فتجنب محادثته لعله يسكت، ولكنه قال: الشرب في الظلام يهبك قدرة على التركيز، وهذا هو السبب في أنني أفكر في حال الدنيا، فهل هي سائرة حقا إلى الخراب؟
راح يشاهد الرقص - ولو بنصف انتباه - ويعجب بالوجوه والصدور والبشرات الوردية، ولكن السكران لم يعتقه فقال: السؤال يهمني حقا، فإذا كانت سائرة إلى الخراب فأنا أشرب الكونياك، أما إن كان ثمة أمل في النجاة فإني أفضل الويسكي، وإن أكن في الحالتين أهلك نفسي لأني مصاب بثلاثة أمراض جليلة الشأن، ألا وهي الضغط والكبد والبواسير.
وعلى رغمه ابتسم. النشوة حلوة على أي حال، أما ما انقض على رءوس رجالنا من محن فأمر محزن حتى الموت، وكأنك تتلقى على يافوخك أنقاض العالم القديم الذي يتقوض، والأدهى من كل شيء أنك وإن كرهت العهد الجديد بقلبك فإنك لا تستطيع أن ترفضه بعقلك، لا أنت ولا مدخرك من مال العمد! - وليس الخراب بالشيء الجديد على العالم فإن يكن مكتوبا على الجبين فمن الخير أن يعجل.
فسأله وهو لا يدري تقريبا: ولم تريده على أن يعجل؟
فضحك ضحكة مقرقرة وقال: لأن خير البر عاجله.
ورثى عيسى إلى ضحايا التاريخ من قلب متأوه، وأفرغ الثمالة ثم غادر المحل، وسار على مهل في شارع سعد زغلول؛ أحب شوارع الإسكندرية إلى نفسه وبخاصة بعد الثورة، إنه شارعه الخاص على وجه ما، ويحب كثيرا أن يقطعه ولو مرة كل يوم جيئة وذهابا، ليناجي فيض الذكريات، واقترب الوقت من نصف الليل وشاعت في الجو برودة رقيقة منعشة وبدا المجال كله ملفعا بالهجران، وألقى نظرة إلى ظهر التمثال المحدق في البحر وطوح برأسه إلى الوراء على طريقة الباشا الذي حلا له قديما محاكاته، واستقل الترام إلى الإبراهيمية ثم ذهب إلى الكورنيش ليسلي أعصابه بالمشي الوئيد. وفاقت ملاحة الجو خيال رأسه الدائر بالشراب، وومضت النجوم في الثغرات الواسعة بين السحاب، واستكان البحر كالنائم تحت الظلام، وعلى البعد امتد سياج من الأضواء الثابتة فوق مراكب الصيد، وخلا الطريق من الأحياء فعادت تلح صورة الهجران، وجلس على أريكة حجرية ينعم بالصمت والحنان. إنه لا يعود إلى مسكنه الخالي حتى يقنعه النعاس. ومنذ قدومه إلى الإسكندرية وهو يعيش غير خاضع لإنسان أو لعادة ولكنه يطيع مطالب شخصه الطبيعية في حرية مطلقة، فينام إذا حل سلطان النوم ويستيقظ إذا مل الرقاد، ويأكل عند الجوع ويخرج لدى الملل، هذه الحرية التي لم ينعم بها من قبل، وشعر بشيء يلفت رأسه إلى اليسار، كان إغراء يراسل حاسة أو أكثر من حواسه، رأى شبحا يتجه من بعيد نحو مجلسه، وعندما اقترب من ضوء المصباح العملاق وضحت معالمه، فتاة من بنات الليل، الفستان الكستور الرخيص والنظرة المقتحمة بلا أدنى تحفظ أو كبرياء والانفراد المريب بالليل، كل أولئك يقطع بأنها من بنات الكورنيش. وتفحصها وهي تمر أمامه في الممشى الضيق الفاصل بين الأريكة وسور الكورنيش فوضح له شبابها ووسامة لا بأس بها في عارضها وابتذال نظراتها وجو التأهب لتلبية الإشارة الذي يغلفها كأنها كلب مهجور يلتمس عابرا ليتبعه. سارت حتى بلغت الأريكة التالية ثم جلست عليها مسددة الوجه ناحيته، أتعس بنات الهوى درجة ولكن ما أشد انطواء الإسكندرية على نفسها في غير أيام المصيف حتى لتبدو مغلقة الأبواب في وجه الغريب، وانبعث من أعماقه تأفف ولكن في نبضة رغبة جنونية، من المحقق أن الأستاذ مدير مكتب الوزير المتطلع إلى الوزارة قد مات ولم يبق في هذه اللحظة إلا ثمل منغرز في الوحدة والظلام، تزحف غرائزه في الظلام كالحشرات الليلية وكأن دفعة قوية نحو التمرغ في التراب تنفخ في محركاته، ولوح لها بذراعه كأقصى ما يمكن أن يجود في مغازلتها، ولوح مرة أخرى فقامت من مجلسها وجعلت تقترب منه حتى توقفت على بعد ذراع فأشار لها بالجلوس فجلست وهي تضحك ضحكة خافتة جدا كخرير الموج الهامس أسفل الكورنيش، تفرس في وجهها فهالته طفولتها وسألها في دهشة: كم عمرك؟
فضحكت ولم تجب فأعاد السؤال باهتمام، فقالت: خمن. - لعلك في الخامسة عشرة!
قالت في مباهاة: لا، لست قاصرة على أي حال فاطمئن.
مائلة للبياض، مستديرة الوجه، ممتلئة الوجنتين، ذات جسم صغير ممتلئ، مقصوصة الشعر كغلام، ولم تكف عن العبث بأظافرها التي بهتت صبغتها: من أين أنت آتية في هذه الساعة؟
فأشارت إلى الوراء بميل قائلة: من القهوة.
Bog aan la aqoon