طبقات علماء الحديث
تأليف
الإمام أبي عبد الله محمد بن أحمد بن عبد الهادي الدمشقي الصالحي (المتوفى سنة ٧٤٤ هـ)
تحقيق
أكرم البوشي
إبراهيم الزيبق
مؤسسة الرسالة
Bog aan la aqoon
جَمِيع الْحُقُوق مَحْفُوظَة للناشر
الطَّبعَة الثَّانِيَة
١٤١٧ هـ - ١٩٩٦ م
مؤسَّسَة الرسَالة للطباعةِ والنشر والتوزيع
مؤسَّسَة الرسَالة - بيروت - وطى المصيطبة - مبْنى عبد الله سليت
تلفاكس: ٨١٥١١٢ - ٣١٩٠٣٩
فاكس: ٦٠٣٢٤٣ - ص. ب: ١١٧٤٦٠ - برقيًا - بيوشران
1 / 2
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
1 / 4
بين يدي الكتاب
للعملِ في المخطوطات متعةٌ لا يعرفها إلا من ذاقها، إنها في أيسر حالاتها تنميةٌ لحسِّ الزمن في أعماقنا، وإرهافٌ لرعشة الماضي في وجداننا، تعيشه كأنه الحاضر .. رؤيةً ورؤيا .. هذه المخطوطة بخط الإِمام الغزالي .. وتلك بخط الإمام الذَّهبي .. وهذه سمعها صلاحُ الدِّين .. وتلك كان يملكها الملك المعظَّم .. وتتلاحقُ الأزمنة أمامك، وأنت تقف في زمنك، وتعيش الفكر والوجدان معًا، ها هم أولاء أعلامنا .. وأكاد أحيانًا أمدُّ يدي لأصافحهم من خلال خطوطهم ...
وتقرأ لاهثًا .. وأنت ملاحقٌ بهذا الإِحساس، لتَرْدِمَ خَنْدقًا حفره الزمن خلال قرونٍ عديدة، وتحاول أن تلملم صورةً بعثرتها النكبات والأحداث ومزقتها .. ولكي تلملمَ بقايا الصورة؛ عليك أن تعاني مشقَّة السؤال والحرمان .. فلكي تكتب عن دمشق مثلًا، عليك أن تبحث عنها في مكتبات ليدن، أو لندن، أو برلين ... تراثنا ما زال أسيرًا في ديار الغُرْبة .. وثمة من يطالبنا بالابتعاد عنه! ..
وتمضي السَّاعات .. وأنت تسعى بين الكتب وراء فتحةٍ أو ضمة تتوِّجُ بها كلمة .. أو تكشفُ عن معنى .. أو تعيدُ الحياةَ إلى كلمة عَدَتْ
1 / 5
عليها عوادي الرُّطوبة .. وتشعر بلذَّةٍ غريبة حين يشعُّ في ذهنك معنى .. أو تستسلم لك كلمة .. وتحس أنك تعيد اكتشاف التراث من جديد، أنك تردِمُ فجوةً بين الماضي والحاضر ..
وهذا الكتاب يبيِّن جانبًا من جوانب ثقافتنا، هو تأريخ لهذه الفئة من العلماء الذين أخلصوا في خدمة الحديث النَّبوي الشَّريف، ومنحوه قلبهم وعقلهم وجهدهم، هذه الفئة التي كان من أهمِّ أهدافها ألا نبتعدَ عن اليَنْبُوع الثَّاني في ديننا الحنيف، عن المصدر الثاني -بعد القرآن الكريم- في تكوين نظرتنا إلى الحياة والكون، ويدهشنا حقًّا هذا الإِيمان الكبير الذي سَكَنَ قلوبهم، وهذا الدَّأْبُ على العِلْم مع الفاقة في كثيرٍ من الأحيان، فكان منهم في كل عصر ثوابت مبصرة، تبعدنا عن الانحراف وراء يونان أو فُرْس .. تذكِّرنا دائمًا بكلماتِ المصطفى ﷺ، وهي مضمخة بعبق الإِيمان، وبعزيمة الحياة ...
وهو يعرِّفنا بمؤلفاتٍ لم نسمع بها من قبل .. مؤلفاتٍ شاملةٍ لأكثر المعارف، من حديثٍ .. وتاريخ، وأدب ونحو وتصوُّف.
