فرد في امتعاض حاول ما استطاع التستر عليه: نعم .. نعم، ستعلمين في حينه. - أخبرني الآن ..
فقال والامتعاض يزداد ثقلا على قلبه: لا أدري كيف يكون وقتي غدا! - لمه؟ .. - اذهبي بالسلامة، سمعت صوتا! - كلا، لا صوت هناك .. - لا ينبغي أن يجدنا أحد هكذا ..
وربت كتفها كأنما يربت خرقة ملوثة، وتخلص من ذراعيها في رقة مفتعلة ثم رقي في السلم على عجل.
كان والداه جالسين في الصالة يستمعان إلى الراديو، وكانت حجرة المكتب مغلقة الباب مضاءة الشراعة مما دل على أن أحمد يذاكر، فحياهما تحية المساء وقصد حجرة النوم ليخلع ملابسه. واستحم، وتوضأ، وعاد إلى حجرته فصلى، ثم تربع على سجادة الصلاة وراح في تأمل عميق. كانت عيناه ترنوان بنظرة حزينة، وكان صدره يضطرم شجنا، وهفت نفسه إلى البكاء، ودعا ربه أن يطرد الشيطان عن سبيله وأن يشد أزره في مقاومة الغواية. ذلك الشيطان الذي يعترضه في صورة فتاة ويندفع في دمه رغبة جامحة. ودائما أبدا يقول عقله لا فيقول قلبه نعم، ثم يتلقفه ذلك الصراع المخيف الذي ينتهي بالهزيمة والندم. كل يوم تجربة وكل تجربة جحيم فمتى ينقضي هذا العذاب؟! إن نضاله الروحي كله مهدد بالخراب وكأنما يبني قصورا في الهواء ولن يقر قرار لغارق في الطين، فليت الندم يستطيع أن يرجع ساعة مضت.
13
أخيرا اهتدى أحمد إبراهيم شوكت إلى مبنى مجلة «الإنسان الجديد» بغمرة. كان المبنى يقع في مكان وسط بين محطتي الترام، وكان مكونا من دورين وبدروم، فأدرك لأول وهلة أن الدور الأعلى مسكن كما استدل من الغسيل المعلق في شرفته، أما الدور الأول فقد ثبتت لافتة باسم المجلة على بابه، وأما البدروم فقد خصص للمطبعة التي رأي آلاتها خلال قضبان النوافذ. وصعد درجات أربعا إلى الدور الأول، ثم سأل أول من التقى به - وكان عاملا يحمل بروفات - عن الأستاذ عدلي كريم صاحب المجلة، فأشار الرجل إلى باب مغلق في نهاية صالة خالية من الأثاث حيث تراءت لافتة رئيس التحرير، فمضى إليه وهو يتلفت فيما حواليه عله يجد حاجبا ولكنه ألفى نفسه منفردا بالباب فتردد لحظة ثم طرقه برقة حتى جاءه صوت من الداخل يقول : «ادخل»، ففتح الباب ودخل، فالتقت عيناه في نهاية الحجرة بعينين واسعتين تحدقان به متسائلتين من تحت حاجبين كثيفين أشيبين، فرد الباب وراءه وقال بصوت المعتذر: لا مؤاخذة، دقيقة واحدة ..
فقال الرجل بصوت رقيق: تفضل ..
وتقدم أحمد من مكتب كدست فوقه الكتب والأوراق، ثم سلم على الأستاذ الذي قام لاستقباله، ثم جلس بعد أن جلس الرجل وأذن له في الجلوس. شعر بالارتياح والزهو وهو يرنو إلى الأستاذ الكبير الذي تلقى عنه النور والعرفان في الأعوام الثلاثة الماضية، سواء عن مؤلفاته أم مجلته، فراح يملأ عينيه من الوجه الشاحب الذي وخط الشيب شعره وعلاه الكبر فلم يبق له من أمارات الفتوة إلا عينان عميقتان تشعان بريقا نافذا. هذا أستاذه، أو أبوه الروحي كما يدعوه، وإنه الآن في حجرة الوحي التي لا جدران لها ولكن رفوف من الكتب تمتد عاليا حتى السقف.
وقال الأستاذ بلهجة المتسائل: أهلا وسهلا؟
فقال أحمد بلباقة: جئت لأسدد الاشتراك.
Bog aan la aqoon