Taammulat
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Noocyada
كان فتحي باشا كما سمعتم اليوم وقبل اليوم وكما قرأتم في التقارير الرسمية مثال الموظف الفاني في الاشتغال بأداء واجباته القائم بعمله وعمل غيره أحيانا ولم يمنعه ذلك من أن يكون مترجما ممتعا أمينا ومؤلفا كبيرا، عن هذا الوصف ومن هذه الجهة وقفت أمامكم أؤبن فقيد العلم والعلماء.
أيها السادة:
إن شدة الذكاء، وقوة النفس، وحسن الإخلاص، تلك الصفات التي ظهرت آثارها على فتحي باشا منذ شبابه الغض راجعا معظمها إلى التأثير الوراثي من أبويه وعلى الأخص والدته التي أفاضت عليه من صفاتها بما يفيض الأصل، وما غرست من المبادئ الصالحة مما جعل لفتحي شخصية ممتازة منذ صباه.
لا يأخذكم العجب من قولي؛ فإن من أمهاتنا نحن القرويين، منهن مع بساطة في المدارك العقلية وبعد عن العلوم والمعارف، على جانب عظيم من الذكاء الفطري ورفعة الأخلاق وعزة النفس وذوق سليم في الحكم وطيبة وتقوى في المعاملات، ينقلن هذه الصفات لأبنائهن بحكم قانون الانتقال الوراثي، فتكون لهم رأس مال في الحياة العملية، ولولا هذه الصفات لهلك القرويون غير المتعلمين بما هم فيه من جهل عميق وما عانوا من استبداد طويل، ولكن هذه الصفات الأولية قد قامت في نجاحهم مقام المعارف زمنا طويلا ولا يزال الاتكال عليها وحدها يؤدي إلى الآن نتائجه المتواضعة في بلادنا، فإذا جاءت العلوم والمعارف على هذه الصفات الأولية، ظهر النبوغ قلة وكثرة تبعا لقوة الاستعداد أي لقوة تلك الصفات الوراثية.
فللأمهات القرويات أن يقبلن أيضا شكر الجيل الحاضر، وعلينا أن نعترف علنا ومن غير تردد بما للأمهات من الأهمية العظمى من حيث توريث البنين والقيام على تربيتهم الأولى، وأمامنا المثل الحسي أن والدة فتحي باشا ينسب إليها الفضل الأكبر في أن أخرجت لمصرنا نابغتين: نابغة نرجو له العمر الطويل، ونابغة فقدناه آسفين، فقدناه ونقدم اليوم للتاريخ منه صورة هي أقوم صور نوابغنا حجة لحسن الاستعداد وعلو الكفاءة العلمية والعملية جميعا.
إن الصفات الأولية لفتحي من شدة الذكاء وقوة النفس وحدة المشاعر هن أساس نبوغه، كان يحمل نفسا على قوتها الهائلة، رقيقة المشاعر قلقة لا تستقر أو تبلغ من خدمة العلم مناها، هيهات أن تبقى طويلا أمثال هذه النفس في البيئات التي لا تلائم بقاءها ونجاحها، وهيهات أن تبلغ منى، كلما تقدمت اتسع أمامها أفق الأغراض وكلما انقضى سبب جاءها سبب جديد.
تعلم فتحي فصادفت القواعد العلمية من عقله مقاما رحبا وقرت فيه أصولها، ووجدت منه نفسا طلعة قوية في مركزها ميالة للانتشار في مظاهرها الخارجية يناديها صوتها الخفي: أن وف حق العلم، وآت زكاة النبوغ.
فأقدم منذ حداثة سنه على نشر العلم إجابة لداعي الضمير، أقدم على هذا المركب الخشن وكان الواجب عليه أن يقدم لأنه استكمل عدة الإقدام: ذكاء مضيء وعقل عاصم وعلم هاد ولسان عضب ذلق غواص على موضع الحجة، وقلم سيال، ومركز نبيل! كيف لا يكون مقداما من جمع بين كل هذه الأسباب؟
لا أكاد أبرئ فتحي من الوقوع في حيرة اختيار الطريقة التي يجب عليه اتباعها لخدمة العلم في مصر: التأليف أو الترجمة وأيهما أنفع، وإذا كانت الترجمة، فعلى أي نوع يقع الاختيار؟ حيرة لا بد منها لشاب خارج من المدرسة تتضرم بين ضلوعه نار الشوق إلى مجد الوطن العلمي، خلو من التجارب لا يملك إلا كفاءته العلمية.
نظر فتحي نظرة صادقة إلى حال الأمة المصرية وحكومتها فرأى أننا أحوج ما نكون إلى معرفة المثل الأعلى الذي نبغي الوصول إليه من نظاماتنا السياسية والاجتماعية، حتى تتحد أطماعنا الوطنية على طريقة عامة واضحة.
Bog aan la aqoon