي، ﵁، يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه. وقال البيهقي: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الأصم، عن الربيع، سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، ﷺ، فقولوا بها، ودعوا ما قلته. وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن الربيع: سمعته يقول. وقال له رجل: يا أبا عبد الله تأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويت عن رسول الله، ﷺ، حديثا صحيحا، ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، يقول: وذكر نحوه، وقال: سمعته، يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن رسول الله، ﷺ، حديثا ولم أقل به، رواه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو ابن السماك، عن أبي سعيد الجصاص، عن الربيع. وقال الحميدي: روى الشافعي يوما حديثا، فقلت: أتأخذ به؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة وعلى زنار؟ حتى إذا سمعت من رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، حديثا لا أقول به! . وقال ابن أبي حاتم: عن أبي محمد البستي السجستاني، فيما كتب إليه، قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي، يقول: كل حديث عن رسول الله، ﷺ، فهو: قولي، وإن لم تسمعوه مني، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: سمعت حرملة بن يحيى، يقول: قال الشافعي: كل ما قلت فكان عن النبي، ﷺ، خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله، ﷺ، أولى فلا تقلدوني. وقال القاضي أبو عمر البسطامي: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الجارود: سمعت المزني، يقول: سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم سنة، فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد. وعن البويطي، قال: سئل الشافعي: كم أصول الأحكام؟ قال خمس مائة، فقيل له: كم أصول السنن؟ قال: خمس مائة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا، رواه الخطيب البغدادي، عن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي القاسم الطبراني، قال: سمعت عبد الله بن أحمد يذكره عن أبيه. وقال ابن أبي حاتم: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل، فيما كتب إلي، قال: قال أبي: قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا، فأعلموني، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا، حتى أذهب إليه، إذا كان صحيحا، ورواه البيهقي من غير وجه عن عبد الله بن أحمد يذكره، ثم قال: وإنما أراد حديث أهل العراق، لأن المتقدمين من أهل الحجاز كانوا لا يفكرون في رواية أهل العراق، ولا يأخذون بها، لما بلغهم من مساهلة بعضهم في الرواية، فلما قام لعلم حديثهم، ومعرفة رواية حفاظهم، وميزوا صحيح الحديث من سقيمه، أخذ الشافعي بما صح من ذلك. وكان أحمد بن حنبل من أهل العراق، وكان قد عرف من أحوال رواتهم، ما عساه يخفي على علماء الحجاز في ذلك، فرجع الشافعي إليه في معرفة أحوال رواة الحديث من أهل العراق، ثم كان الشافعي أعرف منه بأحوال رواة الحجاز وذلك بين في مذاكرتهما، انتهى كلامه.
كلامه في أصول العقائد قال الإمام أحمد بن حنبل: كان الشافعي إذا ثبت عنده الحديث قلده، وخير خصائله لم يكن يشتهي الكلام، إنما همته الفقه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع قال: أخبرني من سمع الشافعي، يقول: لأن يلقى الله المرء بكل ذنب، خلا الشرك بالله ﵎، خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء، ورواه غير واحد عن الربيع، أنه سمع الشافعي يقول ذلك. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي، يقول: لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء، لفروا منه، كما يفر من الأسد، وقال أبو ثور وغير واحد عن الشافعي، ﵀، أنه قال: حكمي في أصحاب الكلام أن يطاف بهم في القبائل، وينادي عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. قال أبو نعيم بن عدي، وغيره: قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي، سمع الشافعي، يقول: حكمي في أهل الكلام: حكم عمر في صبيغ. وقال البويطي: سمعت الشافعي، يقول: عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر الناس صوابا، وعن الشافعي، قال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب النبي، ﷺ، جزاهم الله خيرا، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. وقال محمد بن إسماعيل: سمعت الحسين بن علي الكرابيسي، يقول: قال الشافعي: كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد، وما سواه فهو هذيان. وعن الشافعي، ﵁، أنه أنشد: كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين وقال ابن خزيمة: سمعت الربيع، يقول: لما كلم الشافعي حفصا الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال له الشافعي، ﵁، كفرت بالله العظيم. ورواه ابن أبي حاتم، عن الربيع: حدثني من أثق به، وكنت حاضرا في المجلس، فقال حفص الفرد: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم. وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم: أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر العدل، حدثني حمك بن عمرو العدل، حدثنا محمد بن عبد الله بن فورش، عن علي بن سهل الرملي، أنه قال: سألت الشافعي، ﵁، عن القرآن، فقال: كلام الله غير مخلوق. قلت: فمن قال بالمخلوق، عما هو عندك؟ قال لي: كافر بالله، وقال الشافعي، ما لقيت أحدا منهم، يعني: من أستاذيه، إلا قال: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. وقال الربيع: سمعت الشافعي، يقول في قول الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، علمنا بذلك أن قوما غير محجوبين ينظرون إليه، لا يضامون في رؤيته، كما جاء عن النبي، ﷺ، أنه قال: «ترون ربكم كما ترون الشمس، لا تضامون في رؤيتها» . وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا محمد، جعفر بن محمد بن الحارث، يقول سمعت أبا عبد الله الحسين بن محمد بن الضحاك، المعروف بابن بحر، يقول: سمعت أبا إسماعيل بن يحيى المزني، يقول: سمعت ابن هرم، يعني: إبراهيم بن محمد بن هرم، وكان من علية أصحاب الشافعي، يقول: سمعت الشافعي، يقول في قول الله، ﷿: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، فلما حجبهم في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا، فقال له أبو النجم القزويني: يا أبا إبراهيم، به تقول؟ قال: نعم، وبه أدين الله، فقام إليه عصام فقبل رأسه، وقال: يا سيد الشافعيين، اليوم بيضت وجوهنا. وقد روي من غير وجه عن الشافعي نحوه. وقال ابن خزيمة: أنشدنا المزني، قال: أنشدنا الشافعي، لنفسه: ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن ورواه البيهقي، عن عبد الرحمن السلمي: سمعت أحمد بن محمد بن مقسم، أخبرني بعض أصحابنا، أخبرني المزني، قال: دخلت على الشافعي في مرضه، الذي مات فيه، فأنشدني لنفسه، فذكر هذه الأبيات. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني الزبير بن عبد الله بن عبد الواحد الحافظ، حدثنا أبو أحمد حامد بن عبد الله المروزي، حدثنا عمران بن فضالة، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: سئل الشافعي عن القدر، فأنشأ يقول: وذكرها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: سمعت حرملة بن يحيى، قال: اجتمع حفص الفرد، ومصلان
وبعد، فقد تطابقت دلالة الكتاب والسنة على شرف العلم وفضله ومدح حامليه وأهله، والتنبيه على ما خصوا به من التقديم ومعاملتهم بالإكرام والتعظيم كما قال تعالى فِي محكم كتابه الكريم: ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [آل عمران: ١٨]، فقرن شهادتهم بشهادته وشهادة الملائكة المقربين، وهذه مزية عظيمة اختصوا بها فِي العالمين. ولما كان الشافعي، ﵁، من أعظمهم قدرا وأجلهم خطرا، وأغزرهم علما، وأكثرهم حلما، أحببت أن أذكر شيئا من أحواله، وأن أنبه على مكارمه، وصالح أعماله، وأترجم بعد ذلك أصحابه ومتبعيه إلى زماننا هذا، وبالله المستعان. فهو الإمام العالم أحد أئمة الإسلام وفقهاء الأنام أبو عبد الله محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان القرشي المطلبي، يجتمع مع رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، فِي عبد مناف بن قصي، هكذا نَسَبَهُ الربيع بن سليمان وغيره، قال: وهو ابن عم رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وهو ممن تحرم عليه الصدقة من ذوي القربى الذين لهم سهم مفروض فِي الخمس وهم بنو هاشم وبنو المطلب. قال الحافظ أبو بكر الخطيب: سمعت القاضي أبا الطيب طاهر بن عبد الله الطبري، يقول: شافع بن السائب الذي ينسب إليه الشافعي، ﵁، قد لقي النبي، ﷺ، وهو مترعرع، وأسلم أبوه السائب يوم بدر، فإنه كان صاحب راية بني هاشم، فأسر وفدى نفسه ثُمَّ أسلم، فقيل له: لِمَ لَمْ تسلم قبل أن تؤدي فداك؟ فقال: ما كنت أحرم المؤمنين طعما لهم. قال القاضي أبو الطيب: قال بعض أهل العلم بالنسب: الشافعي ابن عم رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وابن عمته؛ لأن المطلب عم رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، والشفا بنت الأرقم بن هاشم بن عبد مناف أم السائب بن يزيد هي أخت عبد المطلب بن هاشم وأم الشافعي، ﵁، أزدية، وفي الحديث: الأزد جرثومة العرب، وقد روى الحافظ أبو بكر الخطيب البغدادي بسنده، عن ابن عبد الحكم، قال: لما حملت أم الشافعي، ﵁، به رأت كأن المشترى خرج من فرجها حتى انقض بمصر، ثُمَّ وقع فِي كل بلد منه شظية، فتأول أصحاب الرؤيا أنه يخرج عالم يخص علمه أهل مصر، ثُمَّ يتفرق فِي سائر البلدان.
فصل ذكر مولده، ومنشئه وهمته العلية في حال صغره وصباه قال الحافظ أبو بكر الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، ثنا أبو علي الحسن بن محمد بن محمد بن شيظم الفامي قدم للحج، أنا نصر بن مكي ببلخ، ثنا محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، قال: قال لي محمد بن إدريس الشافعي، ﵁، ولدت بغزة سنة خمسين، يعني: ومائة، وحملت إلى مكة وأنا ابن سنتين، قال: وأخبرني غيره عن الشافعي، ﵁، قال: لم يكن لي مال فكنت أطلب العلم في الحداثة، أذهب إلى الديوان أستوهب منهم الظهور، وأكتب فيها، وقال الإمام أبو محمد عبد الرحمن بن أبي حاتم الرازي في كتاب جمعه في آداب الشافعي، ﵁، ثنا أبي، قال: سمعت عمرو ابن سواد قال: قال لي الشافعي، ﵁: ولدت بعسقلان فلما أتى على سنتان حملتني أمي إلى مكة وكانت نهمتي في شيئين، في الرمي وطلب العلم، فنلت من الرمي حتى كنت أصيب من العشرة عشرة وسكت عن العلم، فقلت له: أنت والله في العلم أكثر منك في الرمي. وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أنا أحمد بن عبد الرحمن بن وهب ابن أخي عبد الله بن وهب، قال: سمعت محمد بن إدريس، يقول: ولدت باليمن فخافت أمي علي الضيعة، وقالت: الحق بأهلك فتكون مثلهم، فإني أخاف أن يغلب على نسبك، فجهزتني إلى مكة، فقدمتها وأنا ابن عشر، أو شبهها، فصرت إلى نسيب لي، وجعلت أطلب العلم، فيقول لي: لا تعجل بهذا وأقبل على ما ينفعك، فجعلت لذتي في هذا العلم وطلبه حتى رزق الله منه ما رزق. قال شيخنا الحافظ أبو عبد الله الذهبي: قوله: باليمن غلط إلا أن يريد به القبيلة وهذا محتمل لكن خلاف الظاهر. قلت: فهذه ثلاث روايات في بلد مولده، والمشهور أنه ولد بغزة ويحتمل أنها بعسقلان التي هي قريب من غزة ثم حمل إلى مكة صغيرا، ثم انتقلت به أمه إلى اليمن، فلما ترعرع، وقرأ القرآن بعثت به إلى بلد قبيلته مكة فطلب بها الفقه، والله أعلم. وأما زمان مولده ففي سنة خمسين ومائة بلا نزاع وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة، ﵀، ثم قيل: ولد في اليوم الذي توفي فيه أبو حنيفة، ولا يكاد يصح هذا ويتعسر ثبوته جدا، وما يذكره بعض الجهلة من المشغبين من أن الشافعي، ﵁، مكث حملا في بطن أمه أربع سنين حتى توفي أبو حنيفة، ﵀، أو أنه يوم وجد الشافعي توفي أبو حنيفة، فكلام سخيف وليس بصحيح، وقد كان الشافعي، ﵁، من أكثر الناس تعظيما لأبي حنيفة، ﵄ ورحمهما. قال ابن أبي حاتم: حدثني أبو بشر أحمد بن حماد الدولابي في طريق مصر، حدثني أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي، عن الشافعي، ﵁، قال: كنت يتيما في حجر أمي ولم يكن معها ما تعطي المعلم، وكان المعلم قد رضي من أمي أن أخلفه إذا قام، فلما ختمت القرآن دخلت المسجد، وكنت أجالس العلماء فأحفظ الحديث، أو المسألة، وكان منزلنا بمكة في شعب الخيف فكنت أنظر إلى العظم فأكتب فيه الحديث، أو المسألة، وكانت لنا جرة عظيمة إذا امتلأ العظم طرحته في الجرة، حدثنا محمد بن روح، قال: سمعت الزبير بن سليمان القرشي يذكر عن الشافعي، ﵁، قال: طلبت هذا الأمر عن خفة ذات اليد كنت أجالس الناس وأتحفظ ثم اشتهيت أن أدون، وكان منزلنا بمكة بقرب شعب الخيف فكنت آخذ العظام والأكتاف فأكتب فيها حتى امتلأ في دارنا من ذلك حباب، قلت: وكان من عادة العرب الكتابة في العظام العسب واللخاف ورقاع الأدم وغير ذلك لقلة القرطاس عندهم، ولهذا لما كتب زيد بن ثابت، ﵁، القرآن عن أمر الصديق، ﵁، كتب عامته من هذه الأشياء. وقال أبو بكر الخطيب: أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن عبد الله الطبري، ثنا أحمد بن عبد الله بن الخضر المعدل، ثنا علي بن محمد بن سعيد، ثنا أحمد بن إبراهيم الطائي الأقطع، ثنا إسماعيل بن يحيى المزني، قال: سمعت الشافعي، ﵁، يقول: حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، ثم روى الخطيب عن الشافعي، ﵁، أنه قال: أقمت في بطون العرب عشرين سنة آخذ أشعارها ولغاتها، وحفظت القرآن، فما علمت أنه مر بي حرف إلا وقد علمت المعنى فيه والمراد، ما خلا حرفين أحدهما دساها والآخر نسيه الراوي عنه، قلت: فهذه همة عالية ممن يحفظ الكتاب والسنة وله من العمر عشر سنين، فرضي الله عنه. ويقال: إن القبيلة الذين ضوى إليهم الشافعي، ﵁، هذيل وهم أفصح العرب، قال الحاكم النيسابوري: ثنا أبو الوليد حسان بن محمد الفقيه، ثنا إبراهيم بن محمود، حدثني أبو سليمان، يعني: داود الأصبهاني، حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري، قال: قرأ علي الشافعي، ﵁، أشعار هذيل حفظا، ثم قال: لا تخبر بهذا أهل الحديث فإنهم لا يحتملون هذا، قال مصعب: وكان الشافعي، ﵁، يسمر مع أبي من أول الليل حتى الصباح ولا ينامان، قال: وكان الشافعي، ﵁، في ابتداء أمره يطلب الشعر، وأيام الناس، والأدب، ثم أخذ في الفقه بعد، قال: وكان سبب أخذه أنه كان يسير يوما على دابة له وخلفه كاتب لأبي، فتمثل الشافعي، ﵁، بيت شعر فقرعه كاتب أبي بسوطه ثم قال له: مثلك يذهب بمروءته في مثل هذا، أين أنت من الفقه؟ فهزه ذلك فقصد لمجالسة الزنجي بن خالد مفتي مكة، ثم قدم علينا فلزم مالك بن أنس، ﵀، وقال ابن أبي حاتم، ثنا الربيع ابن سليمان المرادي، قال: سمعت الحميدي، يقول: سمعت الزنجي بن خالد، يعني: مسلم ابن خالد الزنجي شيخ الشافعي، ﵁، يقول للشافعي، ﵄: أفت يا أبا عبد الله، فقد والله آن لك أن تفتي، وهو ابن خمس عشرة سنة. وقال ابن أبي حاتم: وأخبرني أبو محمد ابن بنت الشافعي فيما كتب إلي، قال: سمعت أبا الوليد، يعني: الجارودي، أو عمى، أو أبي، أو كلهم، عن مسلم بن خالد، أنه قال للشافعي، ﵁، وهو ابن ثماني عشرة سنة: أفت يا أبا عبد الله فقد آن لك أن تفتي، وهكذا روى الخطيب من وجه آخر عن الربيع: سمعت الحميدي يقول: قال مسلم بن خالد الزنجي للشافعي، ﵁: يا أبا عبد الله أفت الناس، آن لك والله أن تفتي، وهو ابن دون عشرين سنة، قال الخطيب: وهذا هو الصواب، والأول ليس بمستقيم لأن الحميدي يصغر عن إدراك الشافعي، ﵁، وله تلك السن خمس عشرة سنة.
