ص _147 وعظ فى الهواء .. وقرآن للبيع اشتركت وزارة الشئون الاجتماعية، ووزارة الصحة، ووزارة الأوقاف، وإدارة الأزهر، وعدة هيئات شعبية فى الاحتفال بذكرى الحسين.. وقلت لنفسى: أذهب إلى الساحة المائجة لأسمع وأرى.. فلما ذهبت لم أدر أأتهم نفسى أم أتهم الناس، كانت مكبرات الصوت مبثوثة هنا وهناك، والأغانى الخليعة تذاع إلى جانب المحاضرات الدينية. أفتظن الجد كان يتميز كثيرا عن الهزل؟ لا! إن تميز فى جوهره فما يتميز لدى جمهور السامعين الذاهلين! إن صيحات الوعظ كانت تهز موجات الهواء ولكنها لم تهز جوانب القلوب. واستوقفت نظرى أمور شتى فى خطب أولئك الواعظين. ما هذه الأحاديث الشريفة التى تلقى فى الهواء بالعشرات؟، إنها الدرر التى كانت تنحدر من فم الرسول صلى الله عليه وسلم يلقفها السامعون بمشاعر الإعزاز البالغ، ويعرف صاحبها العظيم قيمتها فهو يقتصد فى إلقائها اقتصادا ، ويوجز فى أحاديثه حتى لتحصى على الأصابع إحصاء. هذه الأحاديث كانت تلقى فى إسراف شديد... فى الهواء! أو لقوم قلوبهم فى الهواء. ورأيت رجلا قارب الستين أو جاوزها، يدخل فى دكان ليعرض على من فيه بضاعته، وما بضاعته؟ إنه الوحى الذى نزل به الروح الأمين. هذا رجل أشيب يرتزق بالقرآن من قديم، وكان صاحب الدكان زاهدا فى السماع فأعطى السائل قريشات وصرفه. وتبعت القارئ السائل بعين تكاد تطفر دمعا، وقلب ملىء بالكآبة. وهل رأيت مواكب الصوفية المتتابعة فى هذه الساحة الغاصة؟ ص _148 إن طبولها تدق لا لإعلان الحرب على الشيطان، بل لإعلان حرب الشيطان على دين الرحمن! ورأيت يهوديا يرمق الموكب الصاخب بنظرات شزراء! فتضاءلت فى شخصى، وأحسست بسهام الخزى تخترق فؤادى من كل صوب، ثم مرت الأعلام التى نقشت جوانبها بأسماء الخلفاء الأربعة، ومن تحتها فلول من الفلاحين الأغبياء! ووقفت فى مكانى أستعرض المارة كما يستعرض القائد المكسور جيشه المهزوم! ولم أجد أفضل من أن أعود أدراجى تاركا لوزارات الشئون، والصحة، والأوقاف، والأزهر عبء العمل المنتج فى ساحة الاحتفال المهيب! ص _149 مجرمو الحرب عندنا لا عندهم ! فى نهاية الحرب العالمية الثانية قرر الحلفاء المنتصرون أن يشنقوا قادة ألمانيا وساستها، وقد نفذوا ما قرروا. ولن تبرح ذاكرة التاريخ تعى صورا بشعة لأجساد تتأرجح فى الهواء، وعيون جاحظة، وشفاه مزمومة، من حولها رجال: تشرشل، وترومان بارزو الأنياب، كالحو الملامح... يتشفون لمصارع أعدائهم محلى هذا النحو.. ربما كان هذا انتقاما عادلا لآلاف البلاد التى دمرت على ما فيها ومن فيها ولو مال ميزان الحظ وانهزم الحلفاء، لكانت الأوضاع على عكس ما سجل التاريخ، وإذن لا نقلب الضحايا قتلة، ولذريت أجساد القضاة فى الهواء بالتهم نفسها التى حاكموا بها غيرهم. وليس يهمنى الآن أن أحدد بدقة أى الفريقين شر على العالم: الإنجليز أم الألمان؟ ولا أى الرجلين أحق بالعقوبة: هتلر أم تشرشل؟ وإنما يهمنى أن أنحو باللائمة على فريق آخر، هم فى نظرى مجرمو الحرب ومعرضو العالم كله للهلاك. إن الحروب الأولى والأخيرة التى شملت الأرض وغيرت معالمها لم تشتعل نارها إلا لغرض واحد لا ثانى له، هو استعمار الشرق، وتسخير ما به من إنسان وحيوان لخدمة الرجل الأبيض الذى يسكن أوروبا وأمريكا! والمعارك التى ذبحت فيها أجيال من البشر، وهى مظهر لتنازع الأقوياء أيهم ينفرد بالسيادة علينا والانتفاخ بيننا؟ والحرب المتوقعة الآن بين شتى الجبهات المتربصة بالمال والسلاح لا تعدو فى أهدافها ومبرراتها أبدأ هذا المعنى! إنه نزاع على أكلنا، إن هذه الحيوانات تتهارش على افتراسنا، وعندما يفرغ بعضها من بعض يأتى الفريق المنتصر وعلى فمه زهومة الدم المسفوح ليبدأ دوره معنا، نحن الذين نعد لمرح الغالب وكبره! ص _150 إن ضعفنا هو الجريمة الكبرى التى توقع العالم فى أشد الكوارث، والذين يعملون على إبقاء هذا الشرق مهيض الجناح دامى الجراح من سادته وقادته هم مجرمو الحرب الحقيقيون. إن كل سياسة داخلية فى أى بلد شرقى تبقى الجماهير فى هذا المستوى الفقير الحقير، هى فى جوهرها تقويض لسلام العالم أجمع، إلى جانب ما تنطوى عليه من مظالم ولؤم وخسة تقع على الشعوب البائسة خاصة...
ولو عرف الإنجليز وغيرهم، ممن يبنون حياتهم على أنقاضنا، أننا من الإباء والكرامة بحيث لا يستريح بيننا غاصب، ولا ينجو بحياته معتد أثيم لما فكر كلب منهم أن يختال بيننا، بل أن يحتل شبرا من أرضنا..
* * *
فلنجعل خطتنا الآن أن نقوى فى كل ناحية، وأن نجتث عوامل هذا الضعف الذى أزرى بنا، وأن نطهر الطريق من الساسة الذين لا يتصوروننا إلا فقراء حقراء... فإذا عز علينا أن نجعل هذا الشرق فى مستوى تنقطع دونه وساوس الطامعين، فلنجعله مقابر.. أجل مقابر تضم رفاتنا ونحن هلكى تحت ترابه! فذاك أولى بنا من أن نعيش موتى بين الأحياء.. وصدق إمام الأنبياء صلى الله عليه وسلم إذ يقول فى مثل هذه الحال: "بطن الأرض! خير لكم من ظهرها".
* * *
* جهادنا. وجهادهم !
ولساسة الشرق الأوسط أسلوب فى الجهاد كان له أبعد الأثر فى تضليل الشعوب عن أهدافها، وإطالة أمد الاستعمار الجاثم على صدرها..!
هؤلاء الساسة لا يتوجهون إلى الأمم كى يثيروا فيها غرائز الكفاح، ويحيوا مشاعر الأنفة والتمرد ويوثقوا الروابط بين شتى الطوائف، حتى تندفع إلى مقاتلة عدوها صفا ملتئما يتحامل على نفسه إذا تعب، ويحمل جراحه إذا أصيب، ويرعى ذرارى الضحايا إذا نكب، ولا بد فى كل ميدان يحتدم فيه الصراع من توقع هذا كله وأكثر منه..!
لكن ساستنا ابتدعوا لونا من الجهاد لا شوكة فيه! ومنذ نصف قرن وهم قابعون وراء المكاتب يرسلون التصريحات، ويلقون الخطب، ويقابلون المراسلين الأجانب للإدلاء ببعض الأخبار والآمال!.
Bogga 150