فقال كمال متنهدا: كانت عزيزة جدا علي، أنا حزين جدا يا أخي، وعائشة المسكينة! - هذه هي الكارثة! عائشة! سننسى جميعا إلا عائشة. «سننسى جميعا؟! لا أدري أن وجهها لن يغيب عني مدى العمر، ولو أن لي مع النسيان تجربة فذة، هو نعمة كبرى، ولكن متى يجود ببلسمه؟» وعاد ياسين يقول: كنت متشائما عند زواجها، ألا تدري؟ لقد تنبأ لها الدكتور يوم مولدها بأن قلبها لن يسعفها على الحياة بعد العشرين! والدك يذكر هذا في الغالب .. - لا أدري شيئا، أكانت عائشة تدري ؟ - كلا، إنه تاريخ قديم، وقضاء الله لا بد منه .. - ما أتعسك يا عائشة. - أجل ما أتعسها المسكينة ..
25
كان أحمد إبراهيم شوكت جالسا في قاعة المطالعة بمكتبة الجامعة، مكبا على متابعة كتاب بين يديه. لم يكن بقي على الامتحان إلا أسبوع، وكان الجهد قد نال منه كل منال، وشعر بأن شخصا قد دخل القاعة وجلس خلفه، فالتفت إلى الوراء مستطلعا فرأى علوية صبري! نعم هي، ولعلها جلست تنتظر كتابا استعارته، وعند تلك الالتفاتة التقت عيناه بالعينين السوداوين، ثم أعاد رأسه إلى وضعه الأول منتشي القلب والحواس: ما من شك في أنها باتت تعرف شكله، كما تعرف أنه مغرم بها، فمثل هذه الأمور لا تخفى، إلى أنها كلما التفتت هنا أو هناك - سواء في فصول المحاضرات أم حديقة الأورمان - وجدته مسترقا إليها النظر. وقد حال حضورها بينه وبين متابعة ما يقرأ، ولكن فرحته فاقت حتى ما كان يقدر. وكان - منذ أن علم بأنها ستتخصص في الاجتماع مثله - يؤمل أن يتم التعارف بينهما في غضون العام الدراسي المقبل، الأمر الذي لم يتح له هذا العام في زحمة طلبة القسم الإعدادي. على أنه لم يسبق له أن وجدها هكذا قريبة منه دون كثرة من الرقباء، فحدثته نفسه بأن يمضي إلى رفوف المراجع كأنما ليطلع على أحدها، ثم يحييها في طريقه! وألقى نظرة على ما حوله فرأى عددا من الطلاب منتشرين هنا وهناك لا يتجاوز عددهم أصابع اليد، فقام دون تردد وسار في الممر بين المقاعد، وعندما مر بها التقت عيناهما فحنى رأسه تحية مؤدبة، فبدا في ملامحها وقع المفاجأة، ولكنها ردت تحيته برأسها ونظرت فيما أمامها. وتساءل ترى هل أخطأ؟ كلا، إنها زميلة منذ عام طويل، ومن واجبه أن يحييها إذا التقيا هكذا وجها لوجه في مكان يكاد يكون خاليا. وواصل مسيره إلى خزانة الكتب الحاوية لدائرة المعارف، ثم اختار مجلدا وراح يقلب صفحاته دون أن يقرأ كلمة. كان سروره برد التحية عظيما فزايله التعب واهتز صدره نشاطا. يا لها من حسناء ملأت عليه جوانب نفسه إعجابا وانجذابا حتى صارت شغله الشاغل. إن كافة أحوالها تنم عن أنها من «أسرة» كما يقولون، وأخشى ما يخشاه أن يكون لها من كبرياء الطبقة نصيب يخفيه أدبها الجم، وإنه ليستطيع أن يعترف لها - صادقا - بأنه من أسرة كذلك إذا دعا الأمر، أليس آل شوكت «أسرة»؟ بلى .. وذات ملك، فسيكون له يوما ريع ومرتب معا! وافتر ثغره عن ابتسامة ساخرة، ريع .. مرتب .. أسرة! إذن فأين مبادئه؟ وشعر بشيء من الخجل، إن القلب في أهوائه لا يعرف المبادئ، فالناس يحبون ويتزوجون خارج دائرة مبادئهم ودون مراعاة لها، وعليهم أن يخلقوا أنصافهم الجميلة خلقا جديدا، كمن يدخل بلدا غريبا فعليه أن يتكلم بلغته حتى يبلغ ما يريد. ثم إن الطبقة والملكية حقيقتان واقعيتان لم يخلقهما هو ولا أبوه ولا جده، فليس هو بالمسئول عنهما، والعلم والجهاد هما الكفيلان بمحو هذه السخافات التي تفرق بين البشر. من الممكن ربما أن يغير نظام الطبقات، ولكن كيف يستطيع أن يغير الماضي وهو أنه من أسرة موفورة الدخل؟ وهيهات أن تتعارض المبادئ الشعبية مع الحب الأرستقراطي، وكارل ماركس نفسه تزوج من جيني فون وستفال حفيدة الدوق برونشويك، وكانوا يسمونها «الأميرة الساحرة» و«ملكة الرقص»، وها هي أميرة ساحرة أخرى ولو رقصت لكانت ملكة الرقص. وأعاد المجلد إلى موضعه ثم رجع، وجعل يملأ ناظريه مما بدا من قامتها، جانب من أعلى الظهر، وصفحة العنق الرقيق، والقذال المزدان بالشعر المعقوص، ما أجمل المنظر، ومر بها خفيفا إلى مقعده وجلس. ولم تمض دقائق حتى سمع وقع أقدامها الخفيفة، فنظر إلى الوراء آسفا وهو يظنها منصرفة ولكنه رآها قادمة، فلما حاذته وقفت في شيء من الارتباك، وهو لا يصدق عينيه، وقالت: لا مؤاخذة، هل أجد عندك محاضرات التاريخ؟
نهض كالجندي، وبادر يقول: بكل تأكيد ..
فقالت كالمعتذرة: لم أستطع متابعة الأستاذ الإنجليزي كما يجب، ففاتني تقييد كثير من النقط الهامة. وأنا لا أرجع إلى المراجع إلا في المواد التي سأتخصص فيها فيما بعد، ولا يتسع الوقت للمراجعة في سائر المواد .. - مفهوم .. مفهوم .. - وقد علمت أن مذكراتك مستوفاة، وأنك أعرتها الكثيرين لينقلوا منها ما فاتهم؟ .. - نعم، ستكون تحت أمرك غدا .. - متشكرة جدا (ثم وهي تبتسم): لا تظن بي الكسل، ولكن إنجليزيتي متوسطة! .. - لا بأس، أنا بدوري دون المتوسط في الفرنسية، ولعله تتاح لنا الفرص للتعاون، ولكن معذرة تفضلي بالجلوس، قد يهمك الاطلاع على هذا الكتاب، مدخل الاجتماع لهاكنز ..
ولكنها قالت: متشكرة. لقد رجعت إليه مرات، قلت إنك دون المتوسط في الفرنسية، فلعلك في حاجة إلى مذكرات السيكولوجي؟
فأجاب دون تردد: أكون شاكرا لو تفضلت .. - غدا نتبادل المذكرات؟ - بكل سرور، ولكن معذرة، ستجدين أكثر الدراسات بقسم الاجتماع بالإنجليزية ..
فتساءلت وهي تداري مولد ابتسامة: أتعرف أنني اخترت قسم الاجتماع؟
ابتسم كأنما ليداري حياءه، ولم يكن ثمة حياء ولكنه شعر بأنه «وقع»، ولكنه قال ببساطة: نعم! - لمناسبة أية مصادفة؟
فقال بجرأة: بل سألت فعلمت ..
Bog aan la aqoon