فصل في رحلته وطلبه العلم وولايته بأرض نجران وظيفة الحكم قال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع بن سليمان، سمعت الشافعي، يقول: قدمت على مالك وقد حفظت الموطأ ظاهرا، فقلت: إني أريد أن أسمع الموطأ منك، فقال: اطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقلت: لا عليك أن تسمع قراءتي فإن سهل عليك قرأت لنفسي، قال: اطلب من يقرأ لك، وكررت عليه، فقال: اقرأ، فلما سمع قراءتي، قال: اقرأ، فقرأت عليه حتى فرغت منه، وحكى الإمام أحمد، عن الشافعي، ﵄، أنه قال: أنا قرأت على مالك وكانت تعجبه قراءتي، قال الإمام أحمد: لأنه كان فصيحا، قلت: وكذلك كان حسن الصوت بتلاوة القرآن، كما سنذكره بعد، وقال ابن أبي حاتم: حدثني أبو بشر الدولابي في طريق مصر، قال: ثنا أبو بكر بن إدريس وراق الحميدي، سمعت الحميدي يقول: قال الشافعي، ﵁: وليت نجران وبها بنو الحارث وموالي ثقيف فجمعتهم فقلت: اختاروا سبعة منكم فمن عدلوه كان عدلا ومن جرحوه كان مجروحا، فجمعوا لي سبعة منهم، فجلست للحكم، فقلت للخصوم: تقدموا فإذا شهد الشاهد عندي التفت إلى السبعة فإن عدلوه كان عدلا وإن جرحوه قلت زدني شهودا، فلما أتيت على ذلك، وجعلت أسجل، وأحكم، فنظروا إلى حكم جار فقالوا: إن هذه الضياع والأموال التي تحكم علينا فيها ليست لنا وإنما هي لمنصور بن المهدي في أيدينا، فقلت للكاتب: اكتب وأقر فلان بن فلان الذي وقع عليه حكمي في هذا الكتاب أن هذه الضيعة، أو المال الذي حكمت عليه ليست له، وإنما هي لمنصور بن المهدي، ومنصور بن المهدي على حجته متى قام، قال: فخرجوا إلى مثله فيم يزالوا يعملون حتى رفعت إلى العراق فقيل لي: الزم الباب، فنظرت فإذا أنا لا بد لي من الاختلاف إلى بعض أولئك، وكان محمد بن الحسن جيد المنزلة عند هارون فاختلفت إليه، وقلت: هذه أشبه بي من طريق العلم، فكتبت كتبه وعرفت قولهم، فكان إذا قام ناظرت أصحابه. قال ابن أبي حاتم: ثنا الربيع، سمعت الشافعي، ﵁، يقول: حملت عن محمد بن الحسن حمل بختي ليس عليه إلا سماعي، وثنا أحمد بن سريج: سمعت الشافعي، ﵁، يقول: أنفقت على كتب محمد بن الحسن ستين دينارا ثم تدبرتها، فوضعت إلى جنب كل مسألة حديثا ردا عليه، قلت: هذا كله كان في قدوم الشافعي، ﵁، بغداد في القدمة الأولى، وكان ذلك في سنة أربع وثمانين ومائة، بعد موت القاضي أبي يوسف، ﵀، بسنتين، فلم يدركه ولا رآه، وما ذكره عبد الله بن محمد البلوي في رحلة الشافعي، ﵁، في مناظرة الشافعي، ﵁، أبا يوسف بحضرة الرشيد وتأليب أبي يوسف عليه، فكلام مكذوب باطل، اختلقه هذا البلوي، قبحه الله وأبو يوسف، ﵀، كان أجل قدرا وأعلى منزلة مما نسب إليه، وإنما أدرك الشافعي، ﵁، في هذه القدمة محمد بن الحسن الشيباني، وأنزله في داره، وأجرى عليه نفقة، وأحسن إليه بالكتب، وغير ذلك ﵏، وكانا يتناظران فيما بينهما كما جرت عادة الفقهاء، هذا على مذهب أهل الحجاز، وهذا على مذهب أهل العراق، وكلاهما بحر لا تكدره الدلاء، وقد بعث الشافعي، ﵁، في وقت يطلب من محمد بن الحسن كتبا عينها، فتأخر إرسالها فكتب إليه: قل للذي لم تر عينا من رآه مثله ... ومن كان من رآه قد رأى من قبله العلم ينهي أهله أن يمنعوه أهله ... لعله يبذله لأهله لعله ويقال: إن هذه الأبيات لمحمد بن الحسن وذلك فيما نقله ابن عساكر بإسناد، عن الشافعي، ﵁، أنه قال: كنت أنظر في جزء تجاه محمد بن الحسن، فقال: أرني ما تنظر فيه فلم أره، فتناول القلم والقرطاس فكتب هذه الأبيات، قلت: ولم يجتمع الإمام الشافعي، ﵁، في هذه القدمة بأحمد بن حنبل، ولا بغيره من المحدثين، لأن أحمد، ﵀، كان عمره إذ ذاك عشرين سنة، أو نحوها، ولم يكن مشهورا، وإنما اجتمع بهم في القدمتين الأخرتين في سنة خمس وتسعين، وأقام ببغداد سنتين ثم رجع إلى مكة، ثم عاد إلى بغداد في سنة ثمان وتسعين، فأقام أشهرا ثم خرج إلى مصر، فأقام بها حتى مات، ﵀ ورضي عنه، سنة أربع ومائتين، وكان سبب وروده بغداد في المرة الأولى بظلم أولئك النفر من أهل نجران عليه في أحكامه عليهم، وقد كان فيها بارا راشدا تابعا للحق، ﵀، ثم عاد إلى بلده وطلبه، وكان في جميع أحواله يطلب العلم، ولا يصده عن ذلك صاد، ولا يثنيه عنه راد. قال ابن أبي حاتم: ثنا يونس بن عبد الأعلى قال: قال لي الشافعي، ﵁: ما اشتد على فوت أحد مثل فوت ابن أبي ذئب، والليث بن سعد، رحمهما الله، وثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، عن أبي بكر بن إدريس وراق الحميدي، سمعت الحميدي، يقول: قال الشافعي، ﵁: خرجت إلى اليمن في طلب كتب الفراسة حتى كتبتها وجمعتها، ثم لما حان انصرافي مررت برجل في طريقي وهو محتبي بفناء داره أزرق العين ناتئ الجبهة سناط، فقلت: هل من منزل؟ قال: نعم، قال الشافعي، ﵁، وهذا النعت أخبث ما يكون في الفراسة، فأنزلني، فرأيت أكرم رجل بعث إلي بعشاء، وطيب، وعلف لدابتي، وفراش ولحاف، وجعلت أتقلب الليل أجمع ما أصنع بهذه الكتب، إذ رأيت هذا النعت في هذا الحال فلما أصبحت قلت للغلام: اسرج فأسرج، فركبت ومررت عله، وقلت له: إذا قدمت مكة ومررت بذي طوى فسل عن منزل محمد بن إدريس الشافعي، فقال لي الرجل: أمولى لأبيك أنا؟ قلت: لا، قال: فهل كانت لك عندي نعمة؟ قلت: لا، قال: أد ما تكلفت لك البارحة، قلت: وما هو؟ قال: اشتريت لك طعاما بدرهمين، وإداما بكذا، وعطرا بثلاثة دراهم، وعلفا لدابتك بدرهمين، وكرا الفراش واللحاف بدرهمين، قال: قلت: يا غلام أعطه، فهل بقي من شيء؟ قال: كرا المنزل فإني وسعت عليك وضيقت على نفسي، قال الشافعي، ﵁: فغبطت نفسي بتلك الكتب فقلت له بعد ذلك: هل بقي من شيء، قال: امض أخزاك الله فما رأيت قط أشر منك. قلت الشافعي، ﵁، نشأ باليمن، كما تقدم، ثم قدم مكة مع أمه، ثم رجع إلى اليمن في حال الشبيبة فولي بها بعض الأعمال، وحمد فيها ثم رجع إلى مكة، فلامه على ذلك بعض العلماء، منهم: إبراهيم بن محمد بن أبي يحيى، وسفيان بن عيينة، وكانت موعظة سفيان أنجع عند الشافعي، ﵁، ثم بعد ذلك ولي الحكم بنجران، كما تقدم، وكان من أمره ما كان، وروى ابن عساكر بأسانيده، أن نائب اليمن كتب إلى الرشيد يشكو إليه من جماعة من الطالبيين، وكانوا ينسبون إلى التشيع، وأدمج معهم الإمام الشافعي، ﵁، فبعث الرشيد إلى نائب اليمن في طلبهم وأنهم يبعثون مثقلين بالحديد فلما دخل الشافعي، ﵁، بغداد، واجتمع بأمير المؤمنين، وجرى بينه وبين محمد بن الحسن مناظرات حسنة، وعرفوا فضل الشافعي، وإمامته، وسيادته، عظموه وأكرموه، وأنزله محمد بن الحسن في بعض منازله وأجرى عليه الإحسان والتفضيل وكانا يتناظران في الخلوة، قال الشافعي، ﵁: كانت فيه جدة في بحثه، وأطلق للشافعي، ﵁، قريب من ألفي دينار وكثر ماله لسببها، ويقال: إنه فرقها، إلا أنه قال: لم أملك مالا قبلها أكثر منها، وقيل: بل أطلق له الرشيد خمسة آلاف دينار، والله أعلم، وقد أعطى من هذا المال للقرشيين أكثره، أو عامته.
