قالت زوجتي الشرعية: ليس بعد، ولن تدخل الجنة قبل أن يشفع لك المسيح وتسدد ديونك في الدنيا. وقال الرجل ذو النمش الأسود في وجهه: ألم تسدد ديونك بعد؟ قلت: أمهلني عاما واحدا وسوف أطلب من الله أن يمد أجلي حتى أسدد الديون. وناولته الكأس لنشرب نخب الصداقة. رفضها وقال بلهجة أجنبية إن الخمر حرام، وإنه أمر بإلقاء الخمور من نوافذ الطائرة. ولماذا تحرم ما حلل الله يا خواجة؟ انظر إلى جنة الله وما فيها من خمور تجري كالأنهر وحوريات بياضهن كالشهد؟ وأطل بعينيه من فوق السور ولم ير شيئا، وقال: أين هي الجنة يا سيدنا الإمام؟ قلت: انتظر. إن الصبر طيب، ولا يمكن لأحد أن يتعجل الله، وسوف ندخل الجنة معا بإذن الله. وقال: اذهب وحدك وسأنتظرك هنا بالطائرة، وموعد الإقلاع في السادسة تماما بتوقيت جرينتش، واعلم أنني في انتظارك لأطير بك لو أصابك مكروه لا قدر الله.
تأبطت زوجتي الشرعية ذراعي وسرنا معا حتى المسيح. همست في أذنه بلغة لم أفهمها. هز المسيح رأسه، وشفع لي، وأمرنا بالسير إلى الصراط المستقيم. وحين وضعت قدمي على الصراط لم أستطع السير قيد إصبع، وقالت زوجتي الشرعية: هنا أتركك في رعاية الله والرسول . وتركتني وجسدي يرتعد. ورأيت امرأة سوداء مقبلة تجري فوق الصراط. أمسكتني من يدي قبل أن أقع، وعرفتها من وجهها، كانت جاريتي قبل أن يفتح الله لي أبواب الرزق. هربت منها في الليل قبل أن تلد ابنتي. قلت لها: أنت حبي الأول والأخير. وسرت إلى جوارها تسندني من ناحية اليمين فأميل ناحية اليسار، وتعود تسندني ناحية اليسار فأميل إلى اليمين، حتى أعياها ذلك وأعياني، فقلت لها: يا جواهر، إن أردت سلامتي فاستعملي معي قول القائل في الدنيا: ستي إن أعياك أمري فاحمليني زقفونة. قالت: وما زقفونة؟ قلت: أن يطرح الإنسان يديه على كتفي الآخر، ويمسك بيديه ويحمله وبطنه إلى ظهره. أما سمعت قول الجحجول من أهل الدنيا: صلحت حالتي إلى الخلف حتى صرت أمشي إلى الوراء زقفونة. قالت: ما سمعت بزقفونة ولا الجحجول، ولكني سأحملك إلى الرسول محمد. وحلمتني فوق صدرها كالطفل، فلما وصلنا النبي عليه السلام قال: وهبنا لك هذه الجارية، فخذها كي تخدمك في الجنة. حين صرت إلى باب الجنة قال لي رضوان: هل معك جواز؟ قلت: لا. قال: لا سبيل للدخول إلا به. وانتظرت طويلا تحت الشمس الحارقة ورأسي عار، وموعد الطائرة أزف، ثم لمحت على باب الجنة شجرة صفصاف. قلت: أعطني ورقة من هذه الصفصافة حتى أرجع إلى النبي بسرعة فآخذ عليها جوازا. قال: لا أخرج ورقة من الجنة إلا بإذن من صاحب الجلالة. قلت: لو رآني فسوف يعرفني، وكان في الدنيا دائما معي، وكان لي في الدنيا أعوان كثيرون في حزب الله، وأصدقاء بلا عدد داخل البلاد وخارج البلاد من الملوك والزعماء، وجميعهم جاءوا وساروا في جنازتي، كان المشهد مهيبا. ألم تر الصورة على غلاف النيوزويك؟ قال رضوان: ما سمعت عن النيوزويك إلا الآن. قلت: إذا كنت لا تعرف النيوزويك فأنت لا تعرف العظماء ولا القوى العظمى.
