وثار ثالث لذكر هور فصاح: ابن الكلب قال: نصحنا بأن لا يعاد دستور 1923، ولا دستور 1930، ما شأنه هو ودستورنا؟
فأجابه رابع: لا تنس أنه قال قبل ذلك: على أننا عندما استشارونا نصحنا، إلخ ... - أجل، من الذين استشاروه؟ - سل عن ذلك حكومة القوادين! - توفيق نسيم وكفى! أنسيتموه؟ ولكن لماذا هادنه الوفد؟ - لكل شيء نهاية، انتظروا خطبة اليوم.
أصغى كمال إليهم، بل اشترك في حديثهم، وأعجب من هذا أنه لم يكن دونهم حماسا. وكان هذا ثامن عيد جهاد يشهده: وكان كالآخرين قد امتلأ بمرارة التجارب السياسية التي خلفتها الأعوام السابقة. أجل. لقد عاصرت عهد محمد محمود الذي عطل الدستور ثلاث سنوات قابلة للتجديد، واغتصب حرية الشعب في نظير وعده له بتجفيف البرك والمستنقعات! كما عشت سنين الإرهاب والعهر السياسي التي فرضها إسماعيل صدقي على البلاد، كان الشعب يثق في قوم ويريدهم حكاما له ولكنه يجد فوق رأسه دائما أولئك الجلادين البغضاء، تحميهم هراوات الكونستبلات الإنجليز ورصاصهم، وسرعان ما يقولون له بلغة أو بأخرى أنت شعب قاصر ونحن الأوصياء، والشعب يخوض المعارك دون توقف فيخرج من كل وهو يلهث، حتى اتخذ في النهاية موقفا سلبيا شعاره الصبر والسخرية، فخلا الميدان إلا من الوفديين من ناحية والطغاة من ناحية أخرى، وقنع الشعب بمجلس المتفرج وراح يشجع رجاله في همس دون أن يمد لهم يدا. إن قلبه لا يستطيع أن يتجاهل حياة الشعب، إنه يخفق معه دائما، رغم عقله التائه في ضباب الشك. غادر الترام عند شارع سعد زغلول، وسار في طابور غير منتظم نحو سرادق الاحتفال المقام في جوار بين الأمة، تقابلهم بين كل عشرة أمتار مجموعة من الجنود تحت رئاسة كونستابل إنجليزي تنطق وجوههم بالصرامة والبلادة. والتقى قبيل السرادق بعبد المنعم وأحمد ورضوان وشاب لا يعرفه وقد وقفوا معا يتحادثون، فأقبلوا نحوه مسلمين ولبثوا معه بعض الوقت. منذ شهر تقريبا ورضوان وعبد المنعم بين طلبة الحقوق أما أحمد فقد انتقل إلى السنة النهائية بالثانوي. وإنه ليراهم في الطريق «رجالا» بخلاف ما يراهم في البيت فليسوا إلا أبناء أخته وأخيه. وما أجمل رضوان، كذلك جميل، صاحبه الذي قدمه إليه باسم حلمي عزت، وقد صدق من قال إن الطيور على أشكالها تقع. وكان أحمد يسره، وينتظر منه دائما قولا غريبا ممتعا أو سلوكا لا يقل عنه غرابة، إنه أقرب الجميع إلى روحه، أما عبد المنعم فما أشبهه به لولا ميله إلى القصر والامتلاء؛ لذلك فحسب يحبه، أما يقينه وتعصبه فما أرذلهما!
