وفى صبيحة الغد، أرسل إلى العمدة يستنبئنى لم تخلفت؟. ويدعوننى إلى تناول الغداء مع رفاق الأمس على مائدته الكريمة. وفى الموعد المحدد كنت تجاه مائدة حافلة، ترف عليها بشاشة النعمة، وتنعقد فوقها روائح شتى من الأطباق المنضودة، والأطعمة الممدودة، وعلى أطراف الخوان أزهار ورياحين تعبث بها أصابع الرجال الجالسين فى قلة اكتراث، المتهيئين للأكل والثرثرة فحسب. فلما ضمنى المجلس العابث بمرحه، الصاخب بضحكه، استشعرت التناقض الواضح، بين ما رأيت وما أرى، وتذكرت الأسى الشائع فى جو القرية، والصارخ بمعانى الحرمان فى حياة أولئك الفلاحين المساكين، وبرز أمام عينى شبح الشقاء الجاثم فى صدورهم، فأعدت النظر إلى الوجوه المبعثرة حولى، ورأيت أسارير منفرجة، وملامح طافحة بالبشر، ثم قال العمدة بلهجته الآمرة: يا ولد، افتح الراديو، نريد أن نسمع. وإن كان الشيخ المأذون سيتضايق لأنه يكره الغناء! فأرسل المأذون جشاء طويلا ثم قال: إن الشرع الشريف هو الذى ينهى عنه أليس كذلك يا.. وقبل أن يوجه الحديث إلى كان المستمعون الكرام وعلى رأسهم صاحب الحفلة المضياف يتبادلون الضحك العالى، وهم يكرعون من أنس المجلس، ومتاع الحياة، وصفاء العيش، ما يستطيعون من ذلك كله!! وصوت الراديو ينطلق فى الجو السكران بما فيه ومن فيه قائلا: اوع تزعل ثانية صحتك بالدنيا! وأحس "مأذون الشرع " بالحرج، فقال لى مستنجدا: أليس كذلك؟ أنت ممثل الدين بيننا فتكلم باسم الدين. فقلت ساخرا: كان للدين سفراء يمثلونه عند رجال الدنيا. أما اليوم فعند رجال الدنيا أقوام يمثلون باسم الدين! لكنهم للأسف يمثلون أدوارا هازلة! فقال الرجل: إنى أسأل عن حكم الشرع الشريف. فقلت: تسأل عن حكمه فى أشياء قد. تخدش أظافره. أما الأشياء التى تدق عنقه وتستأصل من الأفئدة جذوره، فلا تسأل عنها، ولا يسأل عنها أحد! وهذه الفوضى الاجتماعية التى طغت على بلادنا، وعبثت فيها بكل المقررات الدينية والعقلية، وطحنت قلوب الجماهير المعذبة، ألا يستفتى فيها الدين يوما ما ليقول حكمه الحق؟ ثم قمت فى غضب وأغلقت الراديو، فحبست صوت المرح المهتاج عن القوم المرحين، وتبرم العمدة بهذه الحركة وضاق المأذون بما سبقها من كلام، فانصرفت وفى مشاعرى غليان مكتوم. ص _049
Bogga 49