وهو أهم أجزاء النفس جميعا ومصدر أفكارنا ومشاعرنا ووعينا ووجداننا. وحين يولد الإنسان يكون عقله الموجه خلوا كالصفحة البيضاء، ثم تملؤها الانطباعات الحسية التي ترد عليه، ويكون منها ذكريات يتألف من مجموعها تجارب الإنسان. وبعد ذلك ترتسم الأفكار؛ فبعضها وارد من التربية التي يحصل عليها الإنسان، وبعضها يعود إلى جهده الذاتي، وبعضها فطري سابق على كل تجربة. والعقل البشري هو مجموع هذه الأفكار.
21
القضاء والقدر:
قلنا إن الرواقيين يأخذون بمذهب «وحدة الوجود» (البانتزم)، ومفاده أن الإله والكون شيء واحد، وأن اللوجوس (العقل) هو مصدر الأشياء جميعا وجوهرها الماثل في كل مكان. واللوجوس هو قانون يربط الأشياء رباطا لا انفصام له ولا فكاك منه. وهذا القانون هو «القضاء والقدر»؛ أي تسلسل العلل أو الأسباب تسلسلا يجعل كل حادث معلولا لعلة، وكل علة معلولا لأخرى، وهكذا إلى غير نهاية، ووفقا لقدر مرسوم. والزمان في الحقيقة لا يأتي بجديد، ولا شيء يحدث إلا وكان متضمنا من قبل في أصل الأشياء. وكل شيء في العالم خاضع للضرورة أو القضاء والقدر. غير أنها ضرورة عاقلة. والعناية الإلهية قد دبرت العالم أحسن تدبير، وكل ما في الكون ينم على حكمة عالية لا تخبط فيها ولا مصادفة ولا عشوائية؛ فالقضاء المحتوم هو نفسه عناية وتدبير يتغيا الخير، والعالم القائم هو خير العوالم الممكنة. ومن السخف القول، مع أبيقور، بأن العالم ناتج من التقاء الذرات بالمصادفة والاتفاق؛ فمثل هذا القول يعني أننا لو ألقينا عشوائيا عددا هائلا من الأحرف الأبجدية لأمكن لهذه الأحرف أن تقع مرتبة بحيث يتألف منها تاريخ «إنيوس» على حد قول شيشرون.
وكل موجود فلوجوده غاية، ولا شيء يوجد عبثا من غير قصد. والأدنى موجود من أجل الأعلى؛ فالنبات والحيوان موجودان من أجل الإنسان؛ فالإنسان غاية الأشياء ومدارها.
عن الطبيعة واللاهوت الرواقيين تنجم مشكلتان لا بد للرواقي من حلهما حتى يبرأ المذهب من التناقض ويسترد شيئا من الاتساق؛ الأولى مشكلة القدر وحرية الإنسان، والثانية مشكلة الشر.
القدر وحرية الإرادة الإنسانية:
ثمة توتر ظاهر بين الحتمية العلية والحرية الإنسانية، بين الضرورة الكونية والإرادة البشرية. وقد أخذ الرواقيون بكلا الضدين؛ فقد ذهبوا إلى أن الأشياء جميعا تمضي بقانون محتوم وقدر مرسوم وتسلسل سببي لا اعتباط فيه ولا مصادفة. وذهبوا في الوقت نفسه إلى أن للإنسان حرية إرادة، وبوسعه أن يفعل أو يحجم عن الفعل وفق إرادته واختياره. وقد سبق أن ألمعنا إلى محاولة كريسبوس حل هذه المشكلة بالتفرقة بين العلل الثانية أو الأصلية التي تعبر عن طبيعة الشيء الذي نحن بصدده، والعلل الأولى أو القريبة أو المساعدة التي تعبر عن الفعل الذي ينصب على الشيء من خارج. مثال ذلك أن الأسطوانة أو المخروط لا يمكنهما أن يتحركا إلا إذا جاءتهما الحركة من الخارج (علل أولى قريبة)، ولكن أسلوبهما الخاص في الحركة ودورانهما حول نفسيهما إنما يجيئانهما من طبيعتهما الخاصة (علل ثانية أصلية). كذلك الحال بالنسبة للإنسان؛ فإرادته الحرة هي العلة الأصلية الكبرى للفعل، وما «التصور المحيط» القاهر الذي يستولى على النفس إلا علة مساعدة لا أكثر. وإذا كانت الأسطوانة لا تملك اختيار التوقف عن الدوران فإن الإنسان قادر بنفسه على النزوع و«التصديق»
assent
أو الإعراض والرفض؛ وهو على كل حال يستطيع أن يقبل أو يرفض «الانطباع» أو «التصور» الذي يأتيه عن طريق الظروف الخارجية، كما يستطيع أن يتجه إلى الأشياء أو يزور عنها إذا شاء؛ فالإنسان إذن حر وله كسب واختيار. و«القدر» ليس هو العلة الأصلية في حصول ما يحصل، بل إن سلطانه لا يعدو الظروف الخارجية والعلل المساعدة للأفعال.
Bog aan la aqoon