أما كمال فقال له: إذا لم يكن عندك مانع فتزوج في الحال ..
هذا الشاب ما أجمله! وهو مرشح للجاه والمال! لو رأته عايدة في زمانها لعشقته، ولو ألقى نظرة عابرة على بدور لشغفها حبا، أما هو فيدور على نفسه والدنيا كلها تتقدم، ولا يزال يتساءل: أتزوج أم لا أتزوج! والحياة تبدو حيرة مظلمة. فلا هي فرصة سانحة ولا هي فرصة ضائعة، والحب عسير طبعه الخصام والعذاب، فليتها تتزوج حتى يخلص من حيرته وعذابه!
وإذا بعبد المنعم يدخل عليهم تتقدمه لحيته وهو يقول: تفضلوا إلى البوفيه، احتفالنا اليوم قاصر على المعدة ..
47
كان كمال يسير متسكعا في شارع فؤاد الأول، وكانت الساعة تدور في العاشرة من صباح الجمعة فلقي طريقا خاصا بالمارة والواقفين، نساء ورجالا، وكان الجو لطيفا كأكثر أيام نوفمبر، يغري بالمشي. وقد ألف أن يتخفف من