فصل في ذكر مشايخه في القراءة والحديث والفقه قال عبد الرحمن بن أبي حاتم: أخبرني محمد بن عبد الله بن عبد الحكم قراءة، أنا الشافعي، أنا إسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، يعني: قارئ مكة، قال: قرأت على شبل، يعني: ابن عباد، وأخبره شبل أنه قرأ على عبد الله بن كثير، وأخبره عبد الله بن كثير أنه قرأ على مجاهد، وأخبر مجاهد أنه قرأ على ابن عباس، وأخبر ابن عباس أنه قرأ على أُبَيِّ بن كعب، وقرأ أُبَيُّ بن كعب على رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، قال الشافعي، ﵁: وقرأت على إسماعيل بن قسطنطين، وأما الحديث فرواه عن جماعة ذكرهم شيخنا الإمام الحافظ جمال الدين أبو الحجاج المزي، ﵀، في تهذيبه مرتبين على حروف المعجم وكذلك الرواة عنه، وقد زدت في الرواة عنه مما ذكره الدارقطني وغيره، فقال شيخنا: روى عن إبراهيم بن سعد الزهري، وإبراهيم بن عبد العزيز بن عبد الملك بن أبي محذورة الجمحي، وإبراهيم بن محمد بن أبي يحيى الأسلمي، وإسماعيل بن عبد الله بن قسطنطين، وإسماعيل بن جعفر المدني، وإسماعيل ابن علية البصري، وأبي ضمرة أنس بن عياض الليثي، وأيوب بن سويد الرملي، وحاتم بن إسماعيل المدني، وأبي أسامة حماد بن سلمة، وداود بن عبد الرحمن العطار، وسعيد بن سالم القداح، وسفيان بن عيينة، وعبد الله بن الحارث المخزومي، وعبد الله بن المؤمل المخزومي، وعبد الله بن نافع الصائغ، ومات قبله، وعبد الرحمن بن أبي بكر المليكي، وعبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، وعبد العزيز بن محمد الدراوردي، وعبد المجيد بن عبد العزيز بن أبي رواد، وعبد الوهاب بن عبد المجيد الثقفي، وعطاف بن خالد المخزومي، وعمرو بن أبي سلمة التنيسي، ومات قبله، ومالك بن أنس، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك، ومحمد بن الحسن الشيباني، ومحمد بن خالد الجندي، ومحمد بن عثمان بن صفوان الجمحي، وعمه محمد بن علي بن شافع، ومسلم بن خالد الزنجي، ومطرف بن مازن قاضي صنعاء، وهشام بن يوسف الصنعاني القاضي، ويحيى بن حسان التنيسي، ويحيى بن سليم الطائفي، ويوسف بن خالد السمتي، وروى عنه أبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وإبراهيم بن محمد الشافعي، وإبراهيم بن المنذر الحزامي، وأحمد بن حنبل، وأحمد بن خالد الخلال، وأحمد بن أبي سريج الرازي، وأحمد بن سنان القطان الواسطي، وأحمد بن صالح المصري، وأحمد بن عبد الرحمن بن وهب المصري ابن أخي ابن وهب، وأبو الطاهر أحمد بن عمرو بن السرح، وأحمد بن محمد الأزرقي، وأحمد بن محمد ابن سعيد الصيرفي البغدادي، وأحمد بن يحيى بن عبد العزيز البغدادي، وأبو عبد الرحمن الشافعي المتكلم، وأحمد بن يحيى بن الوزير المصري، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، وإسحاق بن بهلول، وأبو إسماعيل بن يحيى المزني، وبحر بن نصر بن سابق الخولاني، والحارث بن سريج النقال، وحامد بن يحيى البلخي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والحسن بن عبد العزيز الجروي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني البغدادي، والحسن بن علي الكرابيسي، والربيع بن سليمان المرادي المؤذن راوية كتبه، والربيع بن سليمان الجيزي، وسعيد بن عيسى الرعيني، وسليمان بن داود المصري، وأبو أيوب سليمان بن داود الهاشمي، وأبو بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، وعبد العزيز بن عمران بن مقلاص، وعبد العزيز بن يحيى الكناني المكي صاحب الحيدة، وعبد الملك بن قريب الأصمعي، وعلي بن سلمة اللبقي، وعلي بن معبد الرقي، وعمرو ابن سواد بن الأسود العامري، وأبو عبيد القاسم بن سلام، وأبو حنيفة قحزم بن عبد الله الأسواني، وأبو يحيى محمد بن سعيد بن غالب العطار، ومحمد بن عبد الله بن الحكم، وابنه أبو عثمان محمد بن محمد بن إدريس الشافعي، ومحمد بن يحيى بن حسان التنيسي، ومحمد بن يحيى العدني، ومسعود بن سهل المصري الأسود، وأبو الوليد موسى بن أبي الجارود المكي، وهو راوي كتاب الأمالي وغيره، وهارون بن سعيد الأيلي، ويحيى بن عبد الله الخثعمي، وأبو يعقوب يوسف ابن يحيى البويطي، ويونس بن عبد الأعلى الصدفي المصري رحمهم الله تعالى. قال أبو الحسن محمد بن الحسين بن إبراهيم الآبري السجستاني، في كتاب مناقب الشافعي، ﵁: سمعت بعض أهل المعرفة بالحديث، يقولون: إذا قال الشافعي، ﵁، في كتبه: أنا الثقة عن ابن أبي ذئب فهو ابن أبي فديك، وإذا قال: أنا الثقة، عن الليث بن سعد فهو يحيى بن حسان، وإذا قال: أنا الثقة، عن الوليد بن كثير فهو أبو أسامة، وإذا قال: أنا الثقة عن الأوزاعي فهو عمرو بن أبي سلمة، وإذا قال: أنا الثقة، عن ابن جريج فهو مسلم بن خالد الزنجي، وإذا قال: أنا الثقة، عن صالح مولى التوأمة فهو إبراهيم بن أبي يحيى، أخرج له أصحاب السنن الأربع أبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه، وذكره البخاري في موضعين من صحيحه أحدهما: في الركاز، وقال مالك، وابن إدريس: الركاز دفن الجاهلية في قليله، وكثيره الزكاة، وليس المعدن بركاز، والثاني: في البيوع، وقال ابن إدريس: العرية لا تكون إلا بالكيل من التمر يدا بيد، لا تكون بالجزاف، ومما يقويه قول سهل بن أبي حثمة بالأوسق الموسقة، قلت: وإنما لم يخرج له صاحبا الصحيح لنزول إسناده عندهما وإلا فجلالته وإمامته مجمع عليها. قلت: ووقع لي من مصنفات الشافعي، ﵁، رواية مسنده المنتخب من كتاب الأم، ورواية الرسالة الكبيرة في أصول الفقه، والسنن من طريق المزني. وأما الفقه فأخذه الشافعي، ﵁، أولا عن مسلم بن خالد الزنجي بمكة، والزنجي تفقه على ابن جريج، وابن جريج أخذ الفقه عن عطاء بن أبي رباح وتفقه عطاء على ابن عباس، وابن الزبير وغيرهما، وأولئك أخذوا عن رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، وتفقه ابن عباس على عمر، وعلي، وابن مسعود، وزيد بن ثابت، وغيرهم من الصحابة، ﵃، وأخذه الشافعي أيضا عن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، عن ابن عباس وابن عمر، ﵃، ثم تفقه الشافعي، ﵁، بمالك بن أنس إمام دار الهجرة في زمانه، ومالك تفقه بشيخه ربيعة بن أبي عبد الرحمن، عن أنس بن مالك، ومالك أيضا عن نافع، عن ابن عمر، ﵃ أجمعين. وأما الذين تفقهوا بالشافعي، ﵃، ومن بعدهم من الطبقات إلى زماننا، فسأفرد لهم ديوانا يجمع طبقات أصحاب المذهب من أصحاب الوجوه والمشهورين بحمله من المتقدمين منهم، والمتأخرين، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة والمستعان. قلت: ومن أجل من أخذ عنه، واجتمع به، وتفقه بكتبه الإمامان السيدان الكبيران الحبران شيخا السنة أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه المروزيان. قال الحسن بن محمد الزعفراني: كنا نختلف إلى الشافعي عندما قدم إلى بغداد ستة أنفس: أحمد بن حنبل، وأبو ثور، والحارث النقال، وأبو عبد الرحمن الشافعي، وأنا، ورجل آخر سماه، وما عرضنا على الشافعي كتبه إلا وأحمد بن حنبل حاضر لذلك، وقال الخطيب: أنا أبو طالب عمر بن إبراهيم، ثنا محمد بن خلف بن جيان الجلال، حدثني عمر بن الحسن، عن أبي القاسم بن منيع، حدثني صالح بن أحمد بن حنبل، قال: مشى أبي مع بغلة الشافعي، ﵁، فبعث إليه ابن معين، فقال: يا أبا عبد الله أما رضيت إلا أن تمشي مع بغلته؟ فقال: يا أبا زكريا، لو مشيت من الجانب الآخر كان أنفع لك. وقال البيهقي: أنا الحاكم، أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر العدل، قال: وحدث عن أبي القاسم بن منيع، قال لي صالح بن أحمد: ركب الشافعي، ﵁، حماره فجعل أبي يسايره يمشي، والشافعي راكب وهو يذاكره، فبلغ ذلك يحيى بن معين فبعث إلى أبي، فبعث إليه، إنك لو كنت في الجانب الآخر من الحمار كان خيرا لك، هذا، أو معناه، وقال: أبو أحمد بن عدي، سمعت موسى بن القاسم بن موسى بن الحسن بن موسى الأشيب، يذكر عن بعض شيوخه، قال: لما قدم الشافعي، ﵁، بغداد لزمه أحمد بن حنبل يمشي مع بغلة له فأخلى الحلقة التي يقعد فيها أحمد، ويحيى، وأبو خيثمة وغيرهم، فوجه يحيى بن معين: إنك تمشي مع بغلة هذا الرجل، يعني: الشافعي، فوجه أحمد: لو كنت من الجانب الآخر كان أنفع لك، وقال الحافظ أبو نعيم، ثنا أحمد بن إسحاق: ثنا أحمد بن روح، ثنا محمد بن ماجه القزويني، قال: جاء يحيى بن معين يوما لأحمد بن حنبل، فبينما هو عنده إذ مر الشافعي على بغلته، فوثب أحمد فسلم عليه وتبعه فأبطأ، ويحيى جالس، فلما جاء قال يحيى: يا أبا عبد الله لم هذا؟ فقال أحمد: دع هذا عنك إن أردت الفقه فالزم ذنب البغلة، قلت: الإمام أحمد، ﵀، عرف قدر الشافعي، ﵁، لما عنده من الفقه ويحيى بن معين لم يكن عنده من ذلك كما عند الإمام أحمد رحمهم الله، وقال أبو عبيد الآجري: سمعت أبا داود، يقول: ما رأيت أحمد بن حنبل يميل إلى أحد ميله إلى الشافعي، وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن الفضل القزاز، قال: سمعت أبي يقول: حججت مع أحمد بن حنبل، ونزلت في مكان واحد معه، أو في دار، يعني: بمكة، وخرج أبو عبد الله، يعني: أحمد بن حنبل، باكرا، وخرجت أنا بعده فلما صليت الصبح وردت المسجد فجئت إلى مجلس سفيان بن عيينة فكنت أدور مجلسا مجلسا طلبا لأبي عبد الله أحمد بن حنبل حتى وجدت أحمد بن حنبل عند شاب أعرابي، وعليه ثياب مصبوغة وعلى رأسه جمة فزاحمت حتى قعدت عند أحمد بن حنبل، فقلت: يا أبا عبد الله، تركت ابن عيينة عنده الزهري، وعمرو بن دينار، وزياد بن علاقة، ومن التابعين ما أنت به عليم، فقال لي: اسكت، فإن فاتك حديث بعلو تجده بنزول لا يضرك في دينك ولا في عقلك ولا بفهمك، وإن فاتك عقل هذا الفتى أخاف ألا تجده إلى يوم القيامة، ما رأيت أحدا أفقه في كتاب الله من هذا الفتى القرشي، قلت: من هذا؟ قال: محمد بن إدريس الشافعي. وقال ابن أبي حاتم، سمعت من أبي إسماعيل الترمذي، قال: سمعت إسحاق بن راهويه يقول كنا بمكة، والشافعي بها، وأحمد بن حنبل بها، فقال لي أحمد بن حنبل: يا أبا يعقوب، جالس هذا الرجل يعني الشافعي، قلت: وما أصنع به؟ سنه قريب من سننا، أترك ابن عيينة والمقري؟ فقال: ويحك، إن ذاك لا يفوت وهذا يفوت، فجالسته، قلت: هذا لعله كان في سنة ست، أو سبع وتسعين ومائة، بعد أن قدم الشافعي، ﵁، بغداد في سنة خمس وتسعين، فعرف أحمد ثم عاد إلى مكة، ورجع إلى بغداد سنة ثمان وتسعين كما سيأتي، وقال زكريا بن يحيى الساجي: حدثني محمد بن خلاد بن خالد البغدادي، حدثني الفضل بن زياد، عن أحمد بن حنبل، قال: هذا الذي ترون كله، أو عامته من الشافعي وما بت منذ ثلاثين سنة إلا وأنا أدعو الله للشافعي، وأستغفر له.
