183

ثم وهو يغادر المكان: ربنا يسعد أيامك ... - وكان هذا آخر عهده بيقظتها. وقد جاءه نبأ مرضها ظهرا في المدرسة فعاد مصطحبا الطبيب الذي نعاها إليه سلفا منذ دقائق. أجل لم يبق إلا ثلاثة أيام! ترى كم يوما تبقى له هو؟ واقترب من عائشة وسألها: متى وكيف وقع لها ما وقع؟

فأجابت عنها أم حنفي قائلة: كنا جالستين في الصالة، ثم قامت متجهة نحو حجرتها لترتدي معطفها وتخرج وهي تقول لي: «عندما أفرغ من زيارة الحسين سأزور خديجة»، وذهبت إلى الحجرة، وبعد دخولها مباشرة ترامى إلى أذني صوت وقوع شيء فهرعت إلى الداخل فوجدتها ملقاة على الأرض بين السرير والدولاب، فجريت نحوها وأنا أنادي: ست عائشة ...

وقالت عائشة: جئت مسرعة فوجدتها في هذا المكان، فحملناها إلى السرير، وجعلت أسألها عما بها ولكنها لم تجبني، ولم تتكلم، متى تتكلم يا أخي؟

فأجاب في ضيق: عندما يشاء الله!

وتراجع إلى الكنبة ثم جلس، ومضى ينظر في حزن إلى الوجه الشاحب الصامت. أجل لينظر إليه طويلا؛ فعما قريب لن يكون له إلى رؤيته سبيل. هذه الحجرة نفسها ستتغير معالمها وستتغير بالتالي معالم البيت في مجموعه، ولن ينادي به أحد: «أمي». لم يكن يتصور أن موتها سيحمل قلبه هذا الألم كله. ألم يألف الموت بعد؟ ... بلى، ولديه من العمر والتجربة ما يقيه الجزع، ولكن لذعة الفراق الأبدي موجعة، ولعله مما يلام عليه قلبه أنه رغم ما كابد من ألم يتألم كالقلب الغض. وكم أحبته، وكم أحبت الجميع، وكم أحبت كل شيء في الوجود، ولكن هذه السجايا الطيبة لا تعيها النفس إلا عند الفراق. ففي هذه اللحظة الخطيرة تزدحم ذاكرتك بصور أماكن وأزمنة وحوادث يهتز لها من أعماقه، وها هي يخالط نورها الظلام، وتمتزج فيها زرقة الفجر بحديقة السطح، ومجمرة مجلس القهوة بالأساطير، وهديل الحمام بأغنيات حلوة، وكان حبا رائعا أيها القلب الجاحد، ولعلك تقول غدا بحق أن الموت استأثر بأحب الناس إليك، ولعل عينيك أن تدمعا حتى يزجرك المشيب. والنظر إلى الحياة كمأساة لا يخلو من رومانتيكية طفلية والأجدر بك أن تنظر إليها في شجاعة كدراما ذات نهاية سعيدة هي الموت. ثم سائل نفسك إلام تضيع حياتك هباء؟ أن الأم تموت وقد صنعت بناء كاملا فماذا صنعت أنت؟ •••

واستيقظ على صوت أقدام، وإذا بخديجة تدخل الحجرة مرتاعة وتتجه نحو الفراش وهي تنادي أمها وتسألهم عما حل بها. وتضاعف ألمه حتى خاف أن يخونه تجلده فغادر الحجرة إلى الصالة، وما لبث أن جاء ياسين وزنوبة ورضوان، فصافحوه، وأخبرهم عن مرضها دون التفاصيل، فذهبوا إلى الحجرة ولبث وحيدا حتى عاد إليه ياسين وهو يسأله: ماذا قال لك الطبيب؟

فقال في وجوم: شلل والتهاب رئوي، سينتهي كل شيء في ظرف ثلاثة أيام ...

فعض ياسين على شفته وقال بحزن: لا حول ولا قوة إلا بالله ...

ثم جلس وهو يتمتم: مسكينة، كان كل شيء مفاجئا! ألم تشك تعبا في الأيام الأخيرة؟ - كلا، إنها لم تعتد الشكوى كما تعلم، ولكنها كانت تبدو أحيانا كالمتعبة ... - ليتك عرضتها على الطبيب من قبل؟ - لم يكن أبغض إلى نفسها من سيرة الطبيب!

وانضم إليهما رضوان بعد حين فقال لكمال: أرى أن تنقل إلى المستشفى يا عمي ...

Bog aan la aqoon