وقد قدَّمْتُه بمقدِّمة تعرِّف بالمؤلف وعصره، وأتبعتها بدراسةٍ عن ثقافته ونقده ومؤلفاته، واستقصيت -ما أمكن- التآليف التي من بابته، وأجريتُ مقارنةً بينه وبين تذكرة الحفَّاظ لوحدة موضوعِهما .. وعصرِهِما ..
وقد قمتُ بتحقيقه مع الأخ الصَّديق الأستاذ أكرم البوشي، فجزأنا الكتاب، فكان من نصيبه الجزء الأول والثاني، وكان من نصيبي الجزء الثالث والرابع .. وقد اتفقنا على منهجٍ في التحقيق بيَّنْتُه في آخر هذه المقدِّمة.
1 / 6
وبعد ..
هل تكفي كلمةُ شكرٍ أُزْجيها لأُستاذي وشيخي شعيب الأرنؤوط؟ وهل تجزئُ عني كلمةُ ثناء أكتبها له بحروف المحبَّة والصِّدْق؟ .. إن ما بعنقي له أوسع من الشكر، وأجزل من الثناء، إنَّ ما فتح عليه عيني من أمور الحياة، وأنا أَتَلمَّس طريقي بعقل غضٍّ وقلب مُرْهف جعل أيامي معه سنين في عُمْقها وغِنَاها، ثمّ أخذ بيدي في عالم التحقيق، فمنحني ثِقَته وما أغلاها، وأنار دَرْبي بعلْمِهِ وما أغزره، فلَكَ يا أستادي شكرٌ أوسعُ من الشُّكر، وثناء أعظمُ من الثَّناء، والله يتولَّى عني حُسْن جزائك.
وليس لي وراءَ الله مَرْمى ..
دمشق: ١٧ جمادى الآخرة ١٤٠٦ هـ
٢٧ شباط ١٩٨٦ م
إبراهيم الزيبق
1 / 7
محمَّد بن أحمد بن عبد الهادي
(٧٠٥ - ٧٤٤ هـ)
حياته، ثقافته، مؤلفاته
بقلم
إبراهيم الزيبق
1 / 9
"لو عاش كان عجبًا"
صلاح الدين الصفدي
1 / 10
١ - دمشق
عاشتْ دمشق في النِّصف الأوَّل من القرن الثامن الهجري أجمل أيامها، فقد أَمِنَتْ من التَّتار بعد هزيمتهم في شَقْحب سنة (٧٠٢ هـ) (١)، وعاد إلى السلطة الملكُ الناصر محمد بن قَلاوون للمرة الثالثة سنة (٧٠٩ هـ) (٢)، وتولى أمر نيابتها أمير ذوهمة عالية هو تنكز، وذلك سنة (٧١٢ هـ) (٣)، وقد بَسَطَ الملك الناصر سلطتَه على مِصْر والشَّام بحزمٍ وقوة؛ مما مكَّن تنكز في دمشق أن يقوم بحملة إصلاح واسعة شَمِلَتْ مناحي الحياة كافَّة، ابتداءً من كفِّ ظلم الولاة عن الناس، ومنع الأمراء من تسخير الفلاحين والمزارعين في أعمالهم، وانتهاءً بإحياء ما اندثر من الأوقاف بإعادة عمارة المدارس والمساجد، وقد أَنْصَفَ العامة والتجار بخلاص حقوقهم من الأمراء على ما يقتضي الشرع الحنيف، وأصلحَ تقاسيم المياه بعدما كانت فاسدة، ونظَّف مجاريها،
_________
(١) "البداية والنهاية": ١٤/ ٢٥ - ٢٦.
(٢) "النجوم الزاهرة": ٨/ ٢٧٧، ٩/ ٣ وما بعدها، وكان قد ولي السلطنة للمرة الأولى سنة (٦٩٣ هـ) وهو صبي فخلع منها، ثم أعيد سنة (٦٩٨ هـ)، ثم عزل نفسه حتى عاد في المرة الثالثة.
(٣) "الوافي بالوفيات": ١٠/ ٤٢١.