وأقبل على السرادق الضخم، وألقي نظرة شاملة على الجموع الحاشدة، مرورا بكثرتها الهائلة، وتطلع مليا إلى المنصة التي سيعلو عندها عما قليل صوت الشعب، ثم اتخذ مجلسه. إن وجوده في مثل هذا الجمع الحاشد يطلق من أعماق ذاته الغارقة في الوحدة شخصا جديدا ينتفض حياة وحماسا. هنا ينحبس العقل في قمقم إلى حين، وتنطلق قوى النفس المكبوتة طامحة إلى حياة مفعمة بالعواطف والأحاسيس دافعة إلى الكفاح والأمل ، وعند ذاك تتجدد حياته وتنبعث غرائزه وتتبدد وحشته، ويتصل ما بينه وبين الناس فيشارك في حياتهم ويعتنق آمالهم وآلامهم. إنه بطبعه لا يطيق أن يتخذ من هذه الحياة حياة ثابتة له ولكن لا بد منها بين حين وآخر حتى لا ينقطع ما بينه وبين الحياة اليومية، حياة الناس، فلتؤجل مشكلات المادة والروح والطبيعة وما وراء الطبيعة، وليمتلئ اهتماما بما يحب هؤلاء الناس وبما يكرهون، بالدستور .. بالأزمة الاقتصادية .. بالموقف السياسي .. بالقضية الوطنية؛ لذلك لم يكن عجيبا أن يهتف: «الوفد عقيدة الأمة»، غداة ليل قضاه في تأمل عبث الوجود وقبض الريح، والعقل يحرم صاحبه نعمة الراحة؛ فهو يعشق الحقيقة ويهوى النزاهة ويتطلع إلى التسامح ويرتطم بالشك ويشقى في نزاعه الدائم مع الغرائز والانفعالات، فلا بد من ساعة يأوي فيها المتعب إلى حضن الجماعة؛ ليجدد دماءه ويستمد حرارة وشبابا. في المكتبة أصدقاء قليلون ممتازون مثل دارون وبرجسون ورسل. في هذا السرادق آلاف من الأصدقاء، يبدون بلا عقول، ولكن يتمثل في مجتمعهم شرف الغرائز الواعية، وليسوا في النهاية دون الأول خلقا للحوادث وصنعا للتاريخ. في هذه الحياة السياسية يحب ويكره ويرضى ويغضب ويبدو كل شيء ولا قيمة له. وكلما واجه هذا التناقض في حياته زعزعه القلق. ولكن ليس ثمة موضع في حياته يخلو من تناقض وبالتالي من قلق. لذلك شد ما يحن قلبه إلى تحقيق وحدة منسجمة تتسم بالكمال والسعادة، ولكن أين هذه الوحدة؟! ويشعر بأن الحياة العقلية لا مفر منها ما دام به عقل يفكر فلا يقعده ذلك عن التطلع إلى الحياة الأخرى تدفعه كافة القوى المعطلة المكبوتة؛ فهي صخرة النجاة. فلعله لذلك بدا هذا الجمع رائعا، وكلما ازداد كثرة ازداد روعة. وها هو القلب ينتظر ظهور الزعماء بنفس الحرارة واللهفة كالآخرين. وقد جلس عبد المنعم وأحمد على مقعدين متجاورين، أما رضوان وصاحبه حلمي عزت فيسيران في الممر الذي يشق السرادق ذهابا وجيئة أو يقفان عند المدخل يتبادلان الحديث مع بعض المشرفين على الاحتفال فيا لهما من شابين ذوي نفوذ! وكانت همسات القوم تتجمع فتحدث لغطا عاما، أما الأركان التي احتلها الشباب فعلا ضجيجها وتخللته الهتافات. ثم ترامى هتاف قوي ذو دلالة من الخارج فتطلعت الرءوس إلى مدخل السرادق الخلفي، ثم هبوا واقفين، وتعالى هتاف يصم الآذان، ثم لاح مصطفى النحاس فوق المنصة وهو يحيي الألوف بابتسامة وضيئة ويدين قويتين. وتطلع إليه بعينين اختفت منهما نظرة الشك إلى حين، وكان يتساءل: كيف أومن بهذا الرجل بعد أن فقدت الإيمان بكل شيء؟ ألأنه رمز الاستقلال والديمقراطية؟ مهما يكن من أمر فإن التجاوب الحار المتبادل بين الرجل والشعب ظاهرة جديرة بالنظر، وهي بلا شك قوة خطيرة تلعب دورها التاريخي في بناء القومية المصرية. وتشبع الجو بالحماس والحرارة، وتعب المشرفون على الحفل حتى نشروا السكون في الأركان، كي يسمع الناس المقرئ وهو يتلو ما تيسر من القرآن مرددا فيما يتلو:
يا أيها النبي حرض المؤمنين على القتال . وكان الناس ينتظرون هذا النداء فتعالى الهتاف والتصفيق حتى احتج بعض المتزمتين وطالبوا بالصمت احتراما لكتاب الله. وأثار قولهم في نفسه ذكريات قديمة يوم كان يعد واحدا من هؤلاء المتزمتين. فارتسمت على شفتيه ابتسامة ما واستشعر من توه عالمه الخاص الحافل بالمتناقضات الذي يبدو من تعارض متناقضاته وكأنه فراغ. ووقف الزعيم وراح يلقي خطابه. ألقاه بصوت رنان وبيان نافذ فاستغرق إلقاؤه ساعتين. ثم ختمه جاهرا في عنف سافر بالدعوة إلى الثورة، وبلغ الحماس من القوم مداه فوقفوا على المقاعد، وجعلوا يهتفون بحماس جنوني. ولم يكن دونهم حماسا وهتافا. نسي أنه مدرس مطالب بالوقار وخيل إليه أنه رجع إلى الأيام المجيدة. التي سمع عنها وحال عمره دون الاشتراك فيها. أكانت الخطب تلقى بهذه القوة؟ أكان الناس يتلقونها بمثل هذا الحماس؟ أكان الموت لذلك يهون؟ من مثل هذا الموقف بدأ فهمي دون ريب، ثم اندفع إلى الموت. إلى الخلود أم إلى الفناء؟! أمن الممكن أن يستشهد رجل في مثل حاله من الشك؟ لعل الوطنية - كالحب - من القوى التي نذعن لها وإن لم نؤمن بها!
