Surah Al-Qasas: An Analytical Study
سورة القصص دراسة تحليلية
Noocyada
سورة القصص.. دراسة تحليلة
تأليف
الدكتور محمد مطني
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
الحمد لله والشكر له وهو الشكور الحميد، منزل الَقُرْآن هدى ورحمة، ﴿مِنْهُ ءايَاتٌ مُحْكَمَتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَبِ وَأُخَرُ مُتَشَبِهَتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَبَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَالرَّسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ ءامَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَبِ﴾ «١» .
والصلاة والسلام والبركات على سيدنا ورسولنا ونبينا وحبيبنا أبي القاسم مُحَمَّد بن عَبْد الله، صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وعلى آله وصحبه وتابعيه ووارثيه، القائل: «خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ» «٢» .
فصَلَّى عَلَيْهِ اللَّهُ وَسَلَّمَ عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.
أما بعد:
فقصتي مع هذه الأطروحة غريبة كلّ الغرابة، فقد كان من المقدر - والله المقدر - أن يكون كاتب هذه الأطروحة شخصًا سواي وبمنهج غير هذا المنهج وبطريقة غير هذه الطريقة.
فشاءت مشيئة الله أن يتوفى هذا الشخص ﵀ بالحرق قبل الشروع بها فعزمت على تحقيق رغبته بدراسة هذا الموضوع وباقتراح من الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية الذي أراد أن أحقق رغبة أخي الشيخ جاسم مُحَمَّد سلطان ﵀ الذي وافاه الأجل قبل أن يحقق ما أراد.
_________
(١) سُوْرَة آلِ عِمْرَانَ: الآية ٧.
(٢) صحيح البُخاري. مُحَمَّد بن إسماعيل أبو عَبْد الله البخاري الجعفي. (١٩٤ - ٢٥٦) . تحقيق: د. مصطفى ديب البغا. دار ابن كثير، اليمامة. بيروت. ط٣. ١٤٠٧هـ - ١٩٨٧ م: ٤ /١٩١٩ رقم (٤٧٣٩) . من حديث عثمان ﵁.
1 / 1
فاقترح علي المشرف الأستاذ الدكتور مُحَمَّد صالح عطية أن تقسم السّورة على مقاطع موضوعية يحلل كلّ منها على حدة، وقد وجهت باختيار منهجية علمية أكاديمية في تحليل كلّ مقطع وفق النظام الآتي:
تحليل الألفاظ على وفق المصطلح المعجمي.
إبراز المناسبة بين الآيات في المقطع وما قبلها وما بعدها.
تخريج القراءات الَقُرْآنيّة ومواردها في كلّ مقطع.
ذكر القضايا البلاغية.
المعنى العام للمقطع.
ما يستفاد من المقطع.
وقد سرت على طريقتين في كتابتي هذه الأطروحة:
الطريقة الأولى:
الاعتماد على المصادر والمراجع في استعراض الآراء في تفسير وتأويل المقطع دون إبداء رأي شخصي في التأويل والتحليل، لأن مورد النصّ لا يحتمل في بعض الأحيان الزيادة على آراء السابقين ﵏ ولو بكلمة، لتكاملها، فكان عملي الوحيد فيها هو العرض مع الترجيح بين هذه الآراء.
الطريقة الثانية:
أن أبرز الرأي في تأويل بعض المواضع والمواضيع التي تحتمل إبداء الرأي ولا سيما في المواضيع الصورية - البيانية - الأسلوبية غير المقطعية، وكان في ذلك مجال واسع لإبراز الرأي الجديد مع ربطه بما ذهب إليه القدماء.
وقد استشرفت في بحثي الأطر الخاصة والعامة، والذي تمثل في مواضع مثلتها جملة من المفاهيم نحو (التربية والسلوك، والزمن، والتوحيد، والشخصية والهوية، والإيمان والكفر) .
ولقد حاولت هنا أن أدرس ارتباط الماضي بالحاضر في القراءة التأويلية لسُوْرَة الْقَصَصِ بمقارنة فرعون ودولته بالولايات المتحدة الأمريكية على ما يراه القارئ في الفصل الثامن من هذه الأطروحة.
1 / 2
إن هذا العمل في حد ذاته كان عملًا مبتكرًا في بابه، ذلك أن إبداء الرأي - بصورة غير منهجية - في بعض مواضع الَقُرْآن الكَرِيم من الأمور المنهي عنها في الحديث الشريف، ولكني قمت بذلك تبعًا لمنهج أهل السنة والجماعة، وهكذا فلم أتعرض لتأويل آيات الصفات في سُوْرَة الْقَصَصِ، ولكني أولت آيات تتعلق بهذا العصر في مواضعها لمسيس الحاجة إليها، لإيقاظ عقول الشباب وقلوبهم من الغفلة والوهن إلى الاندفاع والعزيمة في مبشرات سُوْرَة الْقَصَصِ، تبعًا للقراءة الجهادية لسُوْرَة الْقَصَصِ.