1 / 11
ووضَّحَ طُرُقَها، وهدم الأملاك التي استجدَّها الناس، وضيَّقوا بها الشوارع والطرق المسلوكة، وأزال الفواحش والخمارات، وشدد العقوبة على السكير حتى القتل، فتعذَّر في أيامه وجود الخمر، واستجد ديوانًا للزكاة، وصرفها للفقراء والمساكين (١)، فأَمِنَ الناس، وعاشوا في غاية الرُّخص والصِّيانة (٢)، وعمت المَدَنية قرى دمشق، فَبُنِيَ فيها الحمامات والمساجد الجامعة والأسواق، وصار سكانُها كأهل الحاضرة (٣)، وقد حقَّقَتْ خُطَّة تنكز في إحياء الأوقاف عدالةً اجتماعية لم تشهدها دمشق من قبل ومن بعد، ويأخذنا العجب والدهشة والانبهار ونحن نقرأ مصارف الأوقاف وأنواعها، مما خطَّه ابنُ بطوطة في رحلته، وتتجلى بين السطور روعةُ المدنية التي كان يعيشها أسلافنا، فمن أوقاف للعاجزين عن الحج، إلى أوقاف لتجهيز البنات إلى أزواجهن، إلى فَكَاك الأسرى، وتعديل الطرق ورَصْفها. ومما يثير إعجابنا حقًّا وقف الأواني، وهو سموٌّ إلى الخير لم نر مثيلًا له عند الأمم الأخرى، وقد روى لنا ابن بطوطة حادثة تتعلَّق به، قال: "مررت يومًا ببعض أزقَّة دمشق، فرأيت مملوكًا صغيرًا قد سقطت من يده صَحْفَة من الفخار الصَّيني -وهم يسمونها الصحن- فتكسرت، واجتمع الناس عليه، فقال بعضهم: اجمع شققها، واحملها معك لصاحب أوقاف الأواني. فجَمَعَها، وذهب الرجل معه إليه، فأراه إياها، فدفع له ما اشترى به مثل ذلك الصحن، وهذا من أحسن الأعمال؛ فإن سيد الغلام لا بدَّ له أن يضربه على كسر الصحن أو ينهره، وهو أيضًا
_________
(١) انظر "السلوك" للمقريزي: ج ٢ / ق ٢/ ٥١٠ - ٥١١.
(٢) "البداية والنهاية": ١٤/ ١٨٧، و"الوافي بالوفيات": ١٠/ ٤٢٣.
(٣) "رحلة ابن بطوطة": ١/ ١١٧.
1 / 12
ينكسر قلبه ويتغير لأجل ذلك، فكان هذا الوقف جبرًا للقلوب، جزى الله خيرًا من تسامت هِمَّتُه في الخير إلى مثل هذا" (١).
في ظل هذا الأمن والرخاء قامت نهضة عُمْرانية رائعة، تنافس فيها أهل دمشق في عمارة المساجد والزوايا والمدارس والمشاهد (٢)، وعاش الناس في بُحْبُوحة، فكلُّ إنسان -حتى الغرباء- يتأتَّى له وَجْهٌ من المعاش (٣).
هذه الصُّورة المشرقة سرعان ما كَسَفَتْ، ولاحَتْ بوادر الانهيار، فقد قُتِلَ الأمير تنكز سنة (٧٤١ هـ) (٤)، ومات قاتلُهُ الملك النَّاصر بعده بأشهر (٥)، وانتشر مرض الطَّاعون في العالم القديم كلِّه، فراح يحصُدُ الآلاف، وعدم الخبز، وقلَّ القوت، وعَلَتْ وجوه الناس صفرةٌ ظاهرة (٦)، وبلغ عدد الموتى كل يوم في دمشق ألفين وأربع مئة (٧)، وغرقت البلاد في فوضى، فما يتولى سُلْطان حتى يقتل، ولا يتولَّى نائب حتى يعزل، فما بين سنة (٧٤١ هـ) وسنة (٧٨٤ هـ)، تولى السلطنة أثنا عشر سُلْطانًا، أغلبهم تتراوح أعمارهم بين السادسة والحادية عشرة، ثمانية منهم من أولاد الناصر، وأربعة من حَفَدَته، وتولى نيابة دمشق في الفترة نفسها أربعة وعشرون نائبًا بين تعيين وإعادة، ابتداءً من الطنبغا الناصري الذي تولاها
_________
(١) "رحلة ابن بطوطة": ١/ ١١٨.
