* لماذا أرخوا بالهجرة؟ إن المسلمين اعتبروا الهجرة بداية تاريخهم فى الحياة، ولم يعدوا ميلاد نبيهم ولا مبعثه مبدأ لذلك التاريخ الحافل البعيد. ولم يكن هذا التصرف إلا فقها منهم فى دينهم، وبصرا نافذا فى معرفة حقيقته وتقديس روحه، فالهجرة- سفرا من مكة إلى المدينة- حادث لا يذكر ولا يقدر. فكم فى الدنيا من أسفار أطول أمدا وأبعد شقة من هذا السفر القاصد. إنما روعة الهجرة أنها عقيدة وتضحية وفداء وكفاح، وإصرار غريب على مغاضبة الدنيا الثائرة الحاقدة! والتذرع بالوسائل التى فى مقدور البشر مغالبتها، فإما موت كريم وإما نصر كريم. هذه الحفنة من المؤمنين الذين خط الشيب رؤوس قادتهم، والذين عانوا آلام الغربة الروحية، والقلة المادية سنين عددا فما وهنوا ولا استكانوا، بل خلفوا فى اللحظة الأخيرة دورهم وأموالهم ونزحوا عنها. هؤلاء المؤمنون الأبطال، هم الذين أعطوا الهجرة بأعمالهم الخالدة روح الخلود، وعلموا الحياة كيف ترجح المبادئ بكل ما توزن به من مآرب أو متاعب، وكيف تتخطى كل ما يعوقها من صعاب. (إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم). ولو أدرك المسلمون من التاريخ بالهجرة هذا المعنى السامى، ما اضطربت أحوالهم هذا الاضطراب المؤسف، فلا هم الذين حرصوا على الحياة لدينهم فى أية بقعة من بقاع الأرض، ولا هم الذين ماتوا دون أن ينال أعداؤهم منهم ما نالوا: (ولو أنا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم أو اخرجوا من دياركم ما فعلوه إلا قليل منهم ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به لكان خيرا لهم وأشد تثبيتا). ص _080 * مبادئ لابد منها: مبادئ الإيمان فى الساعات الحرجة والأوقات العصيبة تجدها عندما يقول أبو بكر: نظرت إلى أقدام المشركين- ونحن فى الغار وهم على رؤوسنا- فقلت: يا رسول الله، لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا، فقال صلى الله عليه وسلم: "يا أبا بكر.. ما ظنك باثنين الله ثالثهما" . ومبدأ التضحية الواجبة تلمسه فى مبيت "على" على فراش الرسول صلى الله عليه وسلم قرير العين، وهو موقن بأن السيوف توشك أن تخالط صاحب الفراش وتمزق لحمه وعظمه. وعظمة الحب الكريم وتقدير المصلحة العامة، وافتداؤها بالنفس، تراها فيما يروونه من أن أبا بكر حين انطلق مع الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الغار، جعل تارة يمشى بين يديه وتارة يمشى خلفه! فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما لك يا أبا بكر؟ فقال: أذكر الطلب فأمشى خلفك، وأذكر الرصد فأمشى أمامك، فلما انتهيا إلى الغار، قال: مكانك يا رسول الله حتى أستبرئ الغار، فدخل، فاستبرأه ، ثم قال: انزل يا رسول الله، فنزل وأبو بكر يقول له: "إن أقتل فأنا رجل واحد من المسلمين، وإن قتلت هلكت هذه الأمة". إن الهجرة حقيقة بأن تكون علما على الإسلام، لأنها كانت بما حدث فيها وبين يديها وخلفها، المظهر العملى الصحيح للإسلام، مظهر العقيدة والتضحية، والحب، والفداء. لكننا- للأسف- نسينا