وقد كانت لي استفادة في قراءتي التحليلية لسُوْرَة الْقَصَصِ من جمهرة كبيرة من المصادر والمراجع القديمة والحديثة بطبعاتها القديمة والحديثة - مع صعوبة الحصول عليها في ظل الظروف الحالية - وقد كان لي من شبكة المعلومات العالمية (الانترنيت) معينًا في الحصول على بعض التوجيهات المعلوماتية وبعض الآراء الحديثة.
إن البحث في الدراسة التحليلية لكل سورة على حدة أمر مهم، لأن هذا التحليل يظهر وجوه الإعجاز الَقُرْآني في كال نواحيه المتطورة. وكان هذا الأمر من بين الأسباب التي دفعتني لاختيار سُوْرَة الْقَصَصِ لما تحمله من مبشرات بزوال دول الكفر والطغيان، وذلك بما بشر به رَسُول الله (ﷺ) قبل الهجرة المباركة من أن النصر آت، وربطها بين حال رَسُول الله (ﷺ) وبين حال موسى (﵇)، وبين قوة قريش ومالها ونفوذها، وبين قوة فرعون وهامان وقارون ومالهم ونفوذهم، وما آلت إليه قوى هؤلاء جميعًا إلى الزوال والهلاك.
وكان من منهجي في البحث فضلًا عما أبرزته فيما سبق هو ربط الماضي بالحاضر، وهو ما جاء متماشيًا مع الخطوط العامة للسورة، ويعقبها التحليل الذي شمل المباحث والمطالب.
1 / 3
وأدى هذا إلى جعل مهمة الباحث تنتقل بين نقل تفسيرات الأقدمين وتأويلاتهم وإبراز الفهم الحديث للتفسير والتأويل حسب ما يقدح في ذهن الباحث في أثناء الدراسة الموضوعية دون الخروج عن مذاهب القدماء في ابتعادهم عن التفسير بالرأي.
وقد كانت أهم المصادر والمراجع التي اعتمدتها، جمهرة من كتب التفاسير والمعجمات والتأويلات الجزئية لبعض آيات سُوْرَة الْقَصَصِ، وكتب القراءات والبلاغة والإعراب، والكتب التي تحدث عن انتصار الإسلام، والكتب التي تقارن فرعون ذلك العصر بفرعون هذا العصر، الولايات المتحدة الأمريكية، وعلى ما يراه القارئ في فهرست المصادر والمراجع الملحق بآخر الرسالة.
وقد قمت بتحليل بعض المواضع التي يستنبط منها أحكام الفقه، والتي سبقني إليها القدماء، مع أن سُوْرَة الْقَصَصِ لا تتضمن الأحكام الفقهية المباشرة، بل ما استنبطه منها الفقهاء والأصوليون من أحكام من قصة زواج موسى (﵇) .
إن أهمية الكتابة في سُوْرَة الْقَصَصِ تبرز في خمسة محاور:
تحليل آراء القدماء في السّورة نفسها.
إظهار بعض أوجه الإعجاز الَقُرْآني التي لا تحصى عددًا.
إبراز النصر الإلهي الممتد من زمن موسى ومُحَمَّد - عَلَيْهما الصَلاة والسَّلام - إلى قيام الساعة.
بيان أن الحاكمية لله جَلَّ جَلاُله.
فهم الماضي وصولًا لفهم الحاضر والمستقبل. وسُوْرَة الْقَصَصِ حافلة بالحقائق التاريخية، وتتوافق أحداثها مع ما أثبته العلم الحديث.
وقد سارت الأطروحة في أصلها تبعًا لمنهجية حسبت أنها الأفضل في التحليل العام لسُوْرَة الْقَصَصِ، فكانت خطتي في الأطروحة هي:
الفصل الأول التمهيدي وضمنته ستة مباحث.
أما الفصل الثاني فقد أسميته وقفات بين يدي السّورة، وقسمته على مبحثين.
وقد خصصت الفصل الثالث لدراسة الطغيان والتكبر في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمت هذا الفصل على مبحثين أيضًا.
1 / 4
وفي الفصل الرابع. ناقشت نشأة سيدنا موسى (﵇) والظروف المحيطة به. واقتضت مستلزمات البحث أن أقسم هذا الفصل على مبحثين.
وخصصت الفصل الخامس لمناقشة موضوع هجرة سيدنا موسى (﵇) إلى مدين. وكان هذا الفصل من مبحثين.
وفي الفصل السادس تناولت عودة سيدنا موسى (﵇) إلى مصر واشتمل على مبحثين.
وقد تناولت في الفصل السابع، الرسول مُحَمَّد (ﷺ) ودعوته في سُوْرَة الْقَصَصِ، وقد قسمته على ثلاثة مباحث.
وقد قارنت في الفصل الثامن بين هيمنة فرعون وأمريكا وسقوط وانتصار الإسلام من خلال سُوْرَة الْقَصَصِ في دلالاتها السياسية الحديثة. وقد توزع هذا الفصل على تمهيد ومبحثين.
وختمت هذا كله بخاتمة أوجزت فيها ما استطعت التوصل إليه من نتائج.
لقد أدى المنهج الجديد الذي اعتمدت عليه في بحثي إلى صعوبات وصعوبات قد لا يتسع المجال لذكرها، غير أن أبرزها هو ما واجهني في مواضع لم أجد القدماء قد بحثوا فيها بما يلائم منهج البحث، ولا سيما ما يوافق حال المجتمعات الإسلامية اليوم.