(٢) المصدر السابق.
(٣) المصدر السابق.
(٤) "البداية والنهاية": ١٤/ ١٨٨.
(٥) "السلوك" للمقريزي: ج ٢ / ق ٢/ ٥٢٣.
(٦) "النجوم الزاهرة": ١٠/ ٢٠٣.
(٧) "رحلة ابن بطوطة": ٢/ ٧٤٩.
1 / 13
سنة (٧٤١ هـ)، بعد مقتل تنكز، وانتهاءً ببيدمر الذي دخلها للمرة السَّادسة سنة (٧٨٣ هـ).
ورغم تولي السلطنة سنة (٧٨٤ هـ) الملك الظاهر برقوق، وهو ممن أوتي حُنْكة ومِرَاسًا في الحكم، فقد ظل الاضطراب مستشريًا في جسم الدولة، حتى إن ثورة أطاحت به بعد سبع سنوات من توليه السلطنة، ولكنه سرعان ما عاد، واستطاع بحنكته أن يعيد إليها بعض الاستقرار.
وكانت وفاته سنة (٨٠١ هـ)، وتولي ابنه الناصر فرج وله من العمر عشر سنوات بدايةَ النهاية، إذ استفحل عبثُ المماليك واقتتالهم على السُّلْطة، حتى انتهى بهم الأمر إلى الانسحاب من أمام جيش تيمور، وهو يحاصر دمشق، لتقع تحت سيفه غنيمة سهلة، ويقع الشعب قتيلًا وأسيرًا بعد أن خُدِعَ أبشع خديعة، وحلَّ بدمشق من البلاء ما لا يوصف، وجرى على أهل دمشق من العذاب ما جَعَلَ المعاقَب يحسد رفيقه الذي هلك تحت العقوبة (١)، واستمر هذا البلاء والعذاب بأهل دمشق تسعة عشر يومًا (٢)، ثم طُرِحَتِ النار، فعمَّ الحريق جميع البلد، حتى صار لهيب النار يكاد يرتفع إلى السَّحاب، وعملت النار في البلد ثلاثة أيام بلياليها (٣)، وذهبت مساجدُ دمشق ودُورها وقياسرها وحماماتها، وصارت أطلالًا بالية ورسومًا خالية، ولم يبق بها دابَّة تدبُّ إلا أطفالٌ يتجاوز عددهم الآلاف فيهم من مات، وفيهم من سيموت من الجوع (٤)، وكان
_________
(١) "النجوم الزاهرة": ١٢/ ٢٤٤.
(٢) "النجوم الزاهرة": ١٢/ ٢٤٥.
(٣) المصدر السابق.
(٤) "النجوم الزاهرة": ١٢/ ٢٤٦.
1 / 14
أمرًا بلغ مبالغه في الشَّناعة والقبح على حدِّ تعبير ابن خلدون، شاهد هذه المأساة (١).
بهذه الصُّورة القاتمة يختتم قَرْن، ويبدأ قرن، وتتباين صورتا دمشق بين أوَّل القرن وآخره، في أوله خرجت منتصرة على جيوش التتار في شقحب سنة (٧٠٢ هـ)، وفي آخره (٨٠٣ هـ)، سقطت منهزمة، مخذولة، مدمَّرة.
٢ - الصَّالحية
كانت الصالحية يوم انتقل إليها المقادسة سنة (٥٥٥ هـ) جبلًا أجردَ، في ناحيته الغربية يقوم دير أبي العَبَّاس الكهفي، وبجانبه دار فيها اربعة من العلماء الزُّهاد، وفي ناحيته الشرقية دير رهبان مهجور، سكنه أولاد معبد بن مستفاد، وما بين الناحيتين عُزْلة موحشة، وصمت رهيب، ومقابر ..