انتظار الأم
كان الصوت يدوي في أذني كالصمت، وأنا واقف تحت لهيب الشمس ورأسي عار. ألم غامض في صدري كالجرح أو الثقب الغائر حتى القلب، وباب العالم الآخر مغلق ، والعالم الأول والثاني والثالث والرابع كلها تسير بدوني، وجماهير الناس تهتف لغيري، وصواريخ العيد تفرقع، وحارس الجنة لا زال ينظر في جواز سفري، عيناه تفحصان صورتي من تحت نظارة سوداء، يسألني السؤال وراء السؤال. قلت: معي توصية من النبي، وأريد لقاء الله. وسألني: هل عندك موعد سابق؟ قلت: لا، ولكنه سيعرفني حين يرى وجهي. وسألني: أهي مقابلة شخصية أم لمصلحة عامة؟ قلت: لمصلحة عامة. وسكت عن الكلام، لم أعرف ماذا أقول. قال: المصلحة العامة لا تكون سرا. يرمقني من تحت النظارة السوداء بنظرة متشككة، كرئيس الأمن يتدخل فيما لا يعنيه. تركني أمام الباب أنتظر طويلا، وأمسك في يده سماعة التليفون، وانهمك مع امرأة في حديث هامس، يضحك ويقهقه بصوت عال ويخاطبها بلغة المذكر. انتظرت صامتا لا أعكر عليه صفوته، وحين انتهى رآني واقفا وقال: أتزال هنا؟ قلت: أرجوك دعني أقابله. قال: لماذا تريد أن تقابله؟ قلت: لأطلب تأجيل موتي عاما واحدا. قال: عام كامل؟ يا لك من مفتر. قل شهرا أو شهرين. قلت: يا سيدنا رضوان لن يكفي شهر لإعادة تسليح الجيش، وتسديد الديون، ومقاومة الهزيمة في نفوس الناس. لا أريد هذا العام من أجل لذائذ الحياة الدنيا، ولكن من أجل الله والوطن.
دق جرس التليفون، وبدأ الحديث مع امرأة أخرى بصوت عال حاد النبرة، وأنهى الحديث بسرعة، وعرفت أنها زوجته الشرعية. قلت قبل أن يدق التليفون مرة أخرى: لا زلت أنتظر أمرك يا سيدنا رضوان. وكان قد انهمك في قراءة الأوراق فوق مكتبه، ورفع إلي عينيه من تحت النظارة السوداء، وقال: فوت علينا بكرة. وأسعفتني تجاربي الماضية في مثل هذه المواقف مع حراس الأمن، وأخرجت من جيبي شيئا على شكل الهدية، وقلت: خذ هذه هبة مضاعفة قدمها لسيدك، واستعجله كي يقابلني اليوم؛ فأنا وقتي ضيق، وعلي أن ألحق بالطائرة. نظر رضوان في الساعة وهو يدس الهبة في جيبه، وقال: لم يبق على الطائرة إلا دقائق، ويمكنك الإسراع، وسأرسل إليك استدعاء بالبريد إذا تركت لي عنوانك. ورمقته بنظرة متشككة ، لكني عدت وتذكرت أنه سيدنا رضوان، ولا يمكن أن يكذب، وإذا وعد فلا بد أن يفي بوعده. وتركت له عنواني وصرت أجري إلى المطار، وفي أعماقي إدراك أنه لن يرسل إلي شيئا، وتجاوزت مرحلة اليأس وأبطأت السير، ولم يعد يهمني أن تفوتني الطائرة، وجلست مرهقا، وما إن وضعت رأسي على الأرض حتى نمت، ولم أسمع صوت الطائرة حين هبطت ثم أقلعت بدوني، وصحوت وأنا أعرف أن لا شيء سيأتيني، ولن يبعث إلي رضوان بالرسالة، وأنا أيضا لم أتوقعها، وإذا رأيته قادما نحوي ومعه الرسالة فلن أصدق أنها لي أنا، وإذا كانت لي فلا بد أن هناك خطأ في حسابات الله، وإن رأيته قادما وفي يده الرسالة فلن أمد يدي لآخذها، وسأقول له: استمر في طريقك؛ فأنت تبحث عن رجل آخر غيري، ولا يمكن أن تكون الرسالة لي؛ فأنا لا أستحقها. وابتسمت في راحة هانئة زاهدة في كل شيء حتى لقاء الله، وقلت: يا ربي أريد حقي فقط دون زيادة أو نقصان، وقد امتلكت الشجاعة لأعلن على الملأ تطبيق شريعتك، ونفذت أحكامك كلها، وحدود الزنا والسرقة وإلقاء الخمور في النهر، ولم يملك أحد شجاعتي ممن يتقربون إليك وعيونهم تبربش، وأصواتهم تهمس، فلا أحد منهم يقف إلى جوارك بمثل ما وقفت، ولا يطبق شريعتك بمثل ما طبقت.