وأيًا ما كان فهذا هو جهدي الذي بذلت ما وسعني الجهد والاجتهاد والبحث والدرس، فإن أصبت فبفضل الله جَلَّ جَلاَله هو أهل الفضل، وإن كان غير ذلك فمني، ولا أملك هنا إلا أن أقول: ﴿رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا﴾ «١» .
وصلى الله على سيدنا مُحَمَّد وعلى آله وصحبه وسلم
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين
الباحث
_________
(١) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية ٢٨٦.
1 / 5
الفصل الأول: التمهيدي
المبحث الأول: دراسة عامة عن السّورة
المطلب الأول: اسمها
" ثبت أن جميع أسماء السور بالتوقيف من الأحاديث والآثار " «١» . والمعروف أن تسمية السور القرآنية على ما يبدو من أسمائها، كتسمية السورة بكلمة أو باشتقاق كلمة واردة فيها، وأن اختلاف المصاحف في تسمية بعض السور ناشئ عن تعدد الروايات الواردة في ذلك «٢» .
" ومن عادة العرب قديمًا أن تراعي في كثير من المسميات أخذ أسمائها من شيء نادر أو مستغرب، يكون في الشيء من خلق أو صفة تخصه، ويسمون القصيدة بأشهر ما ورد فيها، وعلى ذلك جرت أسماء سور القرآن، لأن الَقُرْآن الكَرِيم جاء على سنن العرب في كلامها وخطابها «٣» .
وسورة القصص سميت بذلك لاشتمالها على كلمة (القصص) في قوله تعالى: ﴿وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ «٤»، أي: وقص موسى على شعيب «٥» .
وهي السّورة الوحيدة التي انفردت بذكر موسى (﵇) وسبب هجرته من مصر إلى مدين، وهو المذكور بعد تفصيله بقوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ «٦» .
_________
(١) الإتقان في عُلُوْم القُرْآن. السيوطي. ت ٩١١ هـ. الطبعة الثالثة. شركة مَكْتَبَة مصطفى البابي الحلبي وأولاده. مصر. ١٩٥١ م: ١/٥٢.
(٢) ينظر المصاحف. أبو بكر عَبْد الله بن أَبِي داود السجستاني. ت ٣١٦ هـ. نشره: د. آرثر جفري. مطبعة الرحمانية. مصر. ١٩٣٦ م: ص ١٨٢ - ١٨٣.
(٣) الإتقان: ١/ ٥٥.
(٤) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٢٥.
(٥) بصائر ذوي التمييز في لطائف الكتاب العزيز. مجد اليدن مُحَمَّد بن يعقوب الفيروزآبادي المتوفى سنة ٨١٧ هـ. تحقيق: مُحَمَّد علي النجار. مطابع شركة الإعلانات الشرقية. القاهرة. ١٣٨٣هـ - ١٩٦٣ م: ١/٣٥٣.
(٦) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٢٥.
1 / 6
فهي قصص موسى ﵇ وهو في مصر مع المصريين، وليس قصصه مع فرعون وقومه، ولعل هذا القصص الخاص هنا هو الوجه في تسمية السّورة باسم (القصص) «١» .
وقيل: " سميت بدلالة قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِين﴾ «٢» الدال على نجاة من هرب من مكان الأعداء إلى مكان الأنبياء، اعتبارًا بقصصهم الدالة على نجاة الهاربين، وهلاك الباقين بمكان الأعداء، من الهلاك " «٣» .
وتسمى أيضًا سورة (طسم) على ما ورد في بعض الروايات «٤» وتسمى أيضًا سورة موسى «٥»، وهو رأي شاذ.
وأسماء السور توقيفية على ما ورد في صَحِيْح البُخَارِي «٦»، وبذلك تكون هذه السورة إنما سميت بدلالة لفظة عامة فيها خصصتها بالتسمية، وهو الصواب من الأقوال.
المطلب الثاني: التعريف اللغوي والاصطلاحي للقصص
_________
(١) إلى الَقُرْآن الكَرِيم. محمود شلتوت. دار الهلال. (د. ت): ص١١١.
(٢) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٥٢.
(٣) محاسن التَّأؤيِل. المُسَمَّى (تَفْسِير القَاسِمي) . تَأَلِيْف مُحَمَّد جَمَال الدِّيْن القَاسِمي. ت ١٩١٤م. تصحيح وتعليق: مُحَمَّد فُؤَاد عَبْد البَاقِي. مطبعة عيسى البابي الحلبي وشركاؤه. ١٩٩٥ م: ١٣/٤٦٩٥.
(٤) مرويات الإمام أحمد بن حنبل في التفسير. جمع وتخريج أحمد أحمد البزرا، ومُحَمَّد بن برزق بن الطرهوني، وحكمت بشير ياسين. الطبعة الأولى. مكتبة المؤيد. السعودية. ١٤١٤ هـ - ١٩٩٤ م.: ٣ /٣٢٩.
(٥) الفتوحات الإلهية بتوضيح تَفْسِير الجلالين للدقائق الخفية. للعَلاَّمَة الشيخ سليمان بن عمر العجيلي الشافعي المشهور بالجمل. المتوفى سنة ١٢٠٤ هـ. مطبعة الاستقامة. القاهرة. (د. ت): ٣ /٣٣٣.