وكان أول نزول المقادسة -بعد هجرتهم من جَمَّاعيل قريتهم في نابلس- في مسجد أبي صالح بالباب الشَّرْقي، وذلك سنة (٥٥١ هـ)، وقد أنزلهم به بنو الحنبلي؛ وهم القيِّمون على وَقْفه وإمامته، ونُمِيَ خبرهم إلى السُّلْطان نور الدين بن زنكي، فكتب لهم كتابًا بتسليم الوقف والمسجد إليهم، ولكن أحمد بن محمد بن قدامة وهو العالِمُ الخطيب، ما كان ليرضى أن يتخلَّص من ظُلْم الصليبيين ليقع في ظلم أشد، فقال: "أنا هاجرت حتى أنافس الناس على دنياهم؟ ! ما بقيت أريد أسكن ها هنا" (٢).
_________
(١) "التعريف بابن خلدون": ٣٧٤.
(٢) القلائد الجوهرية": ١/ ٣٧.
1 / 15
فاختار راضيًا أن يسكن في بقعةٍ مهجورةٍ، على أن يكون سببًا في إيذاء مسلم.
بهذه الرُّوح الإِسلامية عمرت الصالحية، ونزعت الأشواك من أرضها، وقلع قصبها، وكان أول ما بني بيت أحمد بن محمد بن قدامة، وبيت ابنه أبي عمر، ثم بني بعد ذلك بيت ابنه الموفق (١).
وبات السكان الجدد يحرُسُون بيوتهم ليلًا، خوفًا من اللصوص، وخوفًا من أهل وادي التيم الذين يأخذون الناس ويبيعونهم في بلاد الفرنج .. وخوفًا من الذئاب والسباع (٢).
ثم بنى الشيح أبو عمر مدرسته المعروفة "بالعمرية"، وكان موضعها آنذاك مقصبة .. وكان ثَمَّ ضفادع تنق ولا تسكت (٣). بنيت المدرسة لَبِنَة لبنة، وكانت همة أبي عمر وعزيمته لا تفتر؛ فبنى مع المدرسة مصنعَ ماءٍ جعله تحتها (٤).
وتوفي الشيح أحمد سنة (٥٥٨ هـ)، أي بعد هجرته بسبع سنوات، وله سبع وستون سنة (٥)، وقد خلَّف عِدَّة أولاد أشهرهم أبو عمر محمد، وعبد الله الموفق.
والذي يقرأ سيرة أبي عمر يأخذه العجب بهذه الشخصية الفذَّة التي تحلت بأخلاق الإِسلام، علمًا وورعًا وحِلْمًا وشجاعة وزُهْدًا، وتفانيًا
_________
(١) "القلائد الجوهرية": ١/ ٣٨.
(٢) "القلائد الجوهرية": ١/ ٣٩.
(٣) "القلائد الجوهرية": ١/ ١٦٩.
(٤) المصدر السابق.
(٥) انظر "العبر": ٤/ ١٦٤، و"القلائد الجوهرية": ١/ ١٦٦.
1 / 16
في خدمة المسلمين ورعاية لمصالحهم، وبُعْدًا عن التزلف لأصحاب السلطة، كان يحضر الغزوات مع صلاح الدين (١)، ويجمع الشّيح من الجبل، ويحمله إلى بيوت الأرامل واليتامى، ويحمل إليهم في الليل الدراهم والدقيق ولا يعرفونه، ومتى أتاه شيء من الدنيا آثر به أقاربه وغيرهم، وتصدَّق بثيابه، وربما خرج الشتاء وعلى جسده جُبَّة بغير ثوب، ويبقى مدة طويلة بغير سراويل، وعِمَامته قطعة من بطانة، فإن احتاج أحد إلى خِرْقة، أو مات صغير يحتاج إلى كفن قَطَعَ له منها قطعة. وكان ينام على الحصير، ويأكل خبز الشعير، وثوبه خام إلى أنصاف ساقيه، وما نَهَرَ أحدًا، ولا أوجع قلب أحد، وكان يقول: أنا زاهد، ولكن في الحرام (٢). ومن ثَمَّ قال أبو شامة: بهم سُمِّيت الصالحيةُ لصلاحهم (٣)، ولكن أبا عمر كان يوري ذلك عنهم، ويقول: إنما هي نسبة إلى مسجد أبي صالح لأنَّا نزلنا فيه أولًا، لا أنَّا من الصالحين (٤).
