وإذا بصوت غليظ يعلو في خشونة قائلا: كفاكم كلاما ودعونا ننم ...
ولكن صوته أيقظ زميلا من زميليه فتثاءب متسائلا: طلع الصبح؟
فأجابه الأول هازئا: كلا، ولكن أصحابنا يحسبون أنفسهم في غرزة ...
تنهد عبد المنعم وهمس بصوت لم يسمعه إلا أحمد: أيزج بي إلى هذا المكان لا لسبب إلا أنني أعبد الله؟
فهمس أحمد في أذنه باسما: وما ذنبي أنا الذي لا أعبده؟!
لم يشأ أحد بعد ذلك أن يرفع صوته، وراح أحمد يسأل نفسه عما دعا إلى القبض على الآخرين، سرقة أم مشاجرة أم سكر وعربدة؟ طالما كتب عن الشعب وهو مدثر بمعطف في حجرة مكتبه الجميلة، ها هو الشعب يلعن أو يغط في نومه . وهذه الوجوه الكالحة البائسة التي رآها على ضوء الكشاف لحظات، وذاك الرجل الذي كان يحك رأسه وما تحت إبطيه فلعل قمله يزحف نحوهما دائبا، هذا هو الشعب الذي تعيش من أجله فكيف تجزع عن فكرة ملامسته؟! هذا الرجل المناط به خلاص الإنسانية ينبغي أن يمسك عن شخيره وأن يعي موقفه التاريخي حتى ينهض لإنقاذ العالم جميعا! وقال لنفسه: «إن موقفا إنسانيا واحدا هو الذي جمعنا على اختلاف مشاربنا في هذا المكان المظلم الرطب. الأخ والشيوعي والسكير والسارق على السواء، كلنا واحد على تفاوت في قوة المناعة أو الحظ» وحدث نفسه مرة أخرى فقال: لماذا لا تعنى بشئونك الخاصة، هكذا يقول المأمور، ولي زوجة محبوبة ورزق موفور، والحق أن الإنسان قد يسعد بما هو زوج أو موظف أو أب أو ابن ولكنه مقضي عليه بالمتاعب أو بالموت نفسه بما هو إنسان. وسواء أقضي عليه بالسجن هذه المرة أم أطلق سراحه فباب السجن الغليظ المتجهم هو ما يتراءى لعينيه في أفق حياته. وعاد يتساءل: ماذا يدفعني في هذا السبيل الخطير الباهر؟ إلا أنه الإنسان الكامن في أعماقي، الإنسان الواعي لذاته المدرك لموقفه الإنساني التاريخي العام، وأن ميزة الإنسان على سائر المخلوقات هي أنه يستطيع أن يقضي على نفسه بالموت بمحض اختياره ورضاه ...
وشعر بالرطوبة تسري في ساقيه والإعياء يتخلل مفاصله، وكان الشخير يتردد في الأركان بإيقاع موصول، ثم لاحت خلال قضبان النافذة الصغيرة طلائع من النور وانية رقيقة ...
54
غادر الطبيب الحجرة وكمال يتبعه واجما، ثم لحق به في الصالة وحدجه بعينين متسائلتين، فقال الطبيب بهدوء: يؤسفني أن أخبرك بأنها حالة شلل كلي ...
فانقبض صدر كمال انقباضا شديدا وسأله: حالة خطرة؟ - طبعا! وقد أصيبت في الوقت نفسه بالتهاب رئوي؛ ولذلك فالحقن ضرورية لإراحتها ... - أليس هناك أمل في الشفاء؟
Bog aan la aqoon