أمسكت وجهي بيدي وعيناي تدمعان، ولم أسمع الصوت من خلفي يأمرني بصوت عال: انهض وارفع ذراعيك إلى أعلى. ولم ألتفت ورائي مدركا أن لا أحد يخاطبني بهذه اللهجة الآمرة إلا من هو أعلى مني. ونهضت رافعا ذراعي غير مستدير منتظرا الطعنة في ظهري، لكن الصوت أمرني بأن أستدير، ولم أصدق أن أحدا حين يرى عدوه من ظهره يعطيه الفرصة للاستدارة؛ فالاغتيال من الظهر أسفل من الاغتيال من الوجه، ولا يعني الأمر بالاستدارة إلا الاستهانة بالرجل، والاستهانة بالرجل العادي أشد من الإهانة، فما بال الإمام؟! ولم أستدر ولم أعطه وجهي؛ فأنا أريد أن أموت إماما مغتالا وليس إماما مهزوما. وبقيت في مكاني واقفا رافعا عيني وذراعي إلى فوق، ثم سقطت منكفئا على وجهي وفوق شفتي ابتسامة المقاتل حتى آخر رمق، والزاهد في شهوات الدنيا حتى الموت. سمعت حفيف الشجر في أذني، ونقيق الضفادع كاللحن الراقص، ونسمة الليل رطبة منعشة محملة برائحة البحر، وأنا ثابت في مكاني لا أجري ولا ألهث؛ فالوقت ليس ضيقا، ولن يفوتني شيء هام أو غير هام، ولا أشعر بألم ولا يأس، ولا أفكر في حزب الله أو حزب الشيطان، ولا أرى أحدا إلا نفسي حين كنت طفلا وأمي ترضعني، واللبن دافئ ناعم يسيل من زاوية فمي، وفجأة تصيبني الشرقة، وتصدر عني الشهقة. أفتح فمي وأغلقه، وأرفس بيدي وقدمي في الهواء، ووجهي أزرق مختنق، وأكاد أموت في تلك اللحظة، فلا يكون في الدنيا إمام ولا خليفة الله في الأرض، لولا أن أمي تضربني بكفها المشققة الكبيرة فوق ظهري، وتطرد اللبن من قناة الهواء، أو تطرد الهواء من قناة اللبن، ويعود الدم إلى وجهي، ويعود إلي الوعي، فأرى وجه أمي وتعود ذاكرتي فجأة، وأدرك أنني لم أرها منذ عشرين عاما. أنهض فوق قدمي أسد الجرح بيدي أمنع نزيف الدم، وأسير في الطريق القديم أعرفه لا أخطئه. أدق بابها الخشبي الداكن، وأسمع الصرير كالساقية العتيقة، ومن وراء الباب أسمع صوت بطن قدمها تزحف فوق الأرض، وصوتها في أذني أعرفه لا أخطئه: مين؟ وأقول: أنا. ومن وراء الخشب أسمع قلبها يدق، وأنفاسها تلهث، ويدها الكبيرة ترتعد وهي تفتح الباب، ودموعها كالسحابة البيضاء فوق عيون تبربش بغير رموش، وظهرها محني. كانت رموشها طويلة حين رأيتها في آخر لقاء، وظهرها مرفوع، وقالت تحوطني بذراعيها ودموعها تبلل البدلة الرسمية من الصوف الغالي: عشرون سنة يا بني لا أراك؟ وقلت: مشاغل يا أمي، ومشاكل بغير حل لا يقدر عليها إلا سبحانه. قالت: وجهك مخطوف يا ابني كأنك لم تأكل منذ عشرين عاما؟ وسارت إلى المطبخ بخطواتها السريعة القديمة وظهرها القديم المرفوع، وجسمها خفيف لا تكاد قدماها تلامسان الأرض، وعادت تنظر إلي بعيون تلمع بالفرح، أهدابها طويلة، وفوق يديها تحمل الصينية عليها الفطير وعسل النحل وحليب الصباح. أقبلت نحوي تسير وأنا جالس فوق الكنبة القديمة بجوار النافذة، حيث كنت أجلس وأنا طفل، أرقب النجوم وأرى وجه الله بين السحب كوجه أبي. وسمعت ضربات قلبها وهي تقترب مني، وعيناها تلمعان بالفرح، ويداها تهتزان، والصينية فوق يديها تهتز، ولم يبق بينها وبيني إلا ثلاث خطوات، ورأسها من الفرحة يدور، والدنيا تدور به، وخطت الخطوة الثانية، ولم تبق إلا الخطوة الأخيرة، ومدت قدمها إلى الأمام لكن قدمها لم تمتد. رأيت جسمها يسقط وهي واقفة أمامي، لا تبعد عني إلا امتداد الذراع. ومددت ذراعي لأمسكها لكن يدي لم تمتد، والمسافة بيننا تمتد. وكلما أمد ذراعي لأحوطها تزداد بيننا المسافة، وتصبح هي أبعد مما كانت، وأنا أبعد مما كنت.
لقاء الزوجة الأخيرة والابنة غير الشرعية
لم أكن أتعجل رحيله داخل الصندوق؛ فهو رغم الموت يضيف إلى حياتي نوعا من «الحوار»، وكان لا «يحاورني» في حياته، ويكتب عن «الحوار» المقال وراء المقال. صامت طول الوقت، أو يتكلم طول الوقت ولا شيء بينهما. لا يسمع إلا نفسه، ولا يرى إلا صورته داخل البرواز فوق مقبرة من الرخام، ويمارس الكتابة بحكم العادة. يمسك القلم بيده اليمنى، ورأسه يمسكه بيده اليسرى كأنما يحمي عقله، وتمتنع عنه الكتابة بألم ودون ألم كالمرض الشهري. ويجلس في الصيف يرشف الخمر مع حبات الفول، وفي الشتاء يتمطى تحت الشمس، ويتثاءب المرة وراء المرة يطرد الهواء الفاسد من رأسه ويسترد وعيه الغائب. في الدور العلوي في أكبر بناية يجلس إلى مكتبه ينظر إلى الأوراق والصور. يرى صورته إلى جوار الإمام في اجتماعات القمة، ومجالس البرلمان والشورى، وحفلات الأعياد والأفراح، واختيار ملكات الجمال وعارضات الأزياء والشهيدات المثاليات، وتوزيع الجوائز في عيد الأدب والفن على أعضاء حزب الله وحزب الشيطان، وهو واقف في الصف الأول تطل عليه من شرفة الحريم عيون الزوجات المحصنات، وأرامل الشهداء والأمهات المثاليات ونساء البر والإحسان، تتوسطهن زوجة الإمام. تمد يدها الصغيرة الناعمة تلمع في أصابعها فصوص الماس كالإشعاع، تقدم إليه جائزة الأدب الرفيع وحسن السير والسلوك، وترتفع الأكف السمينة البضة بالتصفيق، والأجسام المربعة داخل ملابس الحداد منتصبة فوق الكعوب الرفيعة، وقلوبهن تخفق داخل الصدور يهتفن في نفس واحد: «الله. الوطن. الإمام.»
