لقد يئست تماما من حالتى، ولقد بعت محصول العام فى ثمن الدواء فلم ينفعنى. وضاقت الدنيا بى كما ترى، وبقى شىء واحد تقدمه لى من عند الله. قلت: ماهو؟ قال: تكتب لى آيات من المصحف فى تعويذة مطهرة! فلعلها تشفى سقامى. فهززت رأسى فى أسف يكاد يفطر فؤادى. قلت: أتحسب أن هذا ما يقدمه الله لك فى حالتك هذه يا صديقى؟ إذن لهانت الأديان كلها إن كان هذا مبلغ ما تسعفك به!! لقد أكل أبناء الدنيا اللئام ما زرعت فى حقلك وما غرس أجدادك فى بيتك وأعقبوك هذا المرض اللعين، أفتحسب أن الدين يقيك هذا السوء بالتمائم والرقى؟ إن التعاويذ لجسدك الضاوى كأقراص الدواء لبطنك الخاوى لا تفيد شيئا ألبتة!. بيد أن المريض المتعلق بخيط الأمل ذهل عن هذا الكلام فلم يع منه شيئا وعاود إلحاحه! ماذا أقول له؟ إن آيات الله المنزلة على أنبيائه كلهم لا تصلح بتعليقها إنما تصلح بتطبيقها. وما ذهب هذا الرجل إلا ضحية مجتمع منافق، يتظاهر بتقديس الوحى واحترام صحائفه، فى الوقت الذى يسير فيه على سنن من الإلحاد والجهالة واللؤم... وهذا الشرق الذى نعيش فيه له نقائض خانقة. إن الحاكم فى قصره قد يستمع إلى آيات القرآن فيهز لها رأسه تأثرا، ويغمض عينيه تخشعا، فى الوقت الذى يمضى فيه أوراقا تحمل للناس أقبح المظالم وتوقع بهم أشنع المآثم !! وقد تجد الثرى من هؤلاء المترفين يحتفى بعلماء الدين، ويخف لاستقبالهم وإكرامهم فى الوقت الذى لا يحبس فيه فقط حقوق الفقراء فى ماله بل يغتال حقوق العمال فى أرضه. إن عقليتهم المريضة أخذت الدين تمائم وهمهمات وأدعية فلم يزدهم الدين إلا مرضا، ولم تزدهم تعاليمه إلا رجسا، وتطهير هؤلاء جميعا لن يتم إلا بتطهير الأرض منهم. وحانت منى التفاتة إلى المريض الباسط يده فى ضراعة فإذا به قد لحقته غشية من غشيات المرض، فقمت عنه بعد أن دعوت أخاه الصغير للعناية به. ولست أدرى كيف سيعنى به؟ ص _053
* فى عداد المجاهيل؟! فى المساء عرفت أن الرجل مات، فأيقنت أن الموت أحيانا يكون طبيبا رحيما حاسما لأعصى الآلام على العلاج. فلما ذهبت إلى البيت الثاكل سمعت أنينا مكتوما ورأيت وحشة بادية. وفوجئت بالجثة محمولة على أعناق نفر من الرجال القلائل الذين يمتون إلى الفقيد بصلة القرابة أو الجوار. وما هى إلا ساعات حتى كان الرجال قد فرغوا من عملهم، ورأيتهم فى جلابيبهم الزرق يعودون منكسرة قلوبهم مكلومة أفئدتهم، يتبادلون كلمات العزاء والتصبر! قلت لنفسى: أهكذا تنتهى حياة رجل قضى عمره فى الكفاح والعمل؟ لكأنها جنازة شقى حكم عليه بالإعدام، ومنعت الحكومة الاحتفال بموته! ما أقل المعزين والمشيعين! وما أهون وقع النعى على آذان الناس! وما أقل اكتراثهم له! لقد عاش الرجل فى صمت ومات فى صمت فلم يبكه إلا القليل! بلي! بكته السماء التى طالما نظر إليها شاكيا، والأرض التى طالما انحنى عليها مقاسيا! وبكاه حقله الذى طالما حول ما فيه من طين إلى ورد ورياحين! وبكته النخيل التى غرسها أجداده فلم يستفد منها أجداد ولا أحفاد... وأقبل الليل على أسرة صغيرة تبكى ربها الذاهب. وتنظر إلى مستقبلها نظرة باردة، إنه لن يكون أسوأ من ماضيها على أية حال. لقد ذهب رجلهم فى عداد المجاهيل من ألوف الفلاحين الذين يبريهم العمل ويقتلهم الجحود، ويتنكر لهم سادة الأرض، فلا يجدون الراحة المنشودة إلا فى بطن الثرى بعد عذاب طويل. وفى أوبتى سمعت ناعى الأموات فى القرية يصرخ بصوت عال، كأنه نذير حرب! فقلت: لعل أودية الموت استقبلت طارقا جديدا، وصح ما توهمته يظهر أن الموت أنشب أظافره فى صيد دسم، فإن الاسم المنعى إلى الناس اسم رجل من علية القوم، أعرفه جبارا عنيدا من الملاك الجبابرة فى هذه الناحية فقلت: لعل القدر شاء أن يفسر لنا حديث الرسول صلى الله عليه وسلم- وقد مر أمامه بجنازة- فقال:
Bogga 53