إن فورة الحماس عالية، الهتافات حارة متوعدة ، المقاعد ترتج بمن فوقها، فما الخطوة التالية؟ ما يدري إلا والجموع تتجه نحو الخارج. وغادر موضعه وهو يلقي نظرة عامة باحثا عن شباب أسرته ولكنه لم يعثر لهم على أثر. وغادر السرادق من الباب الجانبي، ثم سار مستهدفا شارع قصر العيني في خطوات سريعة حتى يسبق الجموع. ومر في طريقه ببيت الأمة وكان كلما مر به يعلق به بصره، وردد عينيه بين الشرفة التاريخية والفناء الذي شهد أجل الذكريات الوطنية، أجل لهذا البيت مثل السحر في نفسه؛ فها هنا كان يقف سعد، وها هنا كان يقف فهمي وأقرانه، وفي هذا الطريق الذي يسير فيه الآن كان ينطلق الرصاص ليستقر في صدور الشهداء. إن قومه في حاجة دائمة إلى الثورة ليقاوموا موجات الطغيان التي تترصد سبيل نهضتهم، في حاجة إلى ثورات دورية تكون بمثابة التطعيم ضد الأمراض الخبيثة، والحق أن الاستبداد هو مرضهم المتوطن. هكذا نجح اشتراكه في العيد الوطني في تجديد نفسه؛ فلم يكن يهمه في تلك اللحظة إلا أن تجيب مصر على تصريح هور إجابة حاسمة كاللكمة القاضية. وانتصبت قامته النحيلة الطويلة، وارتفع رأسه الكبير، واشتد وقع خطاه وهو يتقدم أمام الجامعة الأمريكية متخيلا أمورا جليلة وأفعالا خطيرة. حتى المدرس ينبغي أن يثور أحيانا مع تلاميذه. وابتسم فيما يشبه الكآبة .. مدرس كبير الرأس مقضي عليه بأن يعلم مبادئ الإنجليزية - المبادئ فحسب - رغم أنه يطلع بها على أسرار وأسرار، يحتل جسمه من مزدحم الأرض موضعا ضئيلا، أما خياله فيضطرب في الدوامة التي تحيط بمغالق الطبيعة. يسأل في الصباح عن معنى كلمة وهجاء أخرى ويتساءل بالليل عن معنى وجوده ذلك اللغز القائم بين لغزين. وفي الصباح أيضا يضطرم فؤاده بالثورة على الإنجليز وفي الليل تدعوه الأخوة العامة المعذبة - أخوته لبني الإنسان - للتعاون أمام لغز القضاء. وهز رأسه في شيء من العنف كأنما ليطرد عنه هذه الخيالات. وقد ترامت إلى مسامعه أصوات الهتاف وهو يقترب من ميدان الإسماعيلية فأدرك أن المتظاهرين قد وصلوا إلى شارع قصر العيني؛ ودعاه الشعور بالنضال الذي يعمر صدره إلى التوقف لعله يشترك على نحو ما في مظاهرة 13 نوفمبر. شد ما طال بالوطن موقف الصابر الذي يتلقى الضربات. اليوم توفيق نسيم وأمس إسماعيل صدقي وأول أمس محمد محمود، تلك السلسلة المشئومة من الطغاة التي تمتد إلى ما قبل التاريخ. كل ابن كلب غرته قوته يزعم لنا أنه الوصي المختار وأن الشعب قاصر.