الهجرة، بل أهملنا التأريخ بها فى حياتنا، لأننا نسينا الجهاد، وما يذكر به. ص _081 أيام فى الصحراء تعالت الشمس، وتقلصت ظلال الدور الجاثمة فى بطحاء أم القرى، واستطار الحرور من وهج الظهيرة، فاستخفت الوجوه من لفحه. ولف مكة مع هذه الهدأة المفروضة، سكون اللغوب من كفاح الدعوة التى بدأ أصحابها يتخذون مسلكا جديدا فى خصومة أعدائها، كما بدأ أعداؤها ينتهجون خطة جديدة فى العدوان على أصحابها. وكان هذا السكون المترامى على مضارب الخيام ومساكن الحضر يوارى تحته نيات هائلة وآمالا بعيدة. وضغطت أشعة الشمس على صدر الرمال ضغطة محت عوامل البرد والسلام، وأرسلت الحرارة التى تهيج العزم والتصميم وتثير دم النضال القوى الدافق. وفجأة ظهر شخص رائع السمت، تصبغ ملامح وجهه مسحة ساحرة! وكان يتحدر فى سيره لا تكاد تلفت انتباهه هذه الطبيعة المشتعلة المتراكضة اللهب فوق طيات الثرى. لقد كان مستغرقا فى فكر عميق! وكان يتجه فى صلابة نحو كثيب أحمر تقوم إلى جانبه دار طالما انبعث من جوفها صوت يرتل القرآن ترتيلا تهتز له الأفئدة! كانت تلك الدار المؤمنة دار أبى بكر!. واستشرفت السماء والأرض لطلعة القادم المهيب، وإذا قائل يقول: هذا رسول الله متقنعا. إنه لم يكن يأتينا فى مثل هذه الساعة. فوثب أبو بكر يهتف: "فداء له أبى وأمى، والله ما جاء به هذه الساعة إلا أمر ذو بال ". واقتربت الخطوات الوئيدة ثم استقبل أبو بكر الزائر الكريم صلوات الله عليه وسلامه. * * * * دليل كافر..! - أخرج من يكون عندك! - إنما هم أهلى يا رسول الله؟ ص _082 - فإنى قد أذن لى فى الخروج! - الصحبة إذن بأبى أنت وأمى؟ - نعم يا أبا بكر! - فخذ إحدى راحلتى هاتين؟ - بالثمن إذن! ونهضت عائشة وأسماء تهيئان الجهاز وتصنعان الزاد وتضعانه فى جرابه، ومزقت أسماء قطعة من نطاقها، وأوثقت به فم الجراب حتى يحفظ ما فيه، وانطلق أكرم صاحبين إلى جبل ثور فكمنا فيه ثلاث ليال! كانت قريش خلالها تذرع السبل والمنافذ، وتبث العيون والأرصاد، وتكاد توصد الفجاج على الذاهب والآيب فلا يتحرك أحد إلا بقدر، ولكن هيهات! وكان عبد الله بن أبى بكر غلاما شابا ذا ثقافة ولقانة ، يبيت عند الغار، ثم يدلج بسحر تاركا المهاجرين العظيمين، فيصبح مع قريش كأنه مقيم بينهم، فكانت أخبار المطاردين واتجاهاتهم تصل إلى أهل الغار كل مساء، يعيها الشاب الذكى، حتى إذا جن الليل، واختلط الظلام أخذ طريقه خفية إلى الغار فأفضى بها. وفى صبيحة اليوم الموعود كانت الراحلتان مناختين استعدادا للسفرة البعيدة، يقودهما دليل ماهر خبير بدروب الصحراء ومتاهاتها ومشابهها. هذا الدليل وإن كان رجلا كافرا، لما يزل على دين قريش، لكنه استؤمن على سر فكان ثقة، وعلى وعد فكان وفيا وعلى عمل عظيم فكان عند الظن به!. * * * * إن الله معنا: قال أبو بكر: أسرينا ليلتنا حتى قام قائم الظهيرة وخلا الطريق فلا يمر فيه أحد، وظللنا نمشى حتى لاحت لنا صخرة طويلة لها ظل لم تأت عليه الشمس بعد، فنزلنا عندها، فأتيت الصخرة وقصدت ناحية من الظل، فسويت مكانا ينام فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم بسطت عليه فروة، ثم قلت: نم يا رسول الله، وأنا أرقب ما حولنا! وإذا راع مقبل على الصخرة فى عنيزات له يريد منها الذى أردنا، فقلت له: لمن أنت يا غلام؟. فقال: لرجل من هنالك. ص _083 - أفى عنزك لبن؟ - نعم. - أفتحلب لى؟ - نعم! فأخذ شاة فقلت: أنفض الضرع من التراب والقذى، ففعل وحلب فى قعب معه كثبة من لبن، فأتيت النبى صلى الله عليه وسلم، وهو نائم، فكرهت أن أوقظه، فوقفت حتى استيقظ فصببت على اللبن من الماء حتى برد أسفله وقلت: اشرب يا رسول الله، فشرب حتى رضيت، ثم قال: ألم يأن الرحيل؟ فارتحلنا بعد ما زالت الشمس واستتلينا نطوى مراحل الطريق، فإذا نحن ندخل فى أرض غليظة صلبة ما إن استوينا عليها حتى أحسست بخطر داهم يدنو رويدا رويدا من ورائنا، فقلت: يا رسول الله: أتينا وسيحاط بنا، أترى هذا الفارس الذى يتبعنا؟ فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: لا تحزن إن الله معنا. ثم دعا عليه الرسول صلى الله عليه وسلم فارتطمت يدا فرسه إلى بطنها وخر راكبها على وجهه بعد أن ساخت فى الأرض قوائمها، ولكنه لم يلبث أن قام بين دهشة الحادث الذى أصابه وسورة الطمع الذى خرج به، فزجر فرسه يريد حملها على المضى فعجزت تماما ، فترجل ونادى مستأمنا: لقد علمت أنه نالنى منكما شىء فاتركانى وادعيا لى. والله لكما أن أرد عنكما الطلب! فدعا له الرسول صلى الله عليه وسلم، فقفل راجعا لا يلقى أحدا إلا قال له: حسبك لقد كفيتك ماهنا. وسار أبو بكر وقد أثلج فؤاده أن رأى كيف صار الطالب مطلوبا! وتذكر عندما كان فى الغار، فأصاخ إلى خفق أقدام المشركين وهم ينقبون ويفتشون، وتسكين الرسول صلى الله عليه وسلم لروعه عند ذاك. * * * * فى الطريق: كانت النجوم تطلع فترسل نورها الباهت على الأديم الأعفر المنبسط، وموجات النسيم البارد تخفق من كل مهب فلا يردها بناء قائم. وثم ساريان يضربان فى الفلاة ترمق أعينهما نجوم السماء وترد صدورهما خفق الرياح.. على أحدهما جلال النبوة، وعلى الآخر جمال اليقين. فإذا انقشع الليل رأت الشمس الرجلين كليهما ميممين ص _084 إلى غايتهما من نهاية الطريق، ترمضهما وقدة الجو، وسطوة العدوان، وهوام الأرض من إنسان وحيوان، فلا يسقط ذلك كله إلا عند أقدام الأينق التى تستحث الخطو إلى يثرب تحدوها آى القرآن من صاحب الوحى، ومن صاحبه الأمين. ومرت الأيام وهما ماضيان فى سبيلهما، وشاء الله أن تقع فى أثناء السير مفارقة طريفة، فقد أقبلت من الشام قافلة فيها الزبير، وركب من المسلمين جاءوا بتجارة كبيرة. فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابا بيضا!! * * * * يا معشر العرب: وسمع المسلمون بالمدينة مخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة. فكانوا يعدون كل صباح إلى الحرة فينتظرونه حتى يردهم حر الظهيرة، فانقلبوا يوما بعد ما أطالوا انتظارهم، فلما أووا إلى بيوتهم أوفى رجل من اليهود على ظهر أطم عال يبحث عن شيء له، فأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه يتقاذفهما السراب اللامع على مدى الطرف فلم يتمالك أن صرخ: يا معشر العرب هذا جدكم.. الذى تنتظرون، فثار المسلمون إلى السلاح، وسالوا بظهر الحرة حتى التقوا بصاحب الرسالة العظمى، فقام أبو بكر للناس وجلس الرسول صامتا، فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله صلى الله عليه وسلم يحيى أبا بكر!! حتى أصابت الشمس رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل أبو بكر عليه يظلله بردائه، فعرف الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك!! وسعدت المدينة بالقادم الذى كتب لها الخلود، وسجل بها معنى الوفاء فى الحياة والممات. ص _085 الهجرة فكرة لا رحلة قد يكون الشىء الواحد عملا شاقا مضنيا. أو لعبا مريحا مسليا، وهو لا يتغير فى مظهره وإن تغيرت بواعثه وملابساته!! فصيد السمك رياضة مرحة يلهو بها بعض المترفين الناعمين، وهو كذلك حرفة يرتزق من مكابدتها ألوف العمال الكادحين! والرحلة من قطر إلى قطر قد تكون سفرا قريبا أو بعيدا للاسترواح والتنعم، وإنفاق الفائض المخزون من الوقت والمال، وقد تكون كذلك مشيا فى مناكب الأرض لتحصيل علم، أو تقريب رزق، أو فرارا من شر محظور إلى خير منظور. والهجرة التى يحتفل المسلمون بها، ويجددون ذكرياتها، ويكبرون أصحابها، هى فى مظهرها سفر من مكة إلى المدينة يقطع فيه الإنسان نحو أربعمائة ميل فى طريق وعرة موحشة. ولكن الهجرة- كما عرفنا- لم تكرم لأنها سفر- فما أكثر المسافرين قديما وحديثا بين مكة والمدينة. وما أكثر الذين يقطعون مسافات أبعد فى آماد أطول وأشق. بل لقد حدث على عهد النبى صلى الله عليه وسلم نفسه أن رجلا كانت له فى المدينة عشيقة يهواها، فلما رأى طريق الأبطال يزدحم بالفدائيين من حملة العقائد وهم يتركون البلد الذى اضطهد دينهم فيه، يبغون فى مهجرهم أمانا لإيمانهم ومتنفسا ليقينهم، مشى العاشق الولهان بينهم يبغى المدينة كذلك معهم! وشتان بين هذا وذاك، هذه خطوات القلب المؤمن تتحرك فى الحياة فتتحرك فى ركابها الثقة الغالية والتضحية النبيلة. أما تلك فخطوات الشهوة الصغيرة تتحرك بصاحبها فلا تفرق بينها وبين خطوات الدابة التى حملته. ورب قاعد فى بلده أشرف نفسا من هذا المهاجر التافه. ص _086 وقد كان تعليق النبوة على هذا السفر: "إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله! فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ما هاجر إليه". ولما كثر أدعياء الإسلام والإيمان والهجرة، واختلطت المظاهر التى يصطنعونها ليعدوا مسلمين مؤمنين مهاجرين، مع أن حقيقتهم دون ما يزعمون، وضع النبى صلى الله عليه وسلم العلامات . المميزة الحاسمة لهذه الإدعاءات فقال: "المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه ". وهكذا ربط حقائق الإيمان بأصول النفس، وأهدر ما عدا ذلك من عناوين. فإلى المحتفلين بالهجرة من رجال الأحزاب ، وكذبة الكتاب، وجماهير العامة، نوجه هذه الآداب. * * * * أشد الناس بلاء: قيمة الزمن فى عمر أى نبى ، غير قيمته فى عمرأى فرد من البشر. نحن تضيع علينا أكثر أيامنا سدى ، بين جد قليل، ولهو كثير، وسرور واقع، أو سرور مرجو. أما الأنبياء فأيامهم يتقسمها الإجهاد، وتزحمها المتاعب، ولا تبقى منها الأعباء المترادفة متسعا لحظوظ النفس فى هذه الدنيا. ونبينا محمد صلى الله عليه وسلم صاحب الرسالة العظمى، هو بلا ريب شيخ الأنبياء فى هذا المعنى. جعل الله حياته قبل البعثة إعدادا للبعثة العامة التى تنتظره. وكان من مستلزمات هذا الإعداد، أن يعيش فريدا يتيما قليل المال، غريبا بنفسه وفكره عن البيئة الصاخبة التى نبت فيها، تاجرا يكدح ليكون رزقه من عمل يده، قبل أن يكون رزقه تحت ظل رمحه. فلما أرسل إليه وصدع بأمر الله، واجه دسائس الضمير الوثنى المشرك الذى لم يبال أن يحارب الرسول بكل سلاح، ثم دسائس الضمير اليهودى ، الذى لم يبال فى سبيل النكاية بالدين الجديد، أن يزعم، بل أن يحكم، بأن وثنية قريش أفضل من توحيد محمد صلى الله عليه وسلم! ويزيد بذلك فى تألب عباد الأصنام على أتباع القرآن الذى طالما مجد موسى وكتاب موسى. ص _087
ثم يمكث الرسول صلى الله عليه وسلم ثلاثة وعشرين عامآ يستمع إلى صوت الوحى، وما ظنك بالجهد الذى يناله من الوحى؟ لقد كان يأتيه فى اليوم البارد فيتركه وجبينه يتصبب عرقا. وكان أحيانا يطن فى أذنيه كصلصلة الجرس فيتوتر منه جسمه وتثقل أطرافه. وهذا الوحى هو أساس عمله ودعوته. ثم هذه الغزوات العسكرية بعد الغزوات العقلية الواسعة التى سبقتها. حتى إذا استتب الأمر وبدأت الجهود المضنية تؤتى ثمرها يتنزل الروح الأمين ليخبر النبى صلى الله عليه وسلم أن رسالته على ظهر الأرض قد تمت، وأن الملأ الأعلى ينتظرون مقدمه، ويلقى عليه قول الله عز وجل: (إذا جاء نصر الله والفتح , ورأيت الناس يدخلون فى دين الله أفواجا, فسبح بحمد ربك واستغفره انه كان توابا ! (1). كان لى صديق ذكى قضى صدر شبابه مدارسة للعلم وتحصيلا وجاز امتحاناته الكثيرة عقبة من بعد عقبة، فلما انتهى بنجاح من أعباء الدراسات والامتحانات، اختطفه الموت دون أن يرى ثمرة كده، ذاك الصديق الحبيب، هو مثل على ضالته لصاحب الرسالة العظمى صلى الله عليه وسلم. فما أن رأى بواكير نجاحه فى جهاده الطويل، حتى حال الموت بينه وبينها، كأنما يريد القدر أن تكون حياته للغرس والتعب فقط، ثم يولى تاركا للناس الخير والقطاف. * * * * فى الطريق إلى يثرب: ترك النبى مكة إلى المدينة وعمره ثلاث وخمسون سنة، ولا ريب أن حالته النفسية كانت تموج بعواطف بعيدة الغور، وذكريات عزيزة جياشة، فيها من الحب بقدر ما فيها من الأسى. هذه البلدة نشأ فيها طفلا محفوفا بعناية الله، ثم شابا مطهرا مرقوما بالتجلة والوقار من الرجال والنساء، ثم رجلا لا ترقى إلى سيرته ريبة ولا تعلق بخلقه ظنة ، ثم نبيا يحلم على الجهال، ويدفع السيئة بالتى هى أحسن. وها هو ذا بعد أن خط الشيب رأسه، يخرج من موطنه، يتنكر له الأقرباء والغرباء، وتبث فى طريقه الأرصاد، وتوضع المكافآت لمن يسفك دمه!
Bogga 87