وتوفي أبو عمر سنة (٦٠٧ هـ) عن ثمانين سنة، لم يخلِّف دينارًا ولا درهمًا ولا قليلًا ولا كثيرًا (٥)، وبارك الله في نسله، فأغلب المقادسة من حفدة أحمد هم من ذريَّتِهِ.
لقد غدت هذه البقعة العزلاء بعد أقل من قرن مدينةً فيها الأسواق العامة، والمساجد، والمكتبات. ورغم أنها تعرضت لمحنة سنة (٦٩٩ هـ) على يد قازان سلطان التتار من قَتْلٍ وأسر ونهبٍ للكتب (٦)، إلا أنها
_________
(١) "ذيل الروضتين": ٧١.
(٢) المصدر السابق.
(٣) "القلائد الجوهرية": ١/ ٢٦.
(٤) المصدر السابق.
(٥) "ذيل الروضتين": ٧٤.
(٦) "البداية والنهاية": ١٤/ ٨.
1 / 17
سرعان ما استعادت عافيتها، حتى إن ابن بطوطة قال عنها حين زارها سنة (٧٢٦ هـ): "وهي مدينة عظيمة، لها سوق لا نظير لحسنه، وفيها مسجد وجامع ومارَسْتان، وبها مدرسة تُعرف بمدرسة أبي عمر (١)، موقوفة على من أراد أن يتعلَّم القرآن الكريم من الشيوخ والكهول، وتجري لهم ولمن يعلمهم كفايتهم من المآكل والملابس" (٢).
وقد بدأ اتصال الصالحية بدمشق في النصف الأول من القرن الرابع عشر الهجري حتى غدت الآن حيًّا كبيرًا من أحيائها (٣).
٣ - أسرتُهُ
هو محمد بن أحمد بن عبد الهادي بن عبد الحميد بن عبد الهادي بن يوسف بن محمد بن قُدامة.
لم يهاجر جدُّه يوسف مع أخيه أحمدَ يوم هاجر إلى دمشق، بل إن ابنيه: عبد الملك وعبد الهادي ظلا يترددان بين جَمَّاعيل والصَّالحية سنين طويلة (٤)، حتى عزم عبد الهادي أمره أخيرًا، وقَدِمَ دمشق مهاجرًا مع ابنيه محمد (٥) وعبد الحميد (٦) نحو سنة (٥٨٢ هـ)، أي بعد هجرة عَمِّه أحمد
_________
(١) في الأصل: ابن عمر، وهو وهم لم يشر المحقق إليه.
(٢) انظر "رحلة ابن بطوطة": ١/ ١١٤ - ١١٥.
(٣) "دمشق في مطلع القرن العشرين": ٢٠ - ٢١.
(٤) "القلائد الجوهرية": ١/ ٣٣.
(٥) قدم دمشق شابًّا، ولم يستوطنها، كان يؤم بقرية الساوية من جبل نابلس. وقتل ثمة بيد التتار سنة (٦٥٨ هـ). انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": ٢٣/ ٣٤٢ - ٣٤٣.
(٦) قدم دمشق صبيًّا، وكان قد ولد بجماعيل حوالي سنة (٥٧٣ هـ). انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء": ٢٣/ ٣٣٩ - ٣٤٠.
1 / 18
بنحو ثلاثين سنة، وقبل فتح صلاح الدين بيت المقدس بسنة واحدة.
وقد أصبح عبد الحميد -فيما بعد- من كبار علماء عَصْره، وتخرَّج به كثير من المحدِّثين، ممن صار بعضهم شيخًا لحفيده محمد، وقد افتتح مكتبًا في القصَّاعين (١) للتعليم، وتوفي سنة (٦٥٨ هـ) مخلِّفًا ثلاثة أولاد هم: أحمد ومحمد وعبد الهادي.
أما أحمد فقد كان من أعيان المُسْنِدين في زمانه، وقُصد بالزِّيارة، وتوفي سنة (٧٠٠ هـ)، وله ثمان وثمانون سنة (٢).
وأما عبد الهادي، فهو الجدُّ الأدْنى للمؤلِّف (٣)، توفي شابًّا سنة (٦٨٢ هـ) (٤) عن بضع وثلاثين سنة، مخلفًا ولدين: محمدًا (٥)، وأحمد.