مهلا! .. إن المظاهرة تغلي وتفور، ولكن ما هذا؟! التفت كمال إلى الوراء في اضطراب: سمع صوتا اهتز له قلبه. وأنصت في انتباه فصك الصوت مسامعه مرة أخرى. إنه الرصاص. ورأى المتظاهرين عن بعد يضطربون في دوامة خطيرة لا يتضح له أمرها، ولكن جماعات كانوا يهرعون نحو الميدان، وآخرين إلى الشوارع الجانبية، وكثير من الكونستبلات الإنجليز فوق الجياد ينهبون الأرض. وعلا الهتاف واختلط بأصوات الغضب والصراخ واشتد انطلاق الرصاص، وخفق قلبه وتساءلت دقاته عن عبد المنعم وأحمد ورضوان، وامتلأ اضطرابا وغضبا، وتلفت يمنة ويسرة فرأى قهوة غير بعيد على الناصية فاتجه إليها - وقد أغلق بابها نصف إغلاق - وما إن مرق منها حتى تذكر دكان البسبوسة بالحسين حيث سمع طلقات الرصاص لأول مرة، وشاع الاضطراب في كل مكان، وانطلق الرصاص في غزارة مخيفة ثم متقطعا. وترامت أصوات كسر زجاج وصهيل خيل، وعلت أصوات مزمجرة دلت على أن تجمعات ثائرة تنتقل من مكان إلى مكان بسرعة خاطفة. ودخل المشرب شيخ وقال قبل أن يسأله أحد عما وراءه: «إن رصاص الكونستبلات ينهال على الطلبة والله أعلم بعدد الضحايا»، ثم جلس وهو يلهث، وعاد يقول بصوت متهدج: «غدروا بالأبرياء غدرا، لو كان تفريق المظاهرة غايتهم لأطلقوا الرصاص في الهواء من مواقعهم البعيدة، ولكنهم سايروا المظاهرة في هدوء مصطنع، وجعلوا يوزعون أنفسهم على مخارج الطريق، وفجأة أشهروا المسدسات وأطلقوا الرصاص على المقاتل، أطلقوا بلا رحمة، وسقط الصغار يتخبطون في دمهم، الإنجليز وحوش، ولكن الجنود المصريين ليسوا دونهم وحشية، إنها مذبحة مدبرة يا إلهي!» وجاء صوت من آخر المقهى يقول: «كان قلبي يحدثني بأن اليوم لن يمضي على خير.» فأجاب آخر: «أيام تنذر بالشر. فمنذ أعلن هور تصريحه والناس تتوقع أحداثا خطيرة، هذه معركة وستتلوها معارك، وأؤكد لكم هذا!» - الضحايا الطلبة دائما، أعز أبناء الأمة، وا أسفاه! - ولكن الضرب سكت، أليس كذلك؟! أنصتوا .. - المظاهرة الأصلية عند بيت الأمة، وسيستمر الضرب هنالك ساعات طويلة!
ولكن الصمت ساد الميدان. ومضى الوقت ثقيلا مشحونا بالتوتر. وأخذت الظلمة تدنو حتى أضيئت أنوار المقهى ثم لم يعد يسمع صوت كأنما حل بالميدان والشوارع المحيطة به الموت، وفتح باب المقهى على مصراعيه فتراءى الميدان خاليا من المارة والمركبات. ثم جاء طابور من فرسان البوليس ذوي الخوذات الفولاذية فطاف بالميدان يتقدمه الرؤساء الإنجليز: وكان باطن كمال لا يكف عن التساؤل عن مصير الأبناء. ولما دبت الحركة في الميدان مرة أخرى غادر المقهى متعجلا، ولم يعد إلى بيته حتى مر بالسكرية وقصر الشوق واطمأن على عبد المنعم وأحمد ورضوان.
وخلا إلى نفسه في مكتبته بقلب مليء بالحزن والأسى والغضب. لم يقرأ كلمة ولم يكتب كلمة، وظل عقله غائبا في منطقة بيت الأمة، في هور والخطبة الثائرة والهتاف الوطني وأزيز الرصاص وصرخات الضحايا. ووجد نفسه يحاول أن يتذكر اسم صاحب دكان البسبوسة التي اختبأ بها قديما ولكن الذاكرة لم تسعفه.
5
Bog aan la aqoon