ولا يكف جرس التليفون عن الرنين فوق مكتبه، يرفع السماعة ويعطيني ظهره، وفي الأسلاك يهمس الساعة وراء الساعة، وبعد أن ينتهي يقول لي: لا يجوز للزوجة الشرعية أن تفاجئ زوجها في مكتبه كرئيس الأمن. وأضحك وأقهقه بصوت عال وأقول: ليست مفاجأة، ولكن لا يجوز للمرأة ألا تمر على زوجها الشرعي في طريقها إلى موعد الحب. ويرفع رأسه إلي ويستدير بكل جسمه في المقعد نحوي، عيناه تلمعان بالشبق، يرغبني أكثر كلما رغبت غيره، وينظر إلي بكل وجهه وأنا أنظر إلى الناحية الأخرى. وفي الليل يحاول امتلاكي دون جدوى، ويمسك القلم ليكتب فلا يكتب شيئا. وفي الصباح يرى المقال نفسه منشورا للمرة المائة أو الألف، ووجهه داخل البرواز قديما أقدم من وجه آدم عليه السلام، ويغزوه الفشل كالعرق من جميع مسام الجسم، وأراه يغالب الهزيمة كذبابة سقطت في صحن العسل. يمسح وجهه بالمنديل ويبتسم فجأة، كأنما غلبه الحزن بغتة، ويقول: أنا مريض بالكتابة، والكتابة كالحب تقتل. وأقول: الكتابة لا تقتل، ولا يقتل إلا غياب الوعي. والحب لا يقتل، ولا يقتل إلا غياب الحب. ويرمقني بعينين مليئتين بالغيرة، يود لو عاد إليه الوعي لتعود إليه الكتابة، يود لو عرف الحب كما أعرف فأحياه الحب بعد الموت، وتظل الابتسامة فوق وجهه ثابتة، وأدرك أنه أخفى الحزن في قلبه حتى الموت. وكنت أسمعه يضحك ويقهقه، وأظن أنه غير قادر على الحزن. أتركه في الغرفة يكتب وهو لا يكتب. وفي الصباح أرى المقال يملأ الصفحة وصورته داخل البرواز، وأظن أنه وجهه الجديد، فإذا به الوجه القديم. •••
رفعت رأسي إلى فوق، ورأيت وجهها الشاحب النحيل وعينيها السوداوين تلمعان في الليل كالنجمين. قلت: من أنت؟ قالت: أنا ابنته. قلت: أنا زوجته الشرعية، ولم تكن له ابنة. قالت: هرب من أمي وأنكرني وأنا طفلة. قلت: أنت ابنته غير الشرعية؟ قالت : نعم . وارتدت عيناي إلى الوراء عن عينيها، وفي ارتدادة العين عن العين ارتج الجسد، وفي ارتجاجة الجسد ارتج العقل، وعاد إلى الوعي، وأدركت أنه ميت داخل الصندوق، وأنها شابة عذراء مثلي، تقف على ساقين اثنتين وليست من ذوات الأربع، ولها ذراعان ويدان، وفي كل يد أصابع خمس، ويدها ممدودة نحوي بلا خوف، وصدرها مكشوف. ومددت يدي نحوها وفي قلبي رعدة، والتقت أيادينا فوق جسده الممدود في الصندوق. أمسكت يدي في يدها بقوة، وأمسكت يدها في يدي صغيرة الكف كالطفلة بحجم كفي. وملمسها دافئ بحرارة جسمي. وامتدت الأذرع الأربع بعد امتداد الأيدي وتعانقت، ومن بعدها تعانق الجسم مع الجسم، وقلت: أين كنت؟ ومتى ولدت؟ وهل أنت على قيد الحياة؟ وظلت صامتة لا ترد، تنظر إلي بعينين تتسعان لحزن العالم، وسارت نحو النافذة بخطى بطيئة. أطلت على الكون تفرد ذراعيها كأنما تنشد الله أو الأم أو الأب، وتعلقت عيناها بالصورة داخل البرواز المحفور على الصندوق، ثم ارتفعت إلى السماء وأقواس النصر وقباب الكنائس ومنارات الجوامع، ثم هبطت إلى الأرض والشوارع والبيوت والدكاكين، والناس يشربون العصير، والأطفال بملابس العيد يطيرون البالونات، وترتفع البالونات في السماء تحت الشمس مع صيحات الأطفال ومع هواء النهر وهواء البحر، يسري صوت الأطفال في جسدها يرجه كالضحك، وتفرد ذراعيها تحتضن الصوت، وتحتضن معه الشمس كأنها الأم. •••
Bog aan la aqoon