وقال ابن أبي حاتم: أخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة فيما كتب إلي: ثنا أبو أيوب حميد بن أحمد البصري، قال: كنت عند أحمد بن حنبل نتذاكر في مسألة، فقال رجل لأحمد: يا أبا عبد الله لا يصح فيه حديث، فقال: إن لم يصح فيه حديث ففيه قول الشافعي، ﵁، وحجته أثبت شيء فيه، ثم قال: قلت للشافعي: وما تقول في مسألة كذا وكذا؟ قال: فأجاب فيها، فقلت: من أين قلتها؟ هل فيه كتاب، أو حديث؟ قال: بلى، فنزع في ذلك حديثا للنبي، ﷺ، وهو حديث نص، وروى البيهقي عن المروزي أنه سمع أحمد يقول: إذا سئلت عن مسألة لا أعرف فيها خبرا قلت فيها بقول الشافعي، لأنه إمام عالم من قريش ويروي عن النبي، ﷺ، أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علما»، وسيأتي هذا مسندا، وقال الخطيب: حدثني الحسن بن أبي طالب، حدثني علي بن عمر التمار، ثنا محمد بن عبد الله الشافعي، حدثوني عن إبراهيم الحربي، أنه قال: قال أستاذ الأستاذين، قالوا: من هو؟ قال: الشافعي، أليس هو أستاذ أحمد بن حنبل، وقال الحاكم النيسابوري: سمعت الفقيه أبا بكر محمد ابن علي الشاشي، يقول: دخلت على ابن خزيمة وأنا غلام، فقال: يا بني، على من درست الفقه؟ فسميت له أبا الليث، فقال: على من درس؟ قلت: على ابن سريج، فقال: وهل أخذ ابن سريج العلم إلا من كتب مستعارة، فقال بعضهم: أبو الليث هذا مهجور بالشاشي فإن البلد للحنابلة، فقال ابن خزيمة: وهل كان ابن حنبل إلا غلاما من غلمان الشافعي. وقال ابن أبي حاتم: ثنا أحمد بن عثمان النحوي، سمعت أبا فديك الكسائي، يقول: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: كتبت إلى أحمد بن حنبل وسألته أن يوجه إليَّ من كتب الشافعي ما يدخل حاجتي فوجه إلي بكتاب الرسالة. قال: وثنا أبو زرعة، قال: بلغني أن إسحاق بن راهويه كتب له كتب الشافعي، فتبين في كلامه أشياء قد أخذه عن الشافعي، وقد جعله لنفسه، قال أبو زرعة: ونظر أحمد بن حنبل في كتب الشافعي. قال ابن أبي حاتم: وثنا أحمد بن سلمة بن عبد الله النيسابوري، قال: تزوج إسحاق بن راهويه بمرو بامرأة رجل كان عنده كتب الشافعي وتوفي، لم يتزوج بها إلا لحال كتب الشافعي، ﵁، فوضع جامعه الكبير على كتاب الشافعي والجامع الصغير على جامع الثوري الصغير، قال: وأخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة فيما كتب إلي قال: قال أبو ثور: كنت أنا، وإسحاق بن راهويه، وحسين الكرابيسي، وذكر جماعة من العراقيين، ما تركنا بدعتنا حتى رأينا الشافعي، ﵁. وحدثنا أبو عبد الله الفسوي، عن أبي ثور، قال: لما ورد الشافعي، ﵁، العراق جاءني حسين بن علي الكرابيسي، وكان يختلف معي إلى أصحاب الرأي، فقال: قد ورد رجل من أصحاب الحديث يتفقه فقم بنا نسخر به، فقمت وذهبنا حتى دخلنا عليه، فسأله الحسين عن مسألة فلم يزل الشافعي، ﵁، يقول: قال الله، قال رسول الله، ﷺ، حتى أظلم علنا البيت، وتركنا بدعتنا واتبعناه، وقال داود بن علي الأصبهاني الظاهري، وله كتاب فضائل الشافعي، ﵁: قال لي إسحاق بن راهويه: ذهبت أنا، وأحمد بن حنبل إلى الشافعي بمكة، فسألته عن أشياء، فرأيته رجلا فصيحا حسن الأدب، فلما فارقناه أعلمني جماعة من أهل الفهم بالقرآن أنه كان أعلم الناس في زمانه بمعاني القرآن، وأنه قد كان أوتي فهما في القرآن لو كنت عرفته للزمته، قال داود: فرأيته يتأسف على ما فاته من الشافعي، ﵁، قال داود: عبد العزيز المكي، أحد من له فهم بالقرآن، كان أحد أصحاب الشافعي، ﵁، وممن أخذ عنه، رواه ابن عساكر. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبا زرعة، يقول: كتبت كتب الشافعي من الربيع أيام يحيى بن عبد الله بن بكير سنة ثمان وعشرين ومائتين، وعندما عزمت على سماع كتب الشافعي بعت ثوبين رقيقين كنت حملتهما لأقطعهما لنفسي فبعتهما، وأعطيت الوراق، قال: وسمعت أبي، يقول: قال لي أحمد بن صالح: تريد أن تكتب كتب الشافعي؟ قلت: نعم لا بد أن أكتبها فهذه أسانيد جيدة تدل على أن كلا من هؤلاء الأئمة ﵏ حذا حذوه، واتبع أثره، وسلك مسالكه في النظر والاستنباط، فإذا عد العاد قول أبي ثور، والحسين بن علي الكرابيسي، والمزني، وابن خزيمة، وابن المنذر، وأضراب هؤلاء وجوها في مذهب الشافعي، ﵁، جاز أن يقال مذهب الإمام أحمد يعد وجها في مذهب الشافعي، ﵀، فإنه قد ذكره جماعة من العلماء معدودا من جملة أصحاب الشافعي، منهم: أبو داود السجستاني، داود بن علي الظاهري، والحربي، وأبو إسحاق الشيرازي في الطبقات، وكذا قول إسحاق بن راهويه، كما ذكروا قول ابن خزيمة، وابن المنذر، وابن سريج وغيرهم من أئمة المذهب وجوها في المذهب يعني أنها معتبرة في مذهب الشافعي، فللحاكم أن يحكم بها، وللمفتي أن يفتي بها، لأنها مؤصلة على تأصيل الشافعي، ومأخوذة من طريقته في الاستنباط، فإنه قد نص في غير موطن على أنه إذا صح الحديث فهو مذهبه، وقال للإمام أحمد: أنتم أعلم بالحديث منا، فإذا صح الحديث أعلمني به أذهب إليه حجازيا كان، أو عراقيا، أو شاميا، أو يمينا، وسيأتي ذكر هذا كله في موضعه، إن شاء الله تعالى، وبه الثقة. وقال البيهقي: أنا أبو عبد الرحمن السلمي، سمعت عبد الرحمن بن عبد الله الذبياني، سمعت أبا الهبير سهل بن عبد الصمد الرقي، سمعت داود بن علي هو الأصبهاني، يقول: اجتمع للشافعي، ﵁، من الفضائل ما لم يجتمع لغيره، فأول ذلك شرف نسبه ومنصبه، وأنه من رهط النبي، ﷺ، ومنها صحة الدين وسلامة المعتقد من الأهواء والبدع، ومنها سخاوة النفس، ومنها معرفته بصحيح الحديث وسقيمه، ومنها معرفته بناسخ الحديث ومنسوخه، ومنها حفظه لكتاب الله، وحفظه لأخبار رسول الله، ومعرفته بسير النبي، ﷺ، وبسير خلفائه، ﵃، ومنها كشفه لتمويه مخالفيه، ومنها تأليفه الكتب القديمة والجديدة، ومنها ما اتفق له من الأصحاب والتلامذة، مثل أبي عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل، في زهده وعلمه وورعه وإقامته على السنة، ومثل سليمان بن داود الهاشمي، وعبد الله بن الزبير الحميدي، والحسين الفلاس، وأبي ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، والحسن بن محمد بن الصباح الزعفراني، وأبي يعقوب يوسف بن يحيى البويطي، وحرملة بن يحيى التجيبي، والربيع بن سليمان المرادي، وأبي الوليد موسى بن أبي الجارود، والحارث بن سريج النقال، وأحمد بن خالد الخلال، والقائم بمذهبه أبو إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني ولم يتفق لأحد من العلماء والفقهاء ما اتفق له. قال البيهقي: إنما عد داود من أصحاب الشافعي، ﵁، طائفة يسيرة، وقد عد أبو الحسن الدارقطني، من روى عنه من أحاديثه وأخباره وكلامه زيادة على مائة، مع قصور سنه عن سن أمثاله من الأئمة، وإنما يكثر الرواة عن العالم إذا جاوز سنه الستين، أو السبعين، والشافعي، ﵁، لم يبلغ في السن أكثر من أربع وخمسين سنة. قال: وأنا أبو عبد الله بن فنجويه الدينوري، ثنا الفضل بن الفضل الكندي، ثنا زكريا بن يحيى الساجي، قال: قلت لأبي داود السجستاني: من أصحاب الشافعي؟ قال: أولهم عبد الله بن الزبير الحميدي، وأحمد بن حنبل، ويوسف بن يحيى، وأبو يعقوب البويطي، والربيع بن سليمان، وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي، وأبو الوليد بن أبي الجارود المكي، والحسن بن محمد الزعفراني، والحسين بن علي الكرابيسي، وإسماعيل بن يحيى المزني، وحرملة بن يحيى، قال: ورجل ليس بالمحمود أبو عبد الرحمن أحمد بن يحيى الذي يقال له الشافعي، وذلك أنه بدل وقال بالاعتزال، هؤلاء ممن تكلم في العلم وعرفوا به من أصحابه. وأما أنا فأخذت الفقه في مذهب الإمام الشافعي، ﵁، أولا عن الإمام العالم المحقق محيي الدين أبي زكريا يحيى بن إسحاق بن خليل بن فارس الشيباني الشافعي الحاكم، ﵀، وهو أخذ الفقه عن الشيخ الإمام العلامة العابد الزاهد الورع ضابط المذهب محيي الدين أبي زكريا يحيى بن شرف بن مري النواوي، نَوَّرَ الله ضريحه، وقال: أخذت الفقه عن أبي الحسن سلار بن الحسن الإربلي ثم الدمشقي وهو الإمام المجمع على جلالته وإمامته وتقدمه يا رسول الله علم المذهب على أهل عصره بهذه النواحي، وهو أخذه عن جماعة، منهم: أبو بكر الماهاني، عن أبي القاسم بن البزري الجزري، عن أبي الحسن علي بن محمد بن علي الكيا الهراسي. ثم أخذت الفقه أيضا، عن شيخنا الإمام العلامة شيخ المذاهب برهان الدين أبي إسحاق إبراهيم ابن الشيخ الإمام العلامة تاج الدين عبد الرحمن بن إبراهيم الفزاري، وغير واحد من أصحاب الشيخ تاج الدين المذكور، رحمة الله عليهم كلهم عنه، وهو تفقه بالشيخ الإمام عز الدين أبي محمد عبد العزيز بن عبد السلام، وهو تفقه على الفخر بن عساكر عن الشيخ الإمام قطب الدين النيسابوري عن الإمام أبي سعد عمر بن سهل بن سعد الدامغاني، عن أبي حامد الغزالي الطوسي، والغزالي الكيا الهراسي تفقها على إمام الحرمين واسمه أبو المعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجويني، وهو أخذه عن أبيه الشيخ أبي محمد الجويني، عن أبي بكر عبد الله بن أحمد القفال المروزي الصغير إمام الطريقة الخراسانية، عن أبي زيد محمد بن أحمد بن عبد الله بن محمد المروزي، عن أبي إسحاق إبراهيم بن محمد المروزي، عن أبي العباس أحمد بن عمر بن سريج، عن أبي القاسم عثمان بن بشار الأنماطي، عن أبي إبراهيم إسماعيل بن يحيى المزني، عن الإمام العالم أبي عبد الله محمد بن إدريس الشافعي، ﵀، ورضي عنه.