(٦) ٤/ ١٧٨٨ كتاب التفسير. باب تفسير سورة القصص.
1 / 7
القصة لغة: " من القص، فعل القاصِ إذا قصَّ القِصَصَ، والقصة معروفة ويقال: في رأسه قصة، يعني الجملة من الكلام، مثل قوله تعالى: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص﴾ «١»، أي: بينت لك أحسن التبيان ... ويقال:
قصصت الشيء، إذا تتبعت أثره شيئًا بعد شيء ومنه قوله تعالى: ﴿وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ﴾ «٢»، أي: اتبعي أثره، وقد يأتي القصُّ والقصصُ والقصَصُ الصدر من كل شيء، وقيل: هو وسطه " «٣» .
والقصة الخبر، وهو القَصص، وقصَّ عليَّ خبره يقُصه قصًا وقصصًا، والقصص الخبر المقصوص، وضِع موضع المصدر حتى صار أغلب عليه، والقِصص بكسر القاف جمع القصة التي تكتب، وتقصص الخبر تتبعه، والقِصة الأمر والحديث، واقتصصت الحديث رويته على وجه، كأنه يتتبع معانيها وألفاظها، ويقال: خرج فلان قصصًا في أثر فلان وقصًا، وذلك إذا اقتصَّ أثره «٤» .
_________
(١) سُوْرَة يُوْسُف: الآية ٣.
(٢) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ١١.
(٣) أساس البلاغة. جار الله محمود بن عمر الزَّمَخْشِرِي أبو القَاسِم. ت ٥٣٨ هـ. تحقيق: عَبْد الرحيم محمود. مطبعة أورفاند بالقاهرة. ط١. ١٩٥٣ م: ص ٧٧٠ – ٧٧١. لسان العرب. جَمَال الدِّيْن مُحَمَّد بن مكرم بن منظور الأفريقي المصري أبو الفضل. ت ٧١١ هـ. الطبعة الأولى. دار صادر. بيروت. لبنان. ١٩٦٨ م: مَادة (قصص) ٧ /٧٣ –٧٥.
(٤) ينظر لِسَان العَرَب: مَادة (قصص) ٧/٧٤.
1 / 8
وقيل: إنه المصدر، وقيل: إنه مفعول به، وعلى القول الأول يكون المعنى ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَص﴾ «١»، أي: نحن نقصُّ عليك أحسن الاقتصاص كما يقال: نحن نكلمك أحسن التكليم ونبين لك أحسن البيان. وعلى القول الثاني يكون المعنى، نحن نقصُّ عليك أحسن ما يقصُّ، أي: أحسن الأخبار المقصوصات، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا﴾ «٢»، ويدل على هذا وأنه هو المراد قوله تعالى: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ﴾ «٣» .
أي: المراد خبرهم، ونبأهم وحديثهم، وليس المراد مجرد المصدر فالقولان متلازمان في المعنى، ولهذا يجوز أن تكون كلمة (القصص) قد جمعت بين معنى المصدر ومعنى المفعول به، لأن فيه كلا المعنيين، بخلاف المواضع التي يباين فيها الفعل المفعول به، فإنه إذا انتصب بهذا المعنى وامتنع المعنى
الآخر «٤» .
والذي يبدو أن دلالة (قص) بمعنى القطع هي الدالة على اقتطاع القصة من الكلام.
_________
(١) سُوْرَة يُوْسُف: الآية ٣.
(٢) سُوْرَة النِّسَاءِ: الآية ١٢٢.
(٣) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٢٥.
(٤) ينظر الكشاف عَنْ حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التَّأؤيِل. أبو القَاسِم جار الله محمود بن عمر الزمخشري. ت ٥٣٨ هـ. ط٢. دار الكِتَاب العربي. بيروت. لبنان. (د. ت.): ٢ /٣٠٠. مجموع فتاوى أحمد بن تيميه. ت ٧٢٨ هـ. جمع وترتيب: عَبْد الرَّحْمَن بن مُحَمَّد بن قَاسِم العاصمي النَّجْدِي الحَنْبَلِي وساعده ابنه مُحَمَّد. مطبعة الحكومة بمَكّة المُكَّرمة ١٣٨٦ هـ: ١٧ /٢٢.
1 / 9
وللقصة تعاريف كثيرة لدى العلماء، ومنها ما ذكره الرازي بأنها:
" مجموع الكلام المشتمل على ما يهدى إلى الدين ويرشد إلى الحق ويأمر بطلب النجاة " «١» .
فالقرآن الكريم أطلق لفظ القصص على ما حدث من أخبار القرون الأولى في مجالات الرسالات السماوية، وما كان يقع في محيطها من صراع بين قوى الحق والضلال وبين مواكب النور وجحافل الظلام «٢» .
وقيل: " هي كشف عن آثار وتنقيب عن أحداث نسيها الناس أو غفلوا
عنها، وغاية ما يراد لهذا الكشف هو إعادة عرضها من جديد لتذكير الناس بها، ليكون لهم منها عبرة وموعظة " «٣» .
