Sunduq Dunya
صندوق الدنيا
Noocyada
فألح عليه وأقول: أترجح أنهم ماتوا بالكوليرا؟
فيقول بلهجة السأمان: ربما، ربما، قلت لك لا أدري.
فلا أدعه ولا أرحمه وأقول: أو لعلهم ماتوا حسرة؟
فيقول، وقد انتفخت مساحره من فرط الضجر: ربما، قلت لك ألف مرة لا أدري، ماتوا والسلام.
فأزداد عليه شدة وأسأله: وأبناء الفراعنة ألا يزالون أحياء؟
فينقذني بلفظة «مستحيل» ويعض حروفها بأسنانه، فلا يردعني هذا وأسأله عن أبي الهول وأين القاعدة وأين أبو الهول؟
فيعود إلى كفيه يدق إحداهما بالأخرى، وبعد أن يقضي مأربه ويرفه عن نفسه يبينهما لي فأقول: «ما أوقره، وأشد سكونه! وهل هو ... هل هو ميت؟»
فيهيج برهة ثم يبين لي أنه حجر، أو لا يستطيع معي صبرا فيلوح بذراعه ويمضي عني. •••
كلا، تمثال مختار - «محمود» مختار - على براعته لا شيء حين يقيسه المرء إلى أبي الهول الفرعوني، فإنه على هذا الوجه من الكآبة والجد والتشوف والصبر والجلال والنبل، ما ليس له شبه في وجه الإنسان، وهو حجر ولكنه فيما يبدو للعين يفكر، ينظر إلى الدنيا حوله ولكن نظرته تتخطاها إلى الفراغ الذي يلفها في طياته، وتتطلع إليه فيخيل إليك أنه يرد عينه إلى الماضي متجاوزا محيط الزمن وأمواج أجياله وقرونه، أو متراجعا بها ومطبقا بعضها على بعض، حتى تعود وقد امتزجت وآضت مدا واحدا عند أفق القدم، نعم يفكر أبو الهول هذا في الحروب التي دارت أرحاؤها في الأزمنة الغابرة، وفي الدول التي شهد قيامها وسقوطها، وفي الأجيال التي رأى مولدها وراقب نهضتها ولاحظ فناءها، وفي المسرات والأحزان والحياة والموت والرفعة والذلة التي دارت بها أربعة آلاف من السنين البطاء.
ودع ما أرادوا أن يرمزوا له به، إن كانوا قد قصدوا إلى شيء من ذلك، فما أراه أنا إلا تجسيدا لتلك الملكة الإنسانية التي يسمونها «الذاكرة» في صورة بارزة محسوسة، وما من أحد عرف أي شعور تحركه في النفس ذكرى الأيام السوالف، وماذا ترسم على الوجه، إلا وهو يستطيع أن يقرأ ذلك كله في هاتين العينين اللتين يديرهما أبو الهول فيما عرفه وشهده قبل أن يولد التاريخ.
Bog aan la aqoon