فصل في ذكر فضائله، وثناء الأئمة عليه، ﵏ أجمعين أنا شَيْخُنَا الإِمَامُ الْعَالِمُ الْحَافِظُ الْحُجَّةُ جَمَالُ الدِّينِ أَبُو الْحَجَّاجِ يُوسُفُ ابْنُ الزَّكِيِّ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يُوسُفَ الْمِزِّيُّ، أنا أَبُو الْحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ ابْنُ الْبُخَارِيِّ الْمَقْدِسِيُّ، أنا أَبُو الْيَمَنِ زَيْدُ بْنُ الْحَسَنِ بْنِ زَيْدٍ الْكِنْدِيُّ، أنا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَاحِدِ الشَّيْبَانِيُّ، أنا الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْخَطِيبُ، أنا أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ الأَصْبَهَانِيُّ، ثنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ فَارِسٍ، ثنا يُونُسُ بْنُ حَبِيبٍ، ثنا دَاوُدُ، هُوَ: الطَّيَالِسِيُّ، ثنا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنِ النَّضْرِ بْنِ مَعْبَدٍ الْكِنْدِيِّ، أَوِ الْعَبْدِيِّ، عَنِ الْجَارُودِ، عَنْ أَبِي الأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ، ﷺ: «لا تَسُبُّوا قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ الأَرْضَ عِلْمًا، اللَّهُمَّ إِنَّكَ أَذَقْتَ أَوَّلَهَا عَذَابًا، أَوْ وَبَالا، فَأَذِقْ آخِرَهَا نَوَالا» . هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ، وَلَمْ يُخَرِّجْهُ أَحَدٌ مِنْ أَصْحَابِ الْكُتُبِ، وَقَدْ رَوَاهُ الْحَاكِمُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ النَّيْسَابُورِيُّ حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُؤَذِّنُ، ثنا عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مُحَمَّدٍ، هُوَ: أَبُو نُعَيْمٍ، ثنا مُحَمَّدُ بْنُ عَوْفٍ، ثنا الْحَكَمُ بْنُ نَافِعٍ، ثنا ابْنُ عَيَّاشٍ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ كَيْسَانَ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، ﵁، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، أَنَّهُ قَالَ: «اللَّهُمَّ اهْدِ قُرَيْشًا فَإِنَّ عَالِمَهَا يَمْلأُ طِبَاقَ الأَرْضِ عِلْمًا، اللَّهُمَّ كَمَا أَذَقْتَهُمْ عَذَابًا فَأَذِقْهُمْ نَوَالا» . وَدَعَا بِهَا ثَلاثَ مَرَّاتٍ، قال عبد الملك بن محمد أبو نعيم: هذه الصفة لا تنطبق إلا على الشافعي، ﵁، هذا حاصل كلامه وبالإسناد المتقدم إلى الخطيب: أنا أبو نعيم الحافظ، ثنا عبد الله بن جعفر بن أحمد بن فارس، ثنا إسماعيل بن عبد الله بن مسعود العبدي، ثنا عثمان بن صالح، ثنا ابن وهب، أخبرني سعيد بن أبي أيوب، عن شراحيل بن يزيد، عن أبي علقمة، عن أبي هريرة، ﵁، قال: لا أعلمه إلا عن النبي، ﷺ، قال: «إن الله يبعث إلى هذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها» قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني أبو الفضل بن أبي نصر العدل، أخبرنا أبو الحسن، محمد بن أيوب بن يحيى بن حبيب، بمصر: سمعت أحمد بن عمرو بن عبد الخالق البزاز، يقول: سمعت عبد الملك الميموني، يقول: كنت عند أحمد بن حنبل، وجرى ذكر الشافعي، فرأيت أحمد يرفعه، وقال: يروى عن النبي، ﷺ: «إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يقرر لها دينها»، فكان عمر بن عبد العزيز، ﵁: على رأس المائة، وأرجو أن يكون الشافعي عل رأس المائة الأخرى. قال البيهقي: وأخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، حدثنا أبو عبد الله، محمد بن العباس العصمي، حدثنا أبو إسحاق أحمد بن محمد بن ياسين الهروي، سمعت إبراهيم بن إسحاق الأنصاري، يقول: سمعت المروروذي، يقول: " قال أحمد بن حنبل: إذا سئلت عن مسألة، لا أعرف فيها خبرا، قلت فيها بقول الشافعي، ﵁، لأنه إمام عالم من قريش، وقد روى عن النبي، ﷺ، أنه قال: «عالم قريش يملأ الأرض علما»، وذكر في الخبر: «إن الله يقيض في رأس كل مائة سنة رجلا يعلم الناس دينهم» . وروى أحمد بن حنبل ذلك عن رسول الله، ﷺ، قال أحمد: فكان في المائة الأولى: عمر بن عبد العزيز، ﵁، وفي المائة الثانية: الشافعي، ﵁، قال أبو عبد الله: وإني لأدعو للشافعي منذ أربعين سنة في صلاتي، وقال أبو سعيد الفريابي: قال أحمد بن حنبل: «إن الله يقيض للناس في رأس كل مائة سنة من يعلمهم السنن، وينفي عن رسول الله، ﷺ، الكذب»، فنظرنا، فإذا في رأس المائة: عمر بن عبد العزيز، وفي رأس المائتين: الشافعي، ﵄. وقال عبد الرحمن بن مهدي: سمعت مالكا يقول: ما يأتيني قرشي أفهم من هذا الفتى، يعني: الشافعي. وقال ابن عبدي: سمعت عبدان، يقول: سمعت عمرو بن العباس يقول: قيل لعبد الرحمن بن مهدي: إن الشافعي لا يورث المرتد؟ فقال عبد الرحمن: إن الشافعي شاب مفهم، لأن رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، قال: «لا يتوارث أهل ملتين» . وقال أبو ثور: كتب عبد الرحمن بن مهدي إلى الشافعي، ﵁، وهو شاب أن يضع له كتابا فيه معاني القرآن، ويجمع قبول الأخبار فيه، وحجة الإجماع، وبيان الناسخ المنسوخ من القرآن والسنة، فوضع له كتاب الرسالة. قال عبد الرحمن: ما أصلي صلاة إلا وأنا أدعو الله للشافعي فيها. وقال ابن أبي الدنيا: سمعت أبا بكر بن خلاد يقول: سمعت ابن مهدي يقول: أنا أدعو الله في دبر صلاتي للشافعي. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الحسن بن محمد بن الصباح، قال: أخبرت عن يحيى بن سعيد القطان، أنه قال: إني لأدعو الله للشافعي، في كل صلاة، أو في كل يوم، يعني: لما فتح الله عليه من العلم، ووفقه للسداد فيه. وقال الحافظ أبو أحمد بن الحسين البيهقي، ﵀: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرني الزبير بن عبد الواحد، سمعت الحسن بن سفيان، سمعت الحارث بن سريج النقال، قال: سمعت يحيى بن سعيد القطان، يقول: أنا أدعو الله للشافعي، أخصه بذلك، وبه قال الزبير بن عبد الواحد، سمعت عبدان الأهوازي، يقول، حدثني محمد بن الفضل: حدثنا هارون قال: ذكر يحيى بن سعيد القطان الشافعي، فقال: ما رأيت أعقل، أو أفقه، منه، قال: وعرض عليه كتاب الرسالة له، وروى الحافظ ابن عساكر، عن ابن مهدي أنه، قال: لما نظرت في كتاب الرسالة للشافعي أذهلتني، لأني رأيت كلام رجل عاقل فصيح ناصح، وإني لأكثر الدعاء له. وَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ بْنِ مُحَمَّدٍ الشَّافِعِيِّ، قَالَ: كُنَّا فِي مَجْلِسِ ابْنِ عُيَيْنَةَ، وَالشَّافِعِيُّ حَاضِرٌ، فَحَدَّثَ ابْنُ عُيَيْنَةَ، عَنِ الزُّهْرِيِّ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، ﵄، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، مَرَّ بِهِ رَجُلٌ فِي بَعْضِ اللَّيْلِ، وَهُوَ مَعَ امْرَأَتِهِ صَفِيَّةَ، فَقَالَ: «تَعَالَ، هَذِهِ امْرَأَتِي صَفِيَّةُ» . فَقَالَ: سُبْحَانَ اللَّهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ! فَقَالَ: «إِنَّ الشَّيْطَانَ يَجْرِي مِنَ الإِنْسَانِ مَجْرَى الدَّمِ» فقال ابن عيينة للشافعي، ﵁: ما فقه هذا الحديث يا أبا عبد الله؟ قال: إن كان القوم اتهموا رَسُولَ اللَّهِ، ﷺ، كانوا، بتهمتهم إياه، كفارا، لكن رسول الله، أدب من بعده، فقال: إذا كنتم هكذا، فافعلوا هكذا، حتى لا يظن بكم، لا أن النبي، ﷺ، يتهم، وهو أمين الله في أرضه، فقال ابن عيينة: جزاك الله خيرا يا أبا عبد الله، ما يجيئنا منك إلا كل ما نحبه. وقال زكريا الساجي: حدثني ابن بنت الشافعي، ﵁، قال: سمعت أبي وعمي يقولان: كنا عند ابن عيينة، وكان إذا جاءه شيء من التفسير والفتيا يسأل عنها، يلتفت إلى الشافعي فيقول: سلوا هذا. وقال أبو سعيد زياد: حدثنا تميم بن عبد الله أبو محمد: سمعت سويد بن سعيد، يقول: كنا عند سفيان بن عيينة بمكة، فجاء الشافعي، فسلم عليه وجلس، فروى ابن عيينة حديثا رقيقا، فغشى على الشافعي، فقيل: يا أبا محمد! ما ابن إدريس، فقال عيينة: إن كان مات ابن إدريس فقد مات أفضل أهل زمانه. وقال الدارقطني: حدثنا أبو بكر محمد بن أحمد بن سهل النابلسي الشهيد، حدثنا أحمد بن محمد بن زياد الأعرابي، سمعت تميم بن عبد الله الرازي، سمعت أبا زرعة، سمعت قتيبة، يقول: مات الثوري، ومات الورع، ومات الشافعي ومات السنن، ويموت أحمد بن حنبل كذا وتظهر البدع. وقال قتيبة بن سعيد: الشافعي إمام. وقال أبو عبيد القاسم بن سلام: ما رأيت رجلا أعقل من الشافعي، وفي رواية: ما رأيت رجلا قط أعقل ولا أورع ولا أفصح من الشافعي، وقال يونس بن عبد الأعلى: ما رأيت أحدا أعقل من الشافعي، لو جمعت أمة فجعلت في عقل الشافعي، لوسعهم عقله. وروى الحافظ أبو القاسم ابن عساكر، عن الربيع، أنه قال: لو وزن عقل الشافعي بنصف عقل أهل الأرض، لرجحهم، ولو كان في بني إسرائيل احتاجوا إليه. وعن معمر بن شبيب قال: سمعت المأمون يقول: قد امتحنت محمد بن إدريس في كل شيء فوجدته كاملا.
وقال زكريا بن يحيى الساجي: حدثنا أبو جعفر الترمذي، حدثني أبو الفضل الواشجردي، سمعت أبا عبد الله الصاغاني، قال: سألت يحيى بن أكثم، عن أبي عبيد القاسم بن سلام والشافعي، أيهما أعلم عندك؟ فقال يحيى: كان أبو عبيد يأتينا ههنا، وكان رجلا إذا ساعدته الكتب، كان حسن التصنيف من الكتب، ويرتبها بحسن ألفاظه لاقتداره على العربية. وأما الشافعي فقد كان عند محمد بن الحسن كثيرا في المناظرة، فكان رجلا: قرشي العقل والفهم والذهن، صافي العقل، والفهم والدماغ، سريع الإصابة، أو كلمة نحوها، ولو كان أكثر سماعا للحديث لاستغنى أمة محمد، ﷺ، عن غيره من الفقهاء. وقال أبو بكر محمد بن إبراهيم بن علي: سمعت خضر بن داود، سمعت الحسن بن محمد الزعفراني يقول: قال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوما، فبلسان الشافعي، يعني: لما وضع كتبه، رواه ابن عساكر. وقال ابن أبي حاتم: أخبرني أبو عثمان الخوارزمي نزيل مكة، فيما كتب إلي: حدثنا محمد بن عبد الرحمن الدينوري، قال: سمعت أحمد بن حنبل، قال: كانت أقفيتنا في أيدي أصحاب أبي حنيفة ما تنزع، حتى رأينا الشافعي، فكان أفقه الناس في كتاب الله، وفي سنة رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، ما كان يلقنه كان قليل الطلب في الحديث. قلت: معنى قل طلبه للحديث: إنه لم يكثر من السماع على مشايخ الحديث، ولم يمعن في الرحلة فيه، بل قد كان عنده علوم كثيرة وبلاغ عظيم. وقد سئل إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة: هل تعلم سنة لم تبلغ الشافعي؟ فقال: لا، قلت ومعنى هذا أنه ليس ثم سنة معتمد عليها في الأصول والفروع إلا وقد بلغت الشافعي، لكن قد تبلغه من وجه لا يرتضيه، فلذلك يقف في بعضها، أو يعدل عنها، أو يعلق القول على صحتها، والله أعلم. وقال الحافظ أبو أحمد بن عدي: حدثنا زكريا الساجي، حدثني داود الأصبهاني، سمعت إسحاق بن راهويه يقول: لقيني أحمد بن حنبل بمكة، فقال: تعال حتى أريك رجلا لم تر عيناك مثله، قال: فجاء فأقامني على الشافعي، وهذا صحيح، وقد تقدم مع غيره. وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو عمر ابن السماك شفاها، أن عبد الله بن أحمد حدثه، قال: قال لي أبي: كنت أجالس محمد بن إدريس الشافعي، فكنت أذاكره بأسماء الرجال، وكان أبي يصف الشافعي فيطنب في وصفه، وقد كتب أبي عنه حديثا كثيرا، وكتب من كتبه بخطه بعد موته أحاديث عدة، مما سمعه من الشافعي، ﵁. وقال البيهقي: أخبرنا محمد بن الحسين السلمي، سمعت محمد بن عبد الله بن شاذان، يقول: سمعت أبا القاسم بن منيع، سمعت أحمد بن حنبل، يقول: كان الفقه قفلا على أهله، حتى فتحه الله بالشافعي. وقال الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، حدثنا عبد الله بن جعفر بن شاذان، حدثنا عبد الله بن أحمد: سمعت أبي يقول: لولا الشافعي ما عرفنا فقه الحديث. وقال الميموني: قال أحمد: خمسة أدعو لهم سحرا: أحدهم الشافعي. وقال الحاكم: حدثني أبو الحسن: أحمد بن محمد السري المقري بأبيورد، حدثنا أبو جعفر محمد بن عبد الرحمن، حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن الأشقر البغدادي: سمعت الفضل بن زياد العطار، يقول: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: ما أحد مس محبرة وقلما، إلا وللشافعي في عنقه منة. وقال زكريا الساجي: ثنا جعفر بن أحمد، قال: قال أحمد بن حنبل: كلام الشافعي، ﵁، في اللغة حجة. وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم، أخبرنا الزبير بن عبد الواحد، حدثني أبو المؤمل العباس بن الفضل، سمعت محمد بن عوف: سمعت أحمد بن حنبل، يقول: الشافعي فيلسوف في أربعة أشياء: في اللغة، واختلاف الناس، والمعاني، والفقه. وقال إبراهيم الحربي: سألت أحمد بن حنبل عن الشافعي؟ فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد بن ميمون بن مهران، قال: قال لي أحمد بن حنبل: ما لك لا تنظر في كتب الشافعي؟ فما من أحد وضع الكتب حتى ظهرت أتبع للسنة من الشافعي. وقال ابن عساكر: أخبرنا أبو محمد بن الأكفاني، قراءة، أخبرنا عبد الدائم بن الحسن، أنبأنا عبد الوهاب بن الحسن الكلابي، إجازة، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الهروي، حدثني محمد بن يعقوب الفرجي، قال: سمعت علي ابن المديني يقول لعلي بن المبارك، وقد ذكر مسألة، فقال له علي ابن المديني: عليكم بكتب الشافعي. وحدثني محمد بن يعقوب، سمعت محمد بن علي المديني، يقول: قال لي أبي: لا تترك للشافعي حرفا واحدا إلا كتبته، فإن فيه معرفة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت دبيسا، قال: كنت مع أحمد بن حنبل في المسجد الجامع، فمر حسين، يعني: الكربيسي، فقال: هذا، يعني: الشافعي، رحمة من الله تعالى لأمة محمد، ﷺ، ثم جئت إلى حسين، فقلت: ما تقول في الشافعي؟ فقال: ما أقول في رجل ابتدأ في أفواه الكتاب، والسنة، والاتفاق؟ ! وما كنا ندري ما الكتاب والسنة، نحن ولا الأولون، حتى سمعنا من الشافعي، ﵁: الكتاب، والسنة، والإجماع. قال: وحدثنا علي بن الحسن الهسنجاني، قال: سمعت أبا إسماعيل الترمذي، قال: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: ما تكلم أحد بالرأي، وذكر الثوري والأوزاعي ومالكا، وأبا حنيفة، إلا والشافعي أكثر اتباعا، وأقل خطأ منه، والله أعلم. وقال ابن عدي: سمعت منصور بن إسماعيل الفقيه، ويحيى بن زكريا، يقولان: سمعنا أبا عبد الرحمن النسائي، يقول: سمعت عبيد الله بن فضالة النسائي، الثقة المأمون، يقول: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: الشافعي إمام. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أحمد بن عمرو بن أبي عاصم: سمعت أبا إسحاق الشافعي، يعني: إبراهيم بن محمد، وذكر محمد بن إدريس، فقال هو ابن عمي، وعظمه، وذكر من قدره وجلالته، يعني في العلم. وروى الخطيب عن أبي بكر عبد الله بن الزبير الحميدي، أنه كان إذا ذكر عنده الشافعي، يقول: حدثنا سيد الفقهاء الشافعي. وقال زكريا الساجي: حدثني ابن بنت الشافعي: سمعت أبا الوليد بن أبي الجارود، يقول: ما رأيت أحدا إلا وكتبه أكبر من مشاهدته، إلا الشافعي، فإن لسانه كان أكبر من كتابه. وقال زكريا: حدثني أبو بكر بن سعدان: سمعت هارون بن سعيد الأيلي، يقول: لو أن الشافعي ناظر على هذا العمود الذي من حجارة أنه من خشب لغلب، لاقتداره على المناظرة. وقال ابن أبي حاتم: سمعت أبي يقول: محمد بن إدريس: فقيه البدن، صدوق، وقال الزبير بن عبد الواحد: سمعت عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، بمصر، يقول: سمعت أبا زرعة الرازي، يقول: ما عند الشافعي حديث غلط فيه. ونقل نحوه عن أبي داود، والله أعلم. وقال أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، سمعت إسحاق بن سعد بن الحسن بن سفيان، يقول: سمعت جدي: سمعت أبا ثور، يقول: ما رأينا مثل الشافعي، ولا رأى الشافعي مثل نفسه، قال أبو بكر الخطيب: أخبرنا أبو الحسن أحمد ابن محمد المجهز: سمعت عبد العزيز الحنبلي، صاحب الزجاج، يقول: سمعت أبا الفضل الزجاج، يقول: لما قدم الشافعي إلى بغداد، وكان في المسجد: إما نيف وأربعون، أو خمسون حلقة، فلما دخل بغداد ما زال يقعد في حلقة حلقة، ويقول لهم: قال الله، قال الرسول، وهم يقولون: قال أصحابنا، حتى ما بقي في المسجد حلقة غيره. قلت: ولهذا قال حرملة: سمعت الشافعي، يقول: سميت ببغداد ناصر الحديث. وقال الخطيب: أخبرنا محمد بن أحمد بن رزق، أخبرنا أحمد كامل القاضي، حدثني أبو الحسين القواس، حدثني ابن بنت الشافعي، سمعت الزبير بن بكار يقول: قال لي عمي مصعب: كتبت عن فتى من بني شافع، من أشعار هذيل ووقائعها، وقرأ: لم تر عيناني مثله، قال: قلت: يا عم، أنت تقول لم تر عيناني مثله! قال: نعم لم تر عيناني مثله. وقال ابن أبي حاتم: في كتابي عن الربيع بن سليمان، سمعت أيوب بن سويد يقول: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل هذا الرجل: ما رأيت مثل هذا الرجل قط، وقد رواه ابن عدي: حدثنا يحيى بن زكريا بن حيويه، وإبراهيم بن إسحاق بن عمر، قالا: حدثنا الربيع، سمعت أيوب بن سويد، يقول: ما ظننت أني أعيش حتى أرى مثل الشافعي، وقد رأى الأوزاعي. قال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ، أخبرنا أبو الوليد الفقيه، حدثنا إبراهيم بن محمود، قال: سمعت الزعفراني، يقول: ما رأيت مثل الشافعي: أفضل، ولا أكرم، ولا أسخى، ولا أتقى، ولا أعلم منه، وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت أبي ويوسف بن يزيد يقولان: ما رأينا مثل الشافعي. وقال ابن أبي حاتم: سمعت محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، يقول: ما أحد ممن خالفنا، يعني: خالف مالكا، أحب إلى من الشافعي. وقال أبو بكر الخطيب: أخبرنا محمد بن علي بن أحمد المقري، أخبرنا محمد بن جعفر التميمي، بالكوفة، أخبرنا عبد الرحمن بن محمد بن حاتم بن إدريس البلخي، أخبرنا نصر بن المكي، حدثنا ابن عبد الحكم، قال: ما رأينا مثل الشافعي: كان أصحاب الحديث ونقاده يجيئون إليه، فيعرضون عليه، فربما أعل نقد النقاد منهم، ويوقفهم على غوامض من نقد الحديث، لم يقفوا عليها، فيقومون وهم متعجبون، ويأتيه أصحاب الفقه: المخالفون والموافقون، فلا يقومون إلا وهم مذعنون له بالحذق والدراية. ويجيئوه أصحاب الأدب، فيقرئون عليه الشعر، فيفسره، ولقد كان يحفظ عشرة آلاف بيت شعر من أشعار هذيل، بإعرابها وغريبها ومعانيها. وكان من أضبط الناس للتاريخ، وكان يعينه على ذلك شيئان: وفور عقل، وصحة دين، وكان ملاك أمره إخلاص العمل لله. قال ابن عدي: حدثني محمد بن القاسم بن سريج، سمعت محمد بن عبد الله المعمري، سمعت الجاحظ، يقول: نظرت في كتب هؤلاء النبغة الذين نبغوا، فلم أر أحسن تأليفا من المطلبي، كأن كلامه نظم درا إلى در. وقال زكريا الساجي: سمعت هارون بن سعيد الأيلي، يقول: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئناه وهو يصلي، فما رأيت أحسن صلاة، ولا أحسن وجها منه، فلما تكلم، ما رأينا أحسن كلاما منه، فافتتنا به. وقال زكريا بن يحيى: حدثني الحسن بن محمد الزعفراني، قال: حج بشر، المريسي سنة إلى مكة، ثم قدم، فقال: لقد رأيت بالحجاز رجلا ما رأيت مثله سائلا ولا مجيبا، يعني: الشافعي، ﵁. قال: فقدم الشافعي علينا، بعد ذلك، بغداد، فاجتمع إليه الناس، وخفوا عن بشر، فجئت إلى بشر يوما، فقلت: هذا الشافعي الذي كنت تزعم، قد قدم علينا، فقال: إنه قد تغير عما كان عليه. قال الزعفراني: فما كان مثله إلا مثل اليهود في أمر عبد الله بن سلام، حيث قالوا: سيدنا وابن سيدنا: فلما أسلم؟ قالوا: شرنا وابن شرنا. فهذه شهادات الموافقين والمخالفين ... والفضل ما شهدت به الأعداء وقال ابن عدي: سمعت يحيى بن زكريا بن حيويه، يقول: سمعت هاشم بن مرثد الطبراني، يقول: سمعت يحيى بن معين، يقول: الشافعي صدوق، لا بأس به. وقال زكريا الساجي: حدثنا أحمد بن روح البغدادي، سمعت الزعفراني، يقول: كنت مع يحيى بن معين في جنازة، فقلت له: يا أبا زكريا! ما تقول في الشافعي؟ فقال: دعنا، لو كان الكذب له مطلقا، لكانت مروءته تمنعه أن يكذب. وقال الحسن بن محمد الزعفراني: كان أصحاب الحديث رقودا، حتى جاء الشافعي، فأيقظهم، فتيقظوا. وقال الربيع: كان أصحاب الحديث لا يعرفون مذاهب الحديث وتفسيره حتى جاء الشافعي.
فصل في معرفته بالكتاب والسنة، ومتابعته لهما ووقفه عندهما، ﵁ قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: أخبرنا أبو الوليد، أنبأنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عبيدة، قال: كنا نسمع من يونس بن عبد الأعلى تفسير زيد بن أسلم، فقال لنا يونس: كنت أولا أجالس أصحاب التفسير، وأناظر عليه، فكان الشافعي إذا أخذ في التفسير، كأنه شهد التنزيل، وقال أبو حسان الزيادي: ما رأيت أحدا أقدر على معاني القرآن، والعبارة على المعاني، والاستشهاد على ذلك من قول الشعر واللغة منه، رواه ابن عساكر. وروى البيهقي، عن الحاكم، عن الزبير بن عبد الواحد، عن أبي سعيد: محمد بن عقيل الفاريابي، عن الربيع، أو المزني: إن شيخا سأل الشافعي، ﵁، عن الحجة في الدين؟ فقال: كتاب الله وسنة رسول الله، ﷺ، واتفاق الأمة، فقال له الشيخ: من أين قلت: اتفاق الأمة، أمن الكتاب، أو السنة؟ فقال: من كتاب الله، فقال: من أين هذا في كتاب الله تعالى؟ قد أجلتك ثلاثة أيام، فإن جئت بحجة، وإلا تبت إلى الله، فلما كان اليوم الثالث، وجاء الشيخ، تلا عليه الشافعي، قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: ١١٥] . قال الشافعي، ﵁: لا يصليه على خلاف المؤمنين إلا وهو فرض، قال: فقال الشيخ: صدقت، وقام فذهب. وقال الحافظ البيهقي: أخبرنا أبو سعيد أحمد بن محمد الماليني، أخبرنا أبو بكر الإسماعيلي، حدثنا عبد الله بن وهب، يعني: الدينوري، حدثنا عبد الله بن محمد بن هارون الفريابي، سمعت الشافعي محمد بن إدريس بمكة، يقول: سلوني ما شئتم أجبكم من كتاب الله ومن سنة رسول الله، قال: فقلت له: أصلحك الله: ما تقول في المحرم يقتل زنبورا؟ فقال: نعم، بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله تعالى: ﴿وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا﴾ [الحشر: ٧]، وحدثنا سفيان بن عيينة، عن عبد الملك بن عمير، عن ربعي، عن حذيفة، قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: " اقتدوا باللذين من بعدي: أبي بكر وعمر ". وحدثنا سفيان، عن مسعر، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب، عن عمر بن الخطاب، ﵁، أنه أمر المحرم بقتل الزنبور، ورواها ابن عساكر من وجه آخر عن عبد الله بن وهب الدينوري بها، وجعل ذلك ببيت المقدس. واستأنس ابن عساكر لذلك في إيراد الشافعي في تاريخ دمشق، لأنه دخل الشام، وقال: لعله سئل عن ذلك مرتين في الموضعين، والله أعلم. وقال البيهقي، عن الحاكم، عن الأصم محمد بن يعقوب، عن الربيع، عن الشافعي، أنه قال: الأصل كتاب الله، أو سنة، أو إجماع الناس، أو قول بعض أصحاب رسول الله، ﷺ. وهذا من أدل الدليل على أن مذهبه: أن قول الصحابي حجة، وهو الذي عول عليه البيهقي وغيره من الأصحاب، وزعم الأكثرون منهم: الشيخ أبو حامد الإسفراييني، أنه رجع عن هذا في الجديد، ورأى فيه أن قول الصحابي ليس بحجة، والله أعلم. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع، قال: سمعت الشافعي، ودخلت عليه وهو مريض، فذكر ما وضع من كتبه فقال: وددت أن الخلق تعلمه ولا ينسب إلى منه شيء أبدا، وحدثنا أبي: حدثني حرملة بن يحيى، قال: سمعت الشافعي، يقول: وددت أن كل علم أعلمه يعلمه الناس أوجر عليه، ولا يحمدوني. وقال البيهقي عن الحاكم: سمعت أبا الحسين محمد بن محمد بن يعقوب الحجاجي، يقول: سمعت يحيى بن منصور القاضي، يقول: سمعت أبا بكر محمد ابن إسحاق بن خزيمة، وقلت له: هل تعرف سنة لرسول الله، ﷺ، في الحلال والحرام، لم يودعها الشافعي في كتابه؟ قال: لا. قال: وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، قال: قال أبو الوليد الفقيه، حدثنا أبو بكر بن أبي داود السجستاني، حدثنا هارون بن سعيد الأيلي، يقول: سمعت الشافعي، يقول: لولا أن يطول على الناس لوضعت في كل مسألة جزء حجج وبيان. وقال ابن أبي حاتم أيضا: حدثنا بحر بن نصر الخولاني المصري، قال: قدم الشافعي من الحجاز، فبقى أربع سنين بمصر، ووضع هذه الكتب في أربع سنين، ثم مات. وكان أقدم معه من الحجاز كتب ابن عيينة، وخرج إلى يحيى بن حسان، فكتب عنه، وأخذ كتبا من أشهب بن عبد العزيز، يقال فيه آثار وكلام من كلام أشهب، وكان يضع الكتب بين يديه، ويصنف الكتب، فإذا ارتفع له كتاب: جاءه كاتب يقال له: ابن هرم فيكتب، ويقرأ عليه البويطي، ويجمع من يحضر ليسمع، فيعلم في كتاب ابن هرم ثم ينسخونه بعد، فكان الربيع على حوائج الشافعي، فربما غاب في حاجة، فيعلم له، فإذا رجع، قرأ الربيع عليه ما فاته. وقال البويطي: سمعت الشافعي، ﵁، يقول: لقد ألفت هذه الكتب، ولم آل فيها، ولا بد أن يوجد فيها الخطأ، لأن الله تعالى يقول: ﴿وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا﴾ [النساء: ٨٢]، فما وجدتم في كتبي هذه مما يخالف الكتاب والسنة، فقد رجعت عنه. وقال البيهقي: عن أبي عبد الرحمن السلمي، عن الأصم، عن الربيع، سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم في كتابي خلاف سنة رسول الله، ﷺ، فقولوا بها، ودعوا ما قلته. وقال البيهقي: عن الحاكم، عن الأصم، عن الربيع: سمعته يقول. وقال له رجل: يا أبا عبد الله تأخذ بهذا الحديث؟ فقال: متى رويت عن رسول الله، ﷺ، حديثا صحيحا، ولم آخذ به، فأشهدكم أن عقلي قد ذهب. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان: سمعت الشافعي، يقول: وذكر نحوه، وقال: سمعته، يقول: أي سماء تظلني، وأي أرض تقلني، إذا رويت عن رسول الله، ﷺ، حديثا ولم أقل به، رواه البيهقي، عن الحاكم، عن أبي عمرو ابن السماك، عن أبي سعيد الجصاص، عن الربيع. وقال الحميدي: روى الشافعي يوما حديثا، فقلت: أتأخذ به؟ فقال: أرأيتني خرجت من كنيسة وعلى زنار؟ حتى إذا سمعت من رَسُولِ اللَّهِ، ﷺ، حديثا لا أقول به! . وقال ابن أبي حاتم: عن أبي محمد البستي السجستاني، فيما كتب إليه، قال: قال أبو ثور: سمعت الشافعي، يقول: كل حديث عن رسول الله، ﷺ، فهو: قولي، وإن لم تسمعوه مني، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: سمعت حرملة بن يحيى، يقول: قال الشافعي: كل ما قلت فكان عن النبي، ﷺ، خلاف قولي مما يصح، فحديث رسول الله، ﷺ، أولى فلا تقلدوني. وقال القاضي أبو عمر البسطامي: حدثنا أحمد بن عبد الرحمن بن عبد الرحيم بن الجارود: سمعت المزني، يقول: سمعت الشافعي، يقول: إذا وجدتم سنة، فاتبعوها، ولا تلتفتوا إلى قول أحد. وعن البويطي، قال: سئل الشافعي: كم أصول الأحكام؟ قال خمس مائة، فقيل له: كم أصول السنن؟ قال: خمس مائة. وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل: سمعت أبي يقول: قال الشافعي: أنتم أعلم بالأخبار الصحاح منا، فإذا كان خبر صحيح، فأعلمني حتى أذهب إليه، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا، رواه الخطيب البغدادي، عن الحافظ أبي نعيم الأصبهاني، عن أبي القاسم الطبراني، قال: سمعت عبد الله بن أحمد يذكره عن أبيه. وقال ابن أبي حاتم: أخبرني عبد الله بن أحمد بن حنبل، فيما كتب إلي، قال: قال أبي: قال لنا الشافعي: أنتم أعلم بالحديث والرجال مني، فإذا كان الحديث صحيحا، فأعلموني، كوفيا كان، أو بصريا، أو شاميا، حتى أذهب إليه، إذا كان صحيحا، ورواه البيهقي من غير وجه عن عبد الله بن أحمد يذكره، ثم قال: وإنما أراد حديث أهل العراق، لأن المتقدمين من أهل الحجاز كانوا لا يفكرون في رواية أهل العراق، ولا يأخذون بها، لما بلغهم من مساهلة بعضهم في الرواية، فلما قام لعلم حديثهم، ومعرفة رواية حفاظهم، وميزوا صحيح الحديث من سقيمه، أخذ الشافعي بما صح من ذلك. وكان أحمد بن حنبل من أهل العراق، وكان قد عرف من أحوال رواتهم، ما عساه يخفي على علماء الحجاز في ذلك، فرجع الشافعي إليه في معرفة أحوال رواة الحديث من أهل العراق، ثم كان الشافعي أعرف منه بأحوال رواة الحجاز وذلك بين في مذاكرتهما، انتهى كلامه.