والذي يبدو أن التعريف الاصطلاحي للقصص يعني أحاديث الأخبار الماضية، أو غير المرتبطة بزمن محدد. ولكنها في الَقُرْآن الكَرِيم دالة على التاريخ الماضي حصرًا.
المطلب الثالث ترتيب سورة القصص في المصحف وعدد آياتها وكلماتها وحروفها
قيل: " إن الإجماع والنصوص المترادفة على أن ترتيب الآيات توقيفي لا شبهة في ذلك " «٤» .
أما ترتيب السور أهو توقيفي أم باجتهاد الصحابة؟ ففيه أقوال:
_________
(١) مفاتيح الغيب المعروف بالتفسير الكبير. وبتفسير الرَّازِي. فَخْر الدِّيْن مُحَمَّد بن عمر بن حسين القرشي الطبرستاني الشافعي الرَّازِي أبو عَبْد الله. ت ٦٠٦ هـ. المطبعة البهية المصرية بميدان الأزهر. مصر. ط٣. (د. ت.): ٨/ ٨٣ -٨٤.
(٢) ينظر القصص الَقُرْآني في منظومه ومفهومه. عبد الكريم الخطيب. بيروت، لبنان. (د. ت) .: ص٤٠.
(٣) المصدر نفسه: ص ٤٨.
(٤) الإتقان في علوم القرآن: ١/٦٠.
1 / 10
فجمهور العلماء أنه حصل ترتيب سوره باجتهاد من الصحابة الكرام، منهم الإمام مالك، واستدل أصحاب هذا الرأي باختلاف مصاحف السلف في ترتيب السور، فمنهم من رتبها على النزول، وهو مصحف علي (﵁) حيث كان أوله: أقرأ، ثُمَّ المدثر ... ثُمَّ النساء، ثُمَّ البقرة ثُمَّ آل عمران. ومنهم من رتبها ترتيبًا أخرًا كمصحفي أبيّ بن كعب، وعَبْد الله بن مسعود.
وهناك من قال إن ترتيب السور في القرآن توقيفي كترتيب الآيات «١» .
إن ترتيب سورة القصص بين سور القرآن هو أنها السورة الثمانة والعشرون، وعدد آياتها ثمانية وثمانون آية، ولا يماثلها في عدد آياتها إلا سورة
(ص)، وعدد حروفها خمسة آلاف وثمانمائة حرف «٢»، وعدد كلماتها ألف وأربعمائة وكلمة واحد «٣» .
وقد ذكر ابن الجوزي أعدادًا أخرى مقاربة لا تخرج عما أوردناه هاهنا «٤» .
المطلب الرابع فضلها
_________
(١) الإتقان في علوم القرآن: ١/٦١-٦٢.
(٢) ينظر لباب التَّأويِل في معاني التنزيل (المُسَمَّى: تَفْسِير الخازن) . علاء الدِّيْن عَلِيّ بن مُحَمَّد بن إبراهيم البغدادي الصوفي المعروف بالخازن. ت ٧٢٥ هـ. الطبعة الثانية. مطبعة مصطفى البابي الحلبي. ١٩٥٥ م: ٣/٤٢٣.
(٣) بصائر ذوي التمييز: ١/٣٥٣.
(٤) فنون الأفنان في عجائب عُلُوْم القُرْآن. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن الجوزي. ت ٥٩٧ هـ. تحقيق: د. رشيد عَبْد الرَّحْمَن العبيدي. مطبعة المَجْمَع العلمي العراقي. ١٩٨٨م: ص١١٧-١١٨.
1 / 11
ذكر الطبرسي في مجمع البيان رواية عن أبي بن كعب (﵁) عن النبي (ﷺ) قال: «من قرأ طسم القصص أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بموسى وكذّب به، ولم يبق ملك في السموات والأرض إلا شهد له يوم القيامة، أنه كان صادقًا أن كل شيء هالك إلا وجهه» «١» والحديث الآخر: «يا علي من قرأ طسم القصص أعطاه الله مثل ثواب يعقوب وله بكل آية مدينة عند الله» «٢»، ومعظم الأحاديث في فضل سورة القصص من الموضوعات كما صرح بذلك الإمام عبد الرحمن بن الجوزي في كتابه «٣» .
_________
(١) مَجْمَع البَيَان في تَفْسِير القُرْآن المعروف بتفسير الطَّبَرْسِي. الفَضْل بن الحَسَن بن الفضل الطَّبَرْسِي الطُّوْسي السَّبْزَواري أبو عَلِيّ. ت ٥٤٨ هـ. تصحيح وتعليق: هاشم الرسولي وفضل الله الطباطبائي اليَزْدِي. شركة المعارف الإسلامية. إِيْرَان. ط١. ١٣٧٩ هـ: ٧/٣٣٨، بصائر ذوي التمييز: ١/٣٥٨.
والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث. وقد أورده الطرابلسي ت ١١٧٧ هـ، في الكشف الإلهي عن شديد الضعف والموضوع. تحقيق د. مُحَمَّد محمود أحمد بكاء. الطبعة الأولى. مكتبة الطالب الجامعي. الريان. مكة المكرمة. ١٤٠٨ هـ: ١ /٩٨٦.
