ص _177 قال المشركون من الخزرج: لا، وصمت المؤمنون! وقال التاريخ بلسان حاله الساخر: سوف تعلمون. * * * * وفاء.. هذه بيعة أوحي بعقدها الإيمان الحى، وظلت- من بعد- تجرى على منطقه الصادق أعوإما طوالا، بل ظلت توجه حياة أصحابها وتؤثر فى مسلكهم حتى غادروا الحياة جميعا ما بين مجاهد متعب ومجاهد شهيد!! عاهد الأنصار على حماية الدعوة وصاحبها، فهل غيرت السنون وأحداثها فتيلا من ذلك العهد الذى قطعوه على أنفسهم بجوار مكة؟، وهى يومئذ موطن ألد عداة الإسلام...؟! كلا.. لقد بذلوا دماءهم قطرة قطرة، وبذلوا أموالهم درهما درهما، وفتحوا دورهم للنبى عليه الصلاة والسلام وصحبه المهاجرين معه، وغبرت أقدامهم رمال الصحراء وهم ينافحون لحماية الدين الذى آمنو به، واستماتوا فى إعلاء كلمته، حتى أن المسلمين لما هزموا أول الأمر فى موقعة حنين، وشعر الرسول صلى الله عليه وسلم بالخطر، أمر العباس- وكان قد أسلم- فنادى: يا معشر الأنصار.. يا أصحاب العقبة! لقد كانت هذه البيعة بعد عشرة أعوام كهف الإسلام، وموئله الذى يفزع إليه عند الشدائد، ولقد أغنوا فى هذه الموقعة ما لم تغن جماهير الأعراب المؤلفة قلوبهم، فلما وزعت الغنائم، وقسمت أعراض الدنيا، نال أبناء الدنيا الكثير، وحرم الأنصار ما أفيض على غيرهم إفاضة، ثم طيب خاطرهم من ذلك كله قول الرسول عليه الصلاة والسلام لهم: "أفلا ترضون أن يذهب الناس بالشاء والبعير، وترجعوا برسول الله إلى رحالكم، والذى نفسى بيده لولا الهجرة لكنت امرءا من الأنصار، ولو سلك الناس شعبا وسلك الأنصار شعبا لسلكت شعب الأنصار، اللهم ارحم الأنصار، وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار". ص _178 ضمانة النصرفى هذا الإيمان اكتنفت الأحزاب آطام "يثرب " ولمعت عيون الكافرين الوافدين من كل فج ببريق الإصرار على أن يستردوا من المسلمين ثأرهم، وعلى أن يضربوا محمدا عليه الصلاة والسلام وأنصاره ضربة تطوى أعلام هذا الدين الناهض، وانطلقت الخيل تهمهم حول حوافى الخندق المحفور فلا يردها إلا الموت الجاثم فى قراره السحيق وامتدت الخيام حول لابتى المدينة تضرب حصارها الخانق، وفى صدور أصحابها غل مكظوم، يود لو تنطبق هذه الجبال الشامخة حول مهجر المسلمين المجاهدين فتسلبهم الروح المنطوية على الحياة والجهاد معا! وفى داخل المدينة حال غريبة النقائض، فالإيمان المذخور فى هذه القلوب الكريمة كان من شأنه أن يشيع الثقة فى جوانب النفس. وينتظر من خلال الغيب بشائر النجاة المرجوة فى جوار الله، ولكن أنى هذا والواقع المفزع يتربص بهم على مدى سهم، وجهاد الأعوام الطوال يوشك أن يأتى عليه هذا الحصاد الشيطانى من مناجل قريش وحلفائها: (إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا * هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالا شديدا). وفى هذه الساعة الحرجة، وجد الضعفاء من مرضى القلوب جوا يتنفس فيه نفاقهم، ويتحرك فيه لؤمهم، وماذا عليهم إذا استغلوا هذه المفارقة التى يعانى المسلمون شدتها ليضحكوا ملء أفواههم، وليرسلوا النكات الساخرة من قوم كانوا إلى أمد قريب يتحدثون عن مبادئهم التى ستسود الدنيا، وهم اليوم لا يأمن أحدهم أن يخرج من داره، بل هم- كما يرجف المنافقون- سيكونون بعد أيام ما بين قتيل وأسير. واليهود؟ لقد نقضوا معاهدة الصداقة فى هذه الفترة العصيبة، وسعى رسلهم إلى قريش يفاوضونهم فى تدبير هجوم مشترك على أصدقاء الأمس.. وهكذا أحكم أعداء الله مؤامراتهم وبيتوا وقيعتهم: ص _179
(ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين).
* * *
Bogga 180