وأحمد هو والد المؤلِّف، وكان زاهدًا مقرئًا مسندًا، سمع منه ابن رافع والحسيني (٦)، وابن رجب (٧)، توفي سنة (٧٥٢ هـ)، وله إحدى وثمانون سنة، أي بعد وفاة ابنه محمد (المؤلف) بثماني سنين، وقد
_________
(١) حارة في دمشق تقع الآن بين باب الجابية وسوق الصوف.
(٢) "القلائد الجوهرية": ٢/ ٣٠٣.
(٣) وهو أول من ولد في الصالحية من أسرة المؤلف.
(٤) انظر ص ١٧٥٣ من الجزء الرابع في هذا الكتاب.
(٥) كان محتسب الصالحية في زمانه، وقد خلف ابنتين محدثتين: فاطمة وعائشة؛ وهي زوج محمد المؤلف. انظر "الضوء اللامع": ١٢/ ٨١، ١٠٣.
(٦) "الدرر الكامنة": ١/ ٢٠٨.
(٧) "ذيل طبقات الحنابلة": ٢/ ٤٣٩.
1 / 20
خلف من الأولاد: عبد الرحمن (١)، وأبا بكر (٢)، وإبراهيم (٣)، وحسنًا (٤)، وتوفي عبد الرحمن سنة (٧٨٩ هـ) وأبو بكر سنة (٧٩٩ هـ) وهو ممن أجاز لابن حجر، وإبراهيم سنة (٨٠٠ هـ)، سمع منه ابن حجر أيضًا (٥).
_________
(١) "الدرر الكامنة": ٢/ ٤٣٠.
(٢) "الدرر الكامنة": ١/ ٤٦٨.
(٣) "الدرر الكامنة": ١/ ١١.
(٤) هو الجد الأعلى ليوسف بن حسن بن أحمد، المعروف بابن المبرد، شيخ ابن طولون، وصاحب المصنفات الغزيرة، ولد سنة (٨٤٠ هـ)، وتوفي سنة (٩٠٩ هـ)، وإليه تنصرف أذهان كثير من الناس حين يطلق اسم ابن عبد الهادي، ولقد رأيت غير واحد يخلط بينه وبين مؤلف كتابنا، وبينهما أكثر من قرن ونصف! .. انظر "الكواكب السائرة": ١/ ٣١٦.
(٥) أسرة آل قدامة بفرعيها: فرع أحمد بن محمد بن قدامة، وفرع يوسف بن محمد بن قدامة من أكبر الأسر العلمية في دمشق، حملت أمانة العلم أكثر من ثمانية قرون، وقد اقتصرت في هذه المقدمة على أجداد المؤلف وإخوته طلبًا للإِيجاز.
ولحسين بن عبد اللطيف العمري من آل عبد الهادي، وهو مؤرخ، دمشقي، مولود سنة (١١٦٢ هـ)، ومتوفى سنة (١٢١٦ هـ) تأليف في تراجم أسلافه سماه "المواهب الإحسانية في ترجمة الفاروق وذريته بني عبد الهادي وأصولهم العربية"، وهو ما زال مخطوطًا في دار الكتب المصرية، رقمه ١١٣ / م.
انظر "الأعلام" للزركلي: ٢/ ٢٤١، و"حلية البشر": ١/ ٥٥٦، و"فهرس الكتب العربية بدار الكتب المصرية" فهرس التاريخ: ٥/ ٣٧٤.
وللدكتور شاكر مصطفى دراسة قيمة عن "آل قدامة والصالحية" نشرها في حوليات كلية الآداب، جامعة الكويت الحولية الثالثة، الرسالة الرابعة عشرة سنة ١٩٨٢ - ١٤٠٢.