(٢) ينظر الكشاف، ٣/١٩٤. والحديث لم أقف عليه في كتب الأحاديث، وقد ضعفه الحافظ ابن حجر في تخريجه لأحاديث الكشاف.
(٣) الموضوعات. أبو الفرج عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد بن عثمان بن عَلِيّ بن الجوزي القرشي. ت ٥١٠ هـ. تحقيق: عَبْد الرَّحْمَن مُحَمَّد عثمان. الطبعة الأولى. المكتبة السلفية. المدينة المنورة. ١٩٦٦ م: ٢/٢٣٢-٢٣٤.
1 / 12
والذي يبدو أن لكل سورة في الَقُرْآن الكَرِيم فضل خاص بها، وإن كانت جميع سور الَقُرْآن الكَرِيم لها فضيلة، ولكن وردت أحاديث في فضائل سور وآيات مخصوصات كالإخلاص، والكرسي، ولم أقف على حديث صحيح في فضل سُوْرَة الْقَصَصِ.
المطلب الخامس: سورة القصص أمكية هي أم مدنية؟
سُوْرَة الْقَصَصِ مكية كلها في قول الحسن وعكرمة وعطاء، وقال مقاتل: فيها من المدني قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ ءاتَيْنَهُمُ الْكِتَبَ مِنْ قَبْلِهِ﴾ إلى قوله تعالى: ﴿لا نَبْتَغِي الْجَاهِلِين﴾ «١»، وذكر السيوطي أنها نزلت هي وأواخر الحديد في أصحاب النجاشي «٢» .
_________
(١) سُوْرَة الْقَصَصِ: من الآيات ٥٢ - ٥٥.
ومقاتل ممن لا يحتج بقوله في التفسير، فقد كذبوه وهجروه ورموه بالتجسيم.
ينظر: تقريب التهذيب. أبو الفضل أَحْمَد بِن عَلِيّ بِن حَجَر العَسْقلاني الشافعي. (٧٧٣ - ٨٥٢ هـ) . تحقيق: مُحَمَّد عوامة. الطبعة الأولى. دار الرشيد. دمشق. سوريا. ١٤٠٦ هـ - ١٩٨٦ م: ص ٤٥٤.
(٢) ينظر الإِتقَان فِي علُوم القُرْآن: ١ / ١٦.
1 / 13
وقال ابن عباس ﵄ وقتادة: مكية إلا آية نزلت بين مكة والمدينة «١»، وقال ابن سلام: نزلت بالجحفة «٢» في وقت هجرة النبي (ﷺ) إلى المدينة، وهي قوله ﷿: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَاد﴾ «٣» .
_________
(١) ينظر الكَشَّاف: ٣/ ١٦٤. زاد المسير في علم التفسير. جَمَال الدِّيْن عَبْد الرَّحْمَن بن عَلِيّ بن مُحَمَّد التَّيْمِي البِكْري القُرَشي البَغْدادي الحَنْبَلِي. المعروف بابن الجَوْزِي أبو الفَرَج. ت ٥٩٧ هـ. المكتب الإسلامي للطباعة والنشر. بيروت. ط٣. ١٤٠٤ هـ - ١٩٩٠ م: ٦/٢٠٠. مَفَاتِيح الغَيْب: ٢٣/ ٢٢٤. الجَامِع لأِحْكَام القُرْآن (المعروف بتفسير القرطبي) أبو عَبْد الله مُحَمَّد بن أحمد القرطبي. ت ٦٧١ هـ. الطبعة الثالثة. تحقيق: أحمد عَبْد العليم البردوني. مركز تحقيق التراث. الهيئة المصرية العامة للكتاب. ١٩٧٨ م: ٦/ ٤٩٦٢. البَحْر المُحِيْط. أثِيْر الدِّيْن مُحَمَّد بن يوسُف بن عَلِيّ بن يوسُف بن حَيَّان الأَْندَلُسيِ أبو عَبْد الله. الشهير بابن حَيَّان وبأَبي حَيَّان. ت ٧٥٤ هـ. مطبعة السعادة. مصر. ١٣٢٩ هـ: ٧ /١٠٤.
(٢) الجحفة: موضع بين مكة والمدينة. معجم البلدان شهاب الدِّيْن ياقوت بن عَبْد الله الحموي الرومي البغدادي أبو عَبْد الله. ت ٦٢٦ هـ. دار الفكر للطباعة والنشر. بيروت. (د. ت): ٣ /١١٤.
(٣) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٨٥.
1 / 14
إن سياق النص في سورة القصص الشريفة يدل على مكيتها وكونها ذات صبغة مكية من خلال الضوابط التي وضعها العلماء للتميز بين المكي والمدني، ولما اشتملت عليه من ذكر القصص بإسهاب، ومن الدلائل على توحيد الله عزل وجل بأسلوب الجملة الطويلة، وخلوها من الجملة القصيرة. وتكرار ذكر الله ﷿، واليوم الآخر فيها، وذلك من ضوابط السور المكية.
المطلب السادس: الأغراض العامة لسورة القصص ومقاصدها
قبل التحدث عن غرض السورة، ينبغي أن نبين الظروف التي نزلت فيها، لأن معرفتنا لذلك تفتح لنا الباب الواسع أمام معرفة أغراض السورة وأهدافها التي من أجلها أنزلت.