كلامه في أصول العقائد قال الإمام أحمد بن حنبل: كان الشافعي إذا ثبت عنده الحديث قلده، وخير خصائله لم يكن يشتهي الكلام، إنما همته الفقه. وقال ابن أبي حاتم: سمعت الربيع قال: أخبرني من سمع الشافعي، يقول: لأن يلقى الله المرء بكل ذنب، خلا الشرك بالله ﵎، خير له من أن يلقاه بشيء من الأهواء، ورواه غير واحد عن الربيع، أنه سمع الشافعي يقول ذلك. وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: سمعت الشافعي، يقول: لو علم الناس ما في الكلام في الأهواء، لفروا منه، كما يفر من الأسد، وقال أبو ثور وغير واحد عن الشافعي، ﵀، أنه قال: حكمي في أصحاب الكلام أن يطاف بهم في القبائل، وينادي عليهم: هذا جزاء من ترك الكتاب والسنة، وأقبل على الكلام. قال أبو نعيم بن عدي، وغيره: قال داود بن سليمان، عن الحسين بن علي، سمع الشافعي، يقول: حكمي في أهل الكلام: حكم عمر في صبيغ. وقال البويطي: سمعت الشافعي، يقول: عليكم بأصحاب الحديث، فإنهم أكثر الناس صوابا، وعن الشافعي، قال: إذا رأيت رجلا من أصحاب الحديث، فكأنما رأيت رجلا من أصحاب النبي، ﷺ، جزاهم الله خيرا، حفظوا لنا الأصل، فلهم علينا الفضل. وقال محمد بن إسماعيل: سمعت الحسين بن علي الكرابيسي، يقول: قال الشافعي: كل متكلم على الكتاب والسنة فهو الجد، وما سواه فهو هذيان. وعن الشافعي، ﵁، أنه أنشد: كل العلوم سوى القرآن مشغلة ... إلا الحديث وإلا الفقه في الدين العلم ما كان فيه قال حدثنا ... وما سوى ذاك وسواس الشياطين وقال ابن خزيمة: سمعت الربيع، يقول: لما كلم الشافعي حفصا الفرد، فقال حفص: القرآن مخلوق، فقال له الشافعي، ﵁، كفرت بالله العظيم. ورواه ابن أبي حاتم، عن الربيع: حدثني من أثق به، وكنت حاضرا في المجلس، فقال حفص الفرد: القرآن مخلوق، فقال الشافعي: كفرت بالله العظيم. وقال البيهقي: أخبرنا الحاكم: أخبرني أبو الفضل بن أبي نصر العدل، حدثني حمك بن عمرو العدل، حدثنا محمد بن عبد الله بن فورش، عن علي بن سهل الرملي، أنه قال: سألت الشافعي، ﵁، عن القرآن، فقال: كلام الله غير مخلوق. قلت: فمن قال بالمخلوق، عما هو عندك؟ قال لي: كافر بالله، وقال الشافعي، ما لقيت أحدا منهم، يعني: من أستاذيه، إلا قال: من قال: القرآن مخلوق، فهو كافر. وقال الربيع: سمعت الشافعي، يقول في قول الله تعالى: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، علمنا بذلك أن قوما غير محجوبين ينظرون إليه، لا يضامون في رؤيته، كما جاء عن النبي، ﷺ، أنه قال: «ترون ربكم كما ترون الشمس، لا تضامون في رؤيتها» . وقال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الله الحافظ: سمعت أبا محمد، جعفر بن محمد بن الحارث، يقول سمعت أبا عبد الله الحسين بن محمد بن الضحاك، المعروف بابن بحر، يقول: سمعت أبا إسماعيل بن يحيى المزني، يقول: سمعت ابن هرم، يعني: إبراهيم بن محمد بن هرم، وكان من علية أصحاب الشافعي، يقول: سمعت الشافعي، يقول في قول الله، ﷿: ﴿كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ﴾ [المطففين: ١٥]، فلما حجبهم في السخط كان في هذا دليل على أنهم يرونه في الرضا، فقال له أبو النجم القزويني: يا أبا إبراهيم، به تقول؟ قال: نعم، وبه أدين الله، فقام إليه عصام فقبل رأسه، وقال: يا سيد الشافعيين، اليوم بيضت وجوهنا. وقد روي من غير وجه عن الشافعي نحوه. وقال ابن خزيمة: أنشدنا المزني، قال: أنشدنا الشافعي، لنفسه: ما شئت كان وإن لم أشأ ... وما شئت إن لم تشأ لم يكن خلقت العباد على ما علمت ... ففي العلم يجري الفتى والمسن فمنهم شقي ومنهم سعيد ... ومنهم قبيح ومنهم حسن على ذا مننت وهذا خذلت ... وهذا أعنت وذا لم تعن ورواه البيهقي، عن عبد الرحمن السلمي: سمعت أحمد بن محمد بن مقسم، أخبرني بعض أصحابنا، أخبرني المزني، قال: دخلت على الشافعي في مرضه، الذي مات فيه، فأنشدني لنفسه، فذكر هذه الأبيات. وأخبرنا أبو عبد الله الحافظ، حدثني الزبير بن عبد الله بن عبد الواحد الحافظ، حدثنا أبو أحمد حامد بن عبد الله المروزي، حدثنا عمران بن فضالة، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: سئل الشافعي عن القدر، فأنشأ يقول: وذكرها. وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي: سمعت حرملة بن يحيى، قال: اجتمع حفص الفرد، ومصلان
Bog aan la aqoon
الأباضي، عند الشافعي، في دار الجروي، بمصر، فتكلما في الإيمان، فاحتج مصلان في: الزيادة والنقصان، واحتج حفص الفرد في: الإيمان قول، فعلا حفص الفرد على مصلان، وقوي عليه، وضعف مصلان، فحمى الشافعي، وتقلد المسألة على أن الإيمان: قول وعمل، يزيد وينقص، فطحن حفصا الفرد وقطعه.
وحدثنا أبي: حدثنا عبد الملك بن عبد الحميد الميموني، حدثني أبو عثمان محمد بن محمد الشافعي، قال: سمعت أبي، يعني: محمد بن إدريس الشافعي، ﵁، يقول ليلة للحميدي: ما يحتج عليهم،
1 / 3
يعني: أهل الإرجاء، بآية أحج من قوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ﴾ [البينة: ٥] .
وروى البيهقي بسنده، عن الربيع، أنه قال: سمعت الشافعي، يقول: الإيمان قول وعمل، يزيد وينقص.
وقد نقل الطبري عن الإمام الشافعي أنه حكى الإجماع على ذلك، كما حكاه غيره من الأئمة.
وقال زكريا الساجي: حدثنا عيسى بن إبراهيم، حدثنا محمد بن نصر الترمذي، سمعت الربيع، يقول: سمعت الشافعي، يقول:
1 / 4
أفضل الناس بعد رسول الله، ﷺ، أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ﵃.
وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي: حدثنا إدريس بن علي المؤدب، سمعت أبا بكر عبد الله بن محمد بن زياد، سمعت الربيع، يقول: سمعت الشافعي، ﵁، يقول في الخلافة: في التفضيل نبدأ بأبي بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، ﵃.
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا أبي، حدثنا حرملة بن يحيى، سمعت الشافعي، يقول: الخلفاء خمسة:
1 / 5
أبو بكر، وعمر، وعثمان، وعلي، وعمر بن عبد العزيز، ﵃، فهذه أسانيد صحيحة، ونصوص صريحة عن الإمام أبي عبد الله الشافعي، ﵁، في مذهب أهل السنة والجماعة، سلفا وخلفا.
فتبين بهذا خطأ قول أحمد بن عبد الله العجلي في الشافعي: إنه شيعي، وهذا القول من العجلي مجازفة بلا علم، وإنما غره في ذلك، ما قدمنا ذكره من أهل اليمن لما رموه في جملة أولئك النفر القرشيين، وحمل معهم إلى الرشيد، وكان لهم تشيع، اعتقد من لا يعلم أن الشافعي كان إذ ذاك على مذهبهم.
وإلا فالإمام الشافعي، ﵁: أعظم محلا، وأجل قدرا، من أن يرى رأي الشيعة، الفرقة المخذولة، والطائفة المرذلة، وهو ذو الفهم التام، والذكاء الزائد، والحفظ الحاذق، والفكر الصحيح، والعقل الرجيح.
وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي، سمعت أبا الوليد حسان بن محمد الفقيه، سمعت إبراهيم بن محمود بن حمزة،
1 / 6
حدثنا أبو سليمان، يعني: داود بن علي الأصبهاني، حدثني الحارث بن سريج النقال، سمعت إبراهيم بن عبد الله الحجبي، يقول للشافعي: ما رأيت هاشميا يفضل أبا بكر على علي، فقال له: علي بن أبي طالب ابن عمي، وابن خالي، وأنا رجل من بني عبد مناف، وأنت رجل من بني عبد الدار، ولو كانت هذه مكرمة: لكنت أولى بها منك، ولكن ليس الأمر على ما تحسب.
وروى ابن حكمان بسنده عن المزني، قال: أنشدنا الشافعي، من قيله:
شهدت بأن الله لا شيء غيره ... وأشهد أن البعث حق وأخلص
وأن عرى الإيمان قول مبين ... وفعل زكي قد يزيد وينقص
وأن أبا بكر خليفة ربه ... وكان أبو حفص على الخير يحرص
وأشهد ربي أن عثمان فاضل ... وأن عليا فضله يتخصص
أئمة قوم يهتدي بهداهم ... لحا الله من إياهم يتنقص
فما لغواة يشهدون سفاهة ... وما لسفيه لا يحس ويحرص
1 / 7
وقال الحافظ أبو القاسم ابن عساكر: أخبرنا أبو الحسن الموازيني، قراءة عليه، عن أبي عبد الله القضاعي، قال: قرأت على أبي عبد الله محمد بن أحمد بن محمد، حدثنا الحسين بن علي بن محمد بن إسحاق الحلبي، حدثني جدي محمد وأحمد ابنا إسحاق بن محمد، قالا: سمعنا جعفر بن محمد بن أحمد الرواس، بدمشق، يقول: سمعت الربيع، يقول: خرجنا مع الشافعي، ﵁، من مكة، نريد منى، فيم ينزل واديا ولم يصعد شعبا إلا وهو يقول:
يا راكبا قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفها والناهض
1 / 8
سحرا إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضا كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضا حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
قلت: ليس برفض حب آل محمد، وكل أهل السنة يحبون آل محمد، ﵌، ويجب عليهم ذلك، كما يجب عليهم حب أصحاب رسول الله، ﷺ، أجمعين.
