Sunduq Dunya
صندوق الدنيا
Noocyada
والتاريخ حافل بقصص الأمراء الذين لم يتحرجوا أن يقتلوا إخوانهم ليتبوءوا عروشهم أو ليحلوا محلهم في ولاية العهد أو ليتقوا تآمرهم عليهم، لا بل ليستولوا على زوجاتهم، وقل أن يقتل الولد أباه، وأقل من ذلك وأندر أن يغتال الوالد ولده، وعلى أي شيء تدور قصة هاملت الخالدة؟ أليس محورها كله أن عمه اغتال أباه وأفرغ السم في أذنه وهو نائم في الحديقة، ليخلفه على الدولة، ثم لم يرعه شيء أن يتزوج من كانت امرأة أخيه؟ والناس لا يستفظعون أن يتخذ المرء زوجة أخيه زوجة له بعد أن يسرحها أو يموت عنها، ولكن ما أشد استفظاعهم لأن يبني المرء بمن كانت زوجة لابنه وأفظع من ذلك أن يتزوج امرأة أبيه؛ لأنها في منزلة الأم، حتى لقد حرمت الشرائع ذلك، على حين كان المصريون يتزوجون الأخت ولست أذكر هذا إلا على أنه مظهر للشعور الفطري العام الذي تقوم على قاعدته الشرائع والقوانين، وتدور عليه الآداب الصادقة لا التقليدية المتكلفة.
قال صاحبي: هذا صحيح، ولكن ألا ترجع عاطفة الأبوة إلى أكثر من العادة والإلف؟
قلت: من قال إنها عادة ليس إلا؟
إن الشعور الأبوي مرجعه إلى غريزة حفظ النوع كالحب، وأساسه في الرجل والمرأة واحد، غير أن الرجل أقوى تمثيلا في حياته الفردية منه للنوعية، أعني بذلك أن غريزة حفظ الذات أقوى فيه من غريزة حفظ النوع، ذلك أنه هو الذي يتولى مكافحة الطبيعة بما فيها من قوى وكائنات من جنسه وغير جنسه، وهو المتكفل بالسعي والذي يتعرض بسبب هذا كله للأخطار، فلا غنى له عن الاحتيال لدفعها بالقوة إذا تهيأ له ذلك، وبالحيلة والتدبير وحسن التصرف وما إلى ذلك إذا أعوزته المنة، والحياة ليست باللقمة السائغة فهو محتاج إلى مغالبة الصعاب ومعالجة تذليلها، وهو في كل خطوة يخطوها يصادف ما ينبه غريزة حفظ الذات أو صيانة النفس، ومن أجل هذا - كما قلت في «حصاد الهشيم» - صارت هذه الغريزة أقوى وأنضج وأسرع تنبها وأكثر عملا؛ لأن حياته تجعل أعماله متصلة بها أكثر من اتصالها بغريزة حفظ النوع، وهو لذلك أحس بها وأسرع تأثرا من ناحيتها، ومن هنا كانت الأنانية في الرجل أظهر وأقوى. والعامة يلاحظون ذلك ويفطنون إليه ويذهبون فيما وضعوه من أمثالهم إلى أن الأم أحنى على طفلها من أبيه. وقد ترى الرجل يداعب طفله برهة أو ساعة، ولكنك قل أن تجد رجلا يقوى على ما تقوى عليه المرأة من ملازمة الطفل، والمثابرة على مداعبته والصبر على التحدث إليه، ومن توهم فهم ما لعله يرتسم على صفحة وجهه من الحركات أو يند عنه من الأصوات، واحتمال ذلك وما هو أشق منه ساعة بعد أخرى، ويوما بعد يوم، وشهرا تلو شهر، وحولا عقب حول.
أما المرأة فخلقت للنوع قبل أن تخلق لنفسها، وهي في سبيل النوع تحمل وتضع وتتعرض للموت الوحى ساعة يجيئها المخاض. وتكوين جسمها شاهد بأنها مجعولة أداة للنسل ووسيلة لحفظ النوع، ففي جوفها مكان معد للجنين تحمله فيه تسعة أشهر كوامل، ولها ثديان يدران اللبن، وجسمها مركب بحيث يتحول الغذاء إلى لبن ترضعه طفلها وتغذيه به حولا كاملا على الأقل.
فالعاطفة موجودة، ومردها عند الرجل والمرأة إلى هذه الغريزة النوعية، ولكن اختلاف الرجل والمرأة من حيث التكوين وما أعدتهما الطبيعة له، ومن حيث طبيعة الحياة يجعل هذه العاطفة أقوى في المرأة وأنضج منها في الرجل، ثم تجيء الصور الذهنية التي تحصل لكل منهما فتزيد هذه العاطفة وتضرمها. وهذه الصور عند المرأة حشد حاشد وبحر زاخر لا آخر له ولا نهاية، فهي لا يسعها إلا أن تذكر ما عانت في شهور الحمل وما جربت في أطواره وأحست من حركات الجنين في جوفها، ثم ما كابدت من عذاب الوضع، وكم ألف ألف صورة تحصل في ذهنها بعد ذلك، مذ كان طفلها وليدا إلى أن يشب عن الطوق ويدخل مداخل الرجال أو النساء، وكل حركة ومصة من ثديها وابتسامة ونظرة وتعبيسة وعولة وصوت ونهضة وعثرة وخطوة، كل ذلك منقوش على صفحة قلبها مرتسم على لوح صدرها مذخور في رأسها، وجوها حافل بهذا الطفل، وحياتها كلها دائرة عليه غير منفصلة عنه، وماضيها كان تمهيدا له، وحاضرها مستغرق فيه، ومستقبلها آمال منوطة به، وأخلق بهذا أن يعيننا على تصور روعة الأمومة وعمقها وسعتها وانطواء كل أحساس فيها، وتسرب كل شعور إليها ومنها. ولما كان نصيب الرجل من هذه الصور التي تحصل في نفس المرأة أقل وأضأل، فلا عجب أن يكون غذاء العاطفة الأبوية أتفه جدا مما يغذي عاطفة الأمومة. وهل الحياة إلا الصور التي تحصل في الذهن؟
يقول ابن الرومي في رثاء ابنه:
توخى حمام الموت أوسط صبيتي
فلله كيف اختار واسطة العقد!
على حين شمت الخير من لمحاته
Bog aan la aqoon