تفحصهم باهتمام وحنق، ود لو يستطيع أن يقنعهم، ولم يمكنه التيار المتضارب من الوقوف قبالتهم لحظة. إنهم وجوه غريبة لا هي من حزبه ولا من الأحزاب الأخر. إنها وجوه غريبة تفوح منها رائحة الغدر، وخيل إليه أن في الجو رائحة عفنة أشد كآبة من الدخان، وزفر مع اليأس والذهول غضبا: احرق ... خرب ... يحيا الوطن!
يا للأوغاد! هل تذهب دماء القنال هدرا؟ وأرواح جنود البوليس وضباطهم؟ إن كل ما هو قيم وجميل يبدو أنه سيصير هباء، كيف السبيل إلى الوزارة ليقابل المسئولين؟ ليس في الطرقات إلا حطام سيارات، ليس في الجو إلا حمرة قانية تحتدم تحت سواد. ماذا يقول للفدائي الغاضب لقلة السلاح إذا اطلع على هذا المشهد الغادر الدامي؟ ما عسى أن يقول لو سمع نداء المؤامرة؟ - احرق ... خرب ... يحيا الوطن!
النار والخراب والدخان شعارات اليوم الفظيعة، ولكن الخيانة اللابدة في الأركان أفظع. وتلاطمته أمواج الثائرين الجنونية، فازدرد ريقه مرات بمعطفه الرصاصي الطويل، ولفظته. وقد اختل توازنه واصطكت بساقيه حقيبته وهو يشد على مقبضها بقوة مستميتة، وتلاشت من رأسه نقاط التقرير الذي كان عليه أن يرفعه إلى الوزير عن سير المعركة ومطالب الفدائيين. وفكر في المستقبل على ضوء العاصمة المحترقة فلاح لعينيه كالدخان، وتذكر وهو يميل إلى منعطف أقل وحشية حديث عضو الشيوخ المعمم الذي قال معلقا على إلغاء المعاهدة: انتهينا والأمر لله!
وغضب وقتذاك وهو يجلس لصقه بالنادي وصاح: هكذا أنتم أيها الشيوخ لا يهمكم إلا مصالحكم!
فقال له بتوكيد وبلهجة لم تخل من سخرية: هذه هي النهاية والأمر لله!
فارتفع صوته في حماس : ليس في كل ماضينا المجيد موقف كهذا.
فعبث الشيخ بشاربه، وقال بحزن: بلى، كأيام سعد، ولكنها النهاية.
شيخ مجرب طوى عهد الحماس ولكن ها هي القاهرة تحترق، وهؤلاء الغادرون في الأركان ما أكثرهم! واليد قصيرة إذا اقترنت ببصيرة، فليسكر صاحبها بنقيع الأحزان حتى يغرق. وفي الفضاء المكتظ بشظايا الخراب تجسد الحزن كأنه وحش قتيل. ونال منه الإعياء فقرر أن يشق الطريق إلى مسكنه، وخيل إليه أن دهرا طويلا سيمضي كالسلحفاة قبل أن يلمح مشارف الدقي.
2
عند جثوم الليل ذهب إلى سراي شكري باشا عبد الحليم على مسيرة ربع ساعة من مسكنه بحي الدقي. واستقبله الباشا في حجرة مكتبه، فجلسا على مقعدين متقاربين، وبدا الباشا في المقعد الكبير شبه ضائع بجسمه النحيل القصير، ولكن وجهه الصغير المستدير الناعم عكس اكفهرارا مغلفا بهدوء الشيخوخة، وأعلنت بدلته الرمادية الإنجليزية عن أناقة عريقة، واستقام طربوشه الأحمر الفاتح على رأس لم يبق فوق سطحه شعرة واحدة. تبودلت كلمات الترحيب في عجلة دلت على خطورة الموقف، وشعر عيسى بحرج أول الأمر لما علمه من تطلع الباشا إلى الوزارة، ولما تردد من شهر أو أكثر عن ترشيحه لها في أول تعديل وزاري. وأفدح الخسائر ما أصاب الجانبين الشخصي والعام في وقت واحد. ترى كيف يفكر هذا الشيخ الذي انتظر الوزارة طويلا؟ هذا الشيخ الذي هبط نشاطه في مكتبه إلى الحد الأدنى، والذي لم يعد له من عمل حقيقي سوى نشاطه باللجنة المالية بمجلس الشيوخ. رثى له كما يرثي لنفسه، ورنا إليه بنظرة مترددة كنوع من العزاء وهو يجلس على المقعد بقامته الرشيقة وقد استرد وجهه - بعد الراحة في بيته - رونق الشباب رغم جريان الهم في تقاسيمه. وقال الباشا وهو يدير خاتم الزواج حول بنصره: سنؤرخ بهذا اليوم طويلا.
Bog aan la aqoon