Taammulat
تأملات: في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع
Noocyada
إن الخداع درع خلقة تكاد لا تستر الخادع إلا ما دام الناس عميا، فإن أبصروا لا يلبث ستر الخداع أن يتمزق إربا ويتلاشى هباء عن الكذب عريان خجلا لا يستطيع بعدها أن يكون مطرحا للثقة ولا محلا للمعاملات.
كأني بالخداع لا يركب نفسا إلا نزلت عن شخصيتها، وضلت في تقدير ماهية المنفعة الشخصية، وجبنت عن احتمال المسئولية عن أعمالها، فضعفت أن تبرز في ميدان المعاملة الإنسانية إلا مقنعة بالزور مشتملة بثوب كثوب الثعبان من النفاق، فلولا رحمة من الله وعقل هاد إلى الصواب وتسامح من طيبات النفوس لهلك المخادع لساعته ضعفا عن الحياة وأسفا على ما فرط في حق نفسه وفي حق الصراحة الإنسانية.
الصراحة ضمير حي وعزة تحمي من المداجاة وشجاعة تكفي لاحتمال مسئولية ما ينكره الناس على الرجل الصريح.
ذكرت جريدة الأهرام أحد نوابنا فقالت: (... حلو الدفاع عذب العبارة شديد العارضة إلا أن له ضميرا حيا لا يخالفه ...) ذلك هو المثل الصريح للرجل الصريح.
كثرة الصرحاء في الأمة أمارة على عزتها، فمتى تكثر فينا صورة الرجل الصريح؟
زهر الربيع1
ليس كل الحياة شقاء للسعي إلى مال ينفق أو يدخر وإلى مباراة في رفعة المناصب، بل الحياة أيضا استمتاع بجمال الطبيعة، فكرة خفيفة الوزن تافهة القيمة عند أهل الوقار، أولئك الذين يرون ركض الدابة ينافي الوقار، ولعب الكرة يذهب بالوقار، ومعظم أسباب التربية البدنية لا يتفق على ما يجب للرجال من إطراق طويل وسكون عميق وجمود على المأثور عن السلف الصالح القريب، كأن الأمة يجب أن تكون كلها من أهل الرياضة والكشف، يضحون قوة البدن لصفاء الروح حتى تنزع بجهتها القدسية عن هذا العالم السفلي إلى الملكوت الأعلى، ولو أنهم أرادونا على احتباس النفس عن لهو الدنيا ولعبها إلى العمل للآخرة ونعيمها، لكان فيما يهدون إليه من التقليد مغنم.
ولكن الحال قد تبدلت إلى صرف النظر عن جمال الطبيعة ونعيم الحياة الإنسانية إلى أخس أطراف هذه الحياة: الحرص على الخدمة في الحكومة ، والحرص على فقد الحرية في كل شيء حتى في اللذات البريئة، حتى في الاشتغال بتربية ملكة الجمال، حتى في العناية بغرس الأشجار وتوليد الأزهار، الحرص على فقد الصراحة في كل شيء حتى في الأعمال الشخصية، تقف عن الظهور بتعرف الجمال حيث كان، وعن إعلان حب الجمال، وعن الظهور بحب الأزهار واستقبال الربيع بالتحية والارتياح، بديل ذلك استغراق في اللذات المخجلة بشرط أن تكون خفية حتى لا تجرح قدسية الوقار.
رب! كل ما خلقت تابع لقانون التطور حتى المعاني والأفكار، فالذين تجردوا من مزايا السلف الصالح في علم يفيد وجد ممتع وسيرة طابت ظواهرها وبواطنها قد اكتفوا من أسلافهم بتقليد شيء واحد لم يقدروا إلا عليه وهو صورة ظاهرة من الإطراق لا في التفكير والسكون، بل هو مظهر يقتضيه الوقار؟ فإذا تحركت النفس الإنسانية في هذا الجسم الوقور فإنما حركتها إلى الشهوات السافلة المنحطة دون الشهوات العالية من اغتباط حقيقي بجمال الطبيعة، وتقدير صحيح لما أودع في الفنون من كنوز الجمال، ذلك جيل ذهب بأهله، ولنا جيل ناهض يجب أن يؤلف بين علمه وبين نزعات نفسه، ويضيف إلى تثقيف عقله تهذيب مشاعره، ويطرح جانبا كثيرا مما ورثناه من ماضينا القريب، فيعمل للمزاحمة العالمية ليكسب قسطه تحت السماء من مال يسد الحاجة وقوة تحمي الوطن ولذة بجمال الطبيعة تعين على فهم الحياة، فيعنى بمظاهر الجمال كما يعنى بزراعة القطن؛ لأن الحياة ليست شقاء خالصا بل هي يومان: يوم للشقاء ويوم للنعيم، ويأخذ بنصيب من الالتفات للظواهر الطبيعية كما يحرص على الاستفادة من الظواهر الاجتماعية والحوادث الاقتصادية.
ها نحن أولاء أمام الربيع، أزهاره تنسم أنفاسها، وتأخذ بأبصارنا ألوانها، وتحرك جدتها عواطف الحنان في قلوبنا كأنها بعض أبنائنا إن مرآها ورياها ينقلان نفوسنا من عالم الشقاء إلى عالم النعيم، ومن أرض الحقيقة الواقعة إلى سماء الخيال الجميل، لا أظن هذا الانتقال وهميا لا وجود له، كلا إنه صحيح واقع فإننا نشعر بوجوده في قلوبنا ونرى آثاره على وجوهنا، إن خيال اللذة البريئة موجود وأثره سعد، ولعله هو نعيم الحياة، فأهلا ومرحبا بأزهار الربيع.
Bog aan la aqoon