1 / 21
٤ - سِيرَةُ حَيَاتِهِ
في هذه الأسرة العريقة عِلْمًا وفَضْلًا وصلاحًا ورواية ولد محمد بن أحمد بن عبد الهادي سنة (٧٠٥ هـ) على أرجح الأقوال (١)، في الصَّالحية (٢)، لأبٍ من العلماء المسندين المقرئين، وكشأن كلِّ أبٍ عالم يطمح في أن يكون ابنه محدِّثًا ذا إسناد عالٍ، سعى به إلى كبار مسندي عصره، فسمع من زينب ابنة الشيخ كمال الدين الصالحية، وكانت قد تفرَّدت بغالب إجازاتها، وهي آخر من روى في الدنيا عن سِبْط السِّلَفي،
وحين توفيت نزل الناس بموتها درجة (٣). وسمع من عيسى المطعم المتوفى سنة (٧١٧ هـ)، وله إحدى وتسعون سنة (٤)، ومن أبي بكر أحمد بن عبد الدائم الصالحي، وهو شيخ لابن تيمية أيضًا، المتوفى سنة (٧١٨ هـ)، وله ثلاث وتسعون سنة (٥)، ومن سعد الدين يحيى بن
_________
(١) هذا قول لدات ابن عبد الهادي من معاصريه كابن كثير، والصفدي والحسيني، أما الإمام الذهبي فقال في "تذكرة الحفاظ": ٤/ ١٥٠٨ "ولد سنة خمس أو ست وسبع مئة"، وانفرد ابن رجب في تحديد سنة (٧٠٤ هـ)، ونَصَّ أنه بلغ الأربعين، وتابعه ابن العماد في شذرات الذهب: ٦/ ١٤١، وقد أجمع أغلب معاصريه على أنه لم يبلغ الأربعين.
(٢) قال محقق المحرر في الحديث: ١/ ٣٦ "ولد بقرية جماعيل"، وهو وهم، إذ ليس لدينا نص يؤيد ذلك، أما كونه جماعيلي الأصل، فهذا لا يعني أنه ولد بها، وقد بينت عندما تحدثت عن أسرته أن جده عبد الهادي هو أول من ولد في الصالحية.
(٣) "الدرر الكامنة": ٢/ ٢٠٩ - ٢١٠، وفي "أعلام النساء": ٢/ ٤٧ - ٥٠ سرد للكتب التي أسمعتها بالإجازة.
(٤) "الدرر الكامنة": ٣/ ٢٨٢.
(٥) "الدرر الكامنة": ١/ ٤٦٨.
1 / 22
محمد بن سعد، المتوفَّى سنة (٧٢١ هـ)، وقد جاوز التسعين (١)، وكلهم ممن تفرد بأجزاء من العوالي.
وسمع أيضًا من أحمد بن أبي طالب الصالحي الحَجَّار، وهو من المعمَّرين رحل الناس إليه سنة (٧١٧ هـ)، ولما توفي سنة (٧٣٠ هـ) نزل الناس بموته درجة (٢)، وأكثر عن محمد بن أحمد بن أبي الهيجاء، ابن الزرَّاد، وهو ممن تفرد، مات سنة (٧٢٦ هـ) (٣)، وقرأ بنفسه "صحيح مسلم" (٤) على القاضي شرف الدين عبد الله بن الحسن، وهو من حفدة المحدث عبد الغني المقدسي، وممن تفرد وعمر، توفي سنة (٧٣٢ هـ) (٥).
أما في الفِقْه، فإنه حفظ "المقنع" (٦) -وهو دون العاشرة- على القاضي سليمان بن حمزة، المتوفى سنة (٧١٥ هـ) (٧)، ثم أتمَّ دراسته على إمامين كبيرين برعا في المذهب الحنبلي، هما: القاضي محمد بن مسلم بن مالك المتوفى سنة (٧٢٦ هـ) (٨)، وإسماعيل بن محمد الحَرَّاني المتوفى سنة (٧٢٩ هـ) (٩).
_________
(١) "الدرر الكامنة": ٥/ ٢٠١ - ٢٠٢.
(٢) "الدرر الكامنة": ١/ ١٥٢ - ١٥٣.
(٣) "الدرر الكامنة": ٣/ ٤٦٦.
(٤) "وفيات ابن رافع": ١/ ٤٥٨.
(٥) "ذيل طبقات الحنابلة": ٢/ ٣٨٠ - ٣٨١.
(٦) "الوافي بالوفيات": ٢/ ١٦١.
(٧) "ذيل طبقات الحنابلة": ٢/ ٣٦٤ - ٣٦٦.
(٨) "ذيل طبقات الحنابلة": ٢/ ٣٨٠ - ٣٨١.
(٩) "الدرر الكامنة": ١/ ٤٠٣ - ٤٠٤.
1 / 23