كما هو معلوم أن السورة مكية نزلت والمسلمون في مكة قلة مستضعفة، وقد لاقى رسول الله (ﷺ) وأصحابه (﵃) ألوانًا من العذاب، فقد مات تحت العذاب من مات، وسلم من سلم، في حين نجد تجمع المال والقوة العددية في يد المشركين، والمسلمون لا يملكون سوى قلوبًا عامرة بالإيمان، يصارعون بها كل جبروت قريش «١»، فنرى تشابهًا واضحًا بين الظروف التي أحاطت بالمسلمين، مع الظروف التي مر بها سيدنا موسى (﵇) مع قومه، حيث تسلط جبروت فرعون والأقباط على سيدنا موسى (﵇) - وبني اسرائيل يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم، فجاءت هذه السورة بأغراض مهمة، يمكن أن نعد منها:
_________
(١) ينظر السيرة النبوية: عَبْد الملك بن هشام بن أيوب الحِمْيَري المَعَافِري البَصْري أبو مُحَمَّد ت ٢١٣ هـ تقديم وتعليق: طه عَبْد الرَّؤُوْف سَعَد. دار الجيل. بيروت. ١٤١١ هـ: ٢ /٢٥٤.
1 / 15
أولًا: تسلية الرسول (ﷺ) وأصحابه الكرام وشد أزرهم، ليعلموا أن النصر حليفهم مهما طالت ساعة إعلانه وكذلك لتبين لهم حقيقة مهمة وهي ان كل اصحاب الرسالات السماوية السابقة لم يكن طريق الدعوة الى الله أمامهم معبدًا ممهدًا، بل جاهدوا وقاتلوا وقَتلوا وعُذبوا حتىأتى نصرالله، قال تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيْبٌ﴾ «١» .
وربما يسأل سائل: لماذا هذا العذاب الذي يلقاه الأنبياء وأتباعهم؟ والجواب عن ذلك أن الأنسان بطبيعته مكلف بالعبادة لله، فهو مقرون بهذه التكلفة فلا عبودية بدون تكليف، والتكليف يستلزم تحمل المشاق ففي كلّ الدعوات إلى الله هناك تكليف وهناك تحمل مشاق لحكم ثلاث، هي:
١- لاثبات صفة العبودية لله ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ﴾ «٢» .؟
٢- لإثبات صفة التكليف المتفرعة من صفة العبودية فما من مؤمن يبلغ سن الرشد إلا وهو مكلف من الله ﷿ بتحقيق شرعه وعليه أن يتحمل في سبيل ذلك كثيرًا من المشاق والأذى «٣»
٣- لإظهار صدق الصادقين وكذب الكاذبين ﴿وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَذِبِينَ﴾ «٤» .
_________
(١) سُوْرَة البَقَرَةِ: الآية ٢١٤.
(٢) سُوْرَة الذَّارِيَاتِ: الآية ٥٦.
(٣) ينظر فقه السيرة. مُحَمَّد سعيد رمضان البوطي. ط٧. مَكْتَبَة الشرق الجديد. بغداد (د. ت): ص٨٥-٨٦.
(٤) سُوْرَة العَنْكَبُوتِ: الآية ٣.
1 / 16
ثانيا - نزلت هذه السورة لتضع الموازين الحقيقية للقوى والقيم، ولتبين أن هناك قوة واحدة مؤثرة في الكون ألا وهي قوة الله وحده وأن هناك قيمة واحدة في الكون هي قيمة الإيمان. وجاءت السورة لتقرر حقيقة مهمة ثابتة على مرّ العصور أن النصر لا يأتي بالضرورة مع الكثرة والقوة وأن النصر يأتي بأمر الله وحده فهو الناصر الذي ينصر عباده، فمن كانت معه قوة الله فلا خوف عليه ومن كانت قوة الله عليه فلا أمن له ولا طمأنينة ولو ساندته جميع قوى الكون «١» . ومن كتب الله عليه العذاب لا تنفعه كل استحكامات العالم. ففرعون لما أخبره الكهنة بان قتله سيكون على يد طفل من بني إسرائيل «٢»، أستخدم نفوذه وجبروته وسلطانه في قتل الأطفال من بني إسرائيل ووضع الأعين من نساء مصر لكي يخبرنه عن أي مولود لم يصل إليه خبره ولكن يقظته وحذره وسلطانه وعيونه لم تمكنه من إزالة الخطر عن نفسه ولم تدفع عنه خطر الطفل الصغير المجرد من كل قوة إلا من قوة الله ﷿ فهي القوة الحقيقية في الكون فكان هذا الطفل الذي تربى في حجر فرعون سببًا في إنهاء جبروت فرعون وسلطانه.
_________
(١) ينظر في ظلال الَقُرْآن. سيد قطب. الطبعة الثانية. دار إحياء التراث العربي. بيروت. ١٩٧١ م: ٦ /٣١٧.
(٢) تفسير القرآن العظيم. الإِمَام الحَافِظ عماد الدِّيْن أبو الفداء إسماعيل بن كثير القرشي الدمشقي. ت ٧٧٤ هـ. ط١. دار مَكْتَبَة الهلال. بيروت. لبنان. ١٩٨٦ م: ٢ /٢٢٥.