ومع حب الآل يقدم أبو بكر، ثم عمر، ثم عثمان، ثم علي، ﵃، كما نص عليه الشافعي وأئمة الإسلام.
وروى هذه الأبيات ابن حمكان، عن الزبير، عن محمد بن محمد بن الأشعث، عن الربيع، عن الشافعي.
وقال الحافظ البيهقي: أنبأنا الحاكم، حدثني الزبير، أخبرني محمد بن عبد الله بن عبيد العطار، ببغداد، أخبرني أحمد بن يوسف بن
1 / 9
تميم، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: أنشدني الشافعي، ﵁:
قد نقر الناس حتى أحدثوا بدعا ... في الدين بالرأي لم تبعث بها الرسل
حتى استخف بحق الله أكثرهم ... وفي الذي حملوا من حقه شغل
قال الحاكم: وحدثنا محمد بن الحسن النقاش، حدثنا أبو نعيم عبد الملك بن محمد، حدثنا الربيع بن سليمان، قال: ناظر رجل الشافعي في مسألة، فدقق، والشافعي ثابت يحدث ويصيب، فعدل الرجل إلى الكلام في مناظرته، فقال له الشافعي: هذا غير ما نحن فيه، هذا كلام، لست أقول بالكلام واحدة، وأخرى: ليست المسألة متعلقة به، ثم أنشأ الشافعي يقول:
1 / 10
متى ما بعد بالباطل الحق يأبه ... وإن قدت بالحق الرواسي تنقد
إذا ما أتيت الأمر من بابه ... ضللت، وإن تقصد إلى الباب تهتد
فدنا منه الرجل وقبل يده، فهذه نبذه مختصرة في هذتا الباب كافية، إن شاء الله تعالى.
1 / 11
فصل في ذكر أوصافه الجميلة، وشمائله وأخلاقه الفضيلة
قد تقدم أنه كان في صغره ذا قريحة وهمة عظيمة، وأنه حفظ القرآن، والموطأ، وله عشر سنين، وأنه عني بالأدب والشعر، واللغة، برهة من عمره، ثم أقبل على الفقه، فبرز فيه على أقرانه، وفاق أهل زمانه.
وكان مع ذلك أعلم الناس بالسير والمغازي وأيام العرب، ووقائعها وأيام الإسلام، ومن أحسن الناس رميا بالنشاب، وأنه كان يصيب من العشرة عشرة.
وكان من أعلم الناس بالأنساب، وبعلم الفراسة، ومن أسخى الناس كفا، وأعطاهم للجزيل، وكيف لا، وهو من بيت النبوة، الذين هم سادات الناس، في الدنيا والآخرة، والناس عيال عليهم في الدنيا والدين.
من القوم الرسول الله منهم ... لهم دانت رقاب بني معد
أعطاه الرشيد مالا جزيلا، ففرقه على ذوى الحاجات من قريش، ﵁.
وكان من أورع الناس، وتحريه في روايته يدل على ذلك، كما هو معروف في كلامه، ومن أكمل الناس مروءة، فإنه قال: لو علمت أن شرب الماء البارد ينقص مروءتي ما شربته.
وكان من أفصح الناس، وأحلاهم عبارة.
1 / 12
قال ابن عدي: حدثنا يحيى بن زكريا بن حيويه، سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: كانت ألفاظ الشافعي كأنها سكر.
وقال أبو جعفر الترمذي، عن يونس: ما كان الشافعي إلا ساحرا ما كنا ندري ما يقول إذا قعدنا حوله، قلت: في الصحيح عن رسول الله، ﷺ، أنه قال: «إن
1 / 13
من البيان سحرا» .
قال ابن عدي: وحدثنا يحيى بن زكريا، سمعت أبا سعيد الفريابي، سمعت محمود النحوي، سمعت ابن هاشم النحوي، يقول: طالت مجالستنا للشافعي، فما سمعت منه لحنة قط، ولا كلمة غيرها أحسن منها، قلت: وقد روى عن الأصمعي قريب من هذا، وقال ابن أبي حاتم: عن الربيع، قال ابن هشام: كان الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة، قال: وحدثت عن أبي عبيد القاسم بن سلام، أنه قال: الشافعي ممن تؤخذ عنه اللغة، أو من أهل اللغة، الشك مني يقوله ابن أبي حاتم، وقال ابن أبي حاتم: قال أبي: قال: أحمد بن أبي سريج، ما رأيت أحدا أفوه، ولا أنطق من الشافعي، قال ابن أبي حاتم: وسمعت الربيع، يقول: كان
الشافعي عربي النفس، عربي اللسان، وأخبرني عبد الله بن أحمد فيما كتب إلي قال: قال أبي: كان الشافعي من أفصح الناس، وكان مالك يعجبه قراءته، لأنه كان فصيحا.
وقال محمد بن يحيى الصولي: قال المبرد: رحم الله الشافعي، كان من أشعر الناس، وآدب الناس، وأعرفهم بالقراءات، وعن المزني: أن رجلا قرأ على الشافعي فلحن، فقال الشافعي: أضرستني.
1 / 14
وقال زكريا الساجي: سمعت جعفر بن محمد الخوارزمي يحدث، عن أبي عثمان المزني، سمعت الأصمعي، يقول: قرأت شعر الشنفري على الشافعي بمكة.
وقال ابن أبي الدنيا: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي.
قلت لعمي: على من قرأت شعر هذيل؟ فقال: على رجل من آل المطلب، يقال له: محمد بن إدريس، وقد تقدم عن مصعب، عن الزبيري، أنه سمعها من لفظ الشافعي، ﵀.
وكان من أحسن الناس صوتا بالقرآن، قال ابن عدي: حدثنا الحسين بن إسماعيل النقار، حدثنا موسى بن سهل، حدثني أحمد بن صالح، قال: قال الشافعي: يا أبا جعفر تعبد من قبل أن ترأس، فإنك إن ترأست لم تقدر أن تتعبد، قال: وكان الشافعي إذا تكلم كأن
1 / 15
صوته صنج، أو جرس، من حسن صوته، ﵀، ورضي عنه.
وقال زكريا بن يحيى الساجي: سمعت هارون بن سعيد الأيلي، يقول: ما رأيت مثل الشافعي، قدم علينا مصر، فقالوا: قدم رجل من قريش، فجئناه، وهو يصلي، فما رأيت أحسن صلاة منه، ولا أحسن وجها منه، فلما قضى صلاته تكلم، فما رأيت أحسن كلاما منه، فافتتنا به، وقال الحاكم: أخبرنا الزبير بن عبد الواحد، سمعت عباس بن الحسين، يقول: سمعت بحر بن نصر، يقول: كنا
1 / 16
إذا أردنا أن نبكي، قلنا: اذهبوا بنا إلى هذا الفتى المطلبي، يقرأ القرآن، فإذا أتيناه استفتح القرآن، حتى يتساقط الناس بين يديه، ويكثر عجيجهم بالبكاء، فإذا رأى ذلك أمسك عن القرآن من حسن صوته.
وروى الحافظ ابن عساكر أن الشافعي قرأ يوما هذه الآية: ﴿هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالأَوَّلِينَ ﴿٣٨﴾ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ ﴿٣٩﴾ وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ﴿٤٠﴾﴾ [المرسلات: ٣٨-٤٠]، فلم يزل يبكي حتى غشي عليه، ﵀.
وكان كثير التلاوة للقرآن، ولا سيما في شهر رمضان، كان يقرأ في اليوم والليلة ختمتين، وفيما عداه في كل يوم وليلة ختمة، روى ذلك الخطيب البغدادي عن علي بن المحسن القاضي، عن أبي بكر: محمد بن إسحاق بن إبراهيم الصفار، عن عبد الله بن محمد بن جعفر القزويني، عن الربيع به، وقال ابن أبي حاتم: حدثنا الربيع بن سليمان المرادي المصري، قال: كان الشافعي يختم القرآن في رمضان ستين مرة، كل ذلك في صلاة، وقال البيهقي: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت علي بن
1 / 17
عمر الحافظ، سمعت أبا بكر النيسابوري، سمعت الربيع، قال: كان الشافعي يختم في كل شهر ثلاثين ختمة، وفي رمضان
ستين ختمة، سوى ما يقرأ في الصلاة.
قال: وكان يحدث وطست تحته، فقال يوما: اللهم إن كان لك فيه رضا فزد، قال: فبعث إليه إدريس بن يحيى المعافري: إنك لست من رجال البلاء، فسل الله تعالى العافية.
وكان كثير الصلاة بالليل، كان قد قسم الليل ثلاثة أجزاء، فثلثه الأول للأشغال، والثاني للصلاة، والثالث ينامه ليقوم إلى صلاة الفجر نشطا، ﵀، وروى البيهقي، عن الحاكم، حدثني أبو بكر محمد بن محمد البغدادي، حدثنا أبو الحسن علي بن قرين، عن الربيع، فذكر، وقال زكريا الساجي عن محمد بن إسماعيل، حدثنا حسين الكرابيسي، قال: بت مع الشافعي، فكان نحو ثلث الليل يصلي، وما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله لنفسه وللمؤمنين أجمعين، فكأنما جمع له الرجاء والرهبة.
قلت: هكذا يكون تمام العبادة: أن تجمع الرغبة والرهبة، كما صح عن رسول الله، ﷺ، أنه كان إذا مر بآية رحمة وقف فسأل، وإذا مر بآية عذاب وقف وتعوذ، وقال الله تعالى: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ
1 / 18
الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ﴾ [الزمر: ٩]؛ فلهذا استحب أصحابنا هذا الصنيع في جميع الصلوات للإمام والمأموم والمنفرد.
وكان ذا همة علية، وقدرة بليغة، وعبارة وسيعة، في حال المناظرة، قال بعض من وصفه: إنه لو شاء أن يقيم دليلا على هذه السارية التي من حجارة، أنها من خشب لفعل ذلك، وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم: لو رأيت الشافعي يناظرك لظننت أنه سبع يأكلك، وفي رواية، قال: كنت إذا رأيت من يناظر الشافعي رحمته.
وقال أيضا: الشافعي علم الناس الحجج، وقد صح عنه من غير وجه، أنه قال: ما ناظرت أحدا على الغلبة، وقال أيضا: ما عرضت الحجة على أحد فقبلها إلا عظم في عيني، ولا عرضتها على أحد فردها إلا سقط من عيني.
وقال الربيع، فيما رواه ابن عساكر بسند عنه سئل الشافعي عن مسألة، فأعجب بنفسه، فأنشأ يقول:
إذا المشكلات تصدينني ... كشفت حقائقها بالنظر
ولست بإمعة في الرجال ... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدره الأصغرين ... فتاح خير وفراج شر
ورواها أبو علي بن حمكان بسند عن المزني، أن رجلا سأل الشافعي عن رجل في فيه تمرة، فحلف بالطلاق أنه لا يبلعها ولا يرمي بها، فقال له الشافعي: يبلع نصفها، ويرمي نصفها، حتى لا يكون بالعا لها
1 / 19
كلها، ولا يلفظ بها كلها، ثم أنشأ يقول:
إذا المشكلات تصدين لي ... كشفت حقائقها بالنظر
وإن برقت في عيون الأمور ... عمياء لا يجتليها الفكر
مبرقعة في عيون الأمور ... وضعت عليها حسام النظر
لسان كشقشقة الأرحبي ... أو كاليماني الحسام الذكر
ولست بإمعة في الأمور ... أسائل هذا وذا ما الخبر
ولكنني مدرة الأصغرين أقيس ... بما قد مضى ما غبر
وقال ابن أبي حاتم: حدثنا محمد بن إسحاق بن راهويه: سمعت أبي، يقول: اجتمعت مع الشافعي بمكة، فسمعته: يسأل عن كرى بيوت مكة، فقلت له: أسألك عن هذه المسألة لا أجاوز بك إلى غيرها،
1 / 20
قال: ذاك أقدر لك.
قال ابن أبي حاتم: سمعت أبا إسماعيل الترمذي، بمكة سنة ستين ومائتين، فحدثنا بأحاديث، عن أيوب بن سليمان بن بلال، وقال أبو إسماعيل: سمعت إسحاق بن راهويه، يقول: جالست الشافعي بمكة فأذكرنا في بيوت مكة، وكان يرخص فيه، وكنت لا أرخص فيه، فذكر الشافعي حديثا، وسكت، وأخذت أنا في الباب أسرد.
فلما فرغت منه، قلت أنا لصاحب لي، من أهل مرو بالفارسية: مردك ما لا نيست - قرية بمرو - فعلم أني راطنت صاحبي بشيء هجيته فيه، فقال لي: أتناظر؟ فقلت: وللمناظرة جئت، قال: قال الله تعالى: ﴿الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ﴾ [الحج: ٤٠]، أنسب الديار إلى مالكها أم إلى غير مالكها؟ وقال النبي، ﷺ: «من أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن»، وقال: «وهل ترك لنا عقيل من رباع» .
أنسب الدار: إلى أربابها؟ أو إلى غير أربابها؟ وقال لي: اشترى عمر بن الخطاب، ﵁، دار السجن بمكة، من مالك؟ أو من غير مالك؟ فلما علمت أن الحجة قد لزمتني قمت،
1 / 21