Taammulat
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Noocyada
عجزت السياسة والمفاوضات السياسية والوساطات الملوكية والإمبراطورية عن تأييد السلم وحقن الدماء وحماية مصالح الناس، وانفرد الشر بالحكم في أوروبا إذ نفخ في صوره ففزعت لدعوته الملايين من الناس انقلبوا عن صورهم المدنية، فأصموا آذانهم عن دعوة الإخاء الإنساني، واستدبروا نهائيا مبادئ المحبة والغفران والسلام، وغشي الغضب أبصارهم ، فلم يعودوا يفكرون في الخسارة العظمى التي يجنيها المحاربون من وراء الحرب، يكتسبونها جميعا سواء فيهم الغالب والمغلوب، واستهانوا بالأضرار التي تلحق العالم بأسره من وراء هذه الحركة التي فيها ليس من البركة شيء.
تلك حرب ولا كالحروب يجب أن يشفق كل من في العالم من جرائها على المحاربين وغير المحاربين والمضطلعين بأسبابها ونتائجها والغافلين فإن حروب هذا القرن ليست كحروب القرون الأولى.
فإن المدنية الحاضرة قد جعلت الكرة الأرضية أشبه بالوطن الواحد في المنافع الاقتصادية التي هي أساس العمران بل علة الحياة، أجزاؤه متضامنة في الخير والشر، أقفلت أسواق أوروبا وميزان الحركة الاقتصادية العامة معلق بين أصابعها فأخلت بالموازنة في كل شيء حتى في أسعار الأقوات في كل البلاد، وأصبحنا في مصر ونحن بمركزنا الاستثنائي بعداء عن هذه الحركة الحربية، أصبحنا في أول يوم من إعلان ألمانيا الحرب نشعر تماما بالرجات الشديدة التي حصلت في سوقنا المالية بل في أبعد الأسواق علما بأن في أوروبا حربا، وعلى هذا القياس كل أنحاء الكرة الأرضية، أفلا يعلم الذين تعلن الحرب بكلمة من أفواههم مقدار المسئولية التي يحملونها بهذه الكلمة الكبرى التي تسفك الملايين من دماء الأبرياء، الأبرياء بالمعنى الصحيح الذين يتمثلون بقول القائل:
لم أكن من جناتها علم الل
ه وإني لحرها اليوم صالي
يقاد أحدهم من الدار إلى النار لا دفاعا عن وطن مهدد ولكن إرضاء لشهوات العظماء ، إرضاء لرؤساء الأحزاب، إرضاء لكلمات ضخمة مجوفة برن رنين (آمون) وليس في بطنها من الحقيقة شيء كبير ولا صغير، رحم الله جوريس أول قتيل لهذه الحرب وأول ضحية من الضحايا الذاهبة اليوم وغدا في سبيل الحق والسلام.
يا لله من مسئولية هذه الحرب عديمة المثال! كيف يستطيع رجل أو جماعة احتمالها؟ لا أحد؛ لأنها إذا أمكن تبريرها كيف يمكن تبرير جرائرها وجرائها، علم ذلك إمبراطور ألمانيا فأخذ يتنصل من مسئوليتها ويلقيها على عاتق روسيا، وأخذت المصادر الألمانية تعلن للعالم أن روسيا هي التي يجب أن تحتمل مسئولية توسيع ميدان النار عن النطاق الذي كانت محدودة به، ولن نعدم غدا إعلانا من روسيا يلقي التبعة على ألمانيا، وربما قامت الحرب وخربت ما قدرت على تخريبه من العالم ووضعت أوزارها ولا تجد في الممالك من تعترف بأنها الذي أذكت نارها واحتملت مسئولية نتائجها، ومهما كانت المسئولية فوق كل طوق، ومهما كانت النتيجة على كل حال أسوأ ما يكون، فمن الأسف أن كل ما كان، منطبقا على طبائع الإنسان، وما كان للإنسان أن يخرج عن طباعه العامة، وكما أن أوروبا تقلبت في نعمة العز والسلام، كذلك من الطبيعي أن تتمرغ في جحيم الأرزاء والأكدار، وكلا الحالين من صنعة يديها: جنتها ونارها، سلامها وحربها، إذ إن الإنسان لا يصبر على حال واحدة، قتل الإنسان ما أكفره!
هذا، وإن لنا في مصرنا مصالح تجب علينا رعايتها في هذه الظروف الصعبة، نحن على الحياد بالضرورة وسنظل كذلك مهما اتسعت دائرة الحرب عما هي عليه الآن، ولكن الحيطة في خفارة الثغور والحدود على قدر الحياد ضرورية جدا، فإن التجارب دلت على أن استبعاد وقوع السوء غير مبعد له بالفعل، ولا هو يعتبر وقاية منه، فلا نحن ولا غيرنا يستطيع أن يعلم الآن بالضبط عند أي الحدود يقف هذا الحريق الأرضي العام.
أما من الجهة السياسية فإن مركز مصر الاستثنائي يحتم على ولاة الأمور فيها اتباع تقاليدنا في الحياد التام مهما كانت الظروف، وقد جربنا الثمرات الطيبة التي جنتها مصر من حيادها.
وأما الجهة الاقتصادية فقد علمنا أن الوزارة تشتغل بالوسائل اللازمة لوقايتها، والواجب هو العمل لمنع تصدير الذهب ومنع تصدير مواد القوت منعا نهائيا.
Bog aan la aqoon