1 / 17
ثالثًا - بعد أن بين الله جل وعلا نهاية طغيان الملك والقوة أمام قوة الله تنتقل الآيات لتبين حقيقة أخرى وغرض آخر وهو نهاية طغيان الكفر، ثُمَّ نهاية طغيان المال وذلك من خلال قصة قارون مع قومه وكان قارون من قوم موسى قال تعالى: ﴿إِنَّ قَرُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِم﴾ «١» فخرج على قومه بهيئة المتبختر وهو يحسب انه أوتي هذا المال والعلم عن ذكاء ودهاء فانقسم قومه على فريقين فريق فتن فيه وتمنوا مكانه:
... ﴿قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَوةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَرُون﴾ «٢» .
... وفريق آخر هم عباد الله الصالحين لم يهتزوا بهذه المظاهر الزائفة ﴿وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ﴾ «٣» .
... وهنا تتدخل قوة الله فتخسف به وبداره الارض فلا يغني عنه ماله وعلمه من الله شيئًا. وقصة قارون مرتبطة كلّ الارتباط بنهاية فرعون وطغيانه، فالقصتان تعبران عن استمرار الانذار الإلهي.
رابعًا - كذلك تعزز السورةغرضًا آخرًا، وهو التاكيد على أن الدنيا زائفة فانية، وأن الدار الباقية هي دار القرار (الجنة) جعلها الله للذين لا يريدون علوًا في الارض ولا فسادًا، وأن العاقبة للمتقين.
خامسًا - في ختام السورة هناك وعدٌُ وبشارة للرسول (ﷺ) وصحبه الكرام بنصر الله والرجوع الى مكة فاتحًا منتصرًا لنشر دعوة الاسلام الى أرجاء المعمورة وإمتلاك زمام الامور في الجزيرة العربية وانتقال مركز القوى من يد الشر الى الخير والى الابد قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ﴾ «٤» .
_________
(١) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٧٦.
(٢) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٧٩.
(٣) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٨٠.
(٤) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٨٥.
1 / 18
. من كل ما سبق يمكن أن نستفيد دروسًا وعبرًا تفيدنا في تجاوز حالة الضعف والهوان التي يمر بها المسلمون اليوم.
... واليوم نرى تخاذل كثير حكام المسلمين اليوم أمام أعداء الاسلام اليهود والامريكان منبهرين بما تمتلكه أمريكا من قوه عسكرية وإقتصادية فأشاعوا وهولوا هذه القوة حتى أصبح بعض هؤلاء الحكام أبواق دعاية لهذه القوة الغاشمة. فلو كان النصر لا يأتي الأ مع القوة والمال لاستسلم سيدنا محمد (ﷺ) وصحبه الكرام وهم قلة أمام قوة قريش المادية والعددية ولاستسلم موسى (﵇) من قبل وبني أسرائيل أمام جبروت فرعون وقوة الاقباط فقد كانت بأيديهم خزائن مصر، نعم إن المال والقوة من أسباب النصر، ولكن الناصر هو الله، فلو وعى المسلمون اليوم هذه الحقيقة جيدًا لما وقفت أمام دعوتهم كل قوى الشر، لأنهم أصحاب دعوة سامية ورسالة الهية إن هم تمسكوا بها وقد جاء ذلك واضحًا في نهاية سورة القصص: ﴿وَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ «١» .
فقد حكم الله جل وعلا بأنه لا سلطان إلا سلطان الله وكل قوة هالكة الأّ قوة الله. ولادلالة (إليه ترجعون) واضحة فيما نذهب إليه من رجوع النصر إلى هذه الأمة.
المطلب السابع: التناسب والتناسق بين سورة القصص وما قبلها وما بعدها
لا ريب أن فهم العلاقة التناسبية والروابط المتناسقة بين كل سورة قرآنية وما قبلها وما بعدها مما يعين على فهم أدق لجوهر السورة نفسها إذا ما أخذنا بالرأي الراجح القائل إن الصحابة لم يضعوا سورة معينة في موضع إلا بإشارة من
رسول الله (ﷺ) . والرسول (ﷺ) لم يضعها إلا بوحي إلهي.
_________
(١) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٨٨.
1 / 19
ولذا نجد أن هناك وشائج بين أواخر سورة النمل وأوائل سورة القصص بحديثهما معًا عن تلاوة القرآن، ﴿وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ﴾ (١)، و﴿تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ*نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَأِ مُوسَى وَفِرْعَوْن﴾ «٢»، وحديثهما عن منة الله تعالى ﴿وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّه﴾ «٣»، ﴿وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ «٤»، وأما قوله تعالى: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ﴾ «٥»، فقد تناسب مع قوله تعالى: في سُوْرَة الْقَصَصِ ﴿إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا﴾ «٦» .
_________
(١) سورة النمل: الآية ٩٢.
(٢) سورة القصص: الآية ٢-٣.
(٣) سورة النمل: الآية ٩٣.
(٤) سورة القصص: الآية٥.
(٥) سورة النمل: الآية ٩٣.
(٦) سُوْرَة الْقَصَصِ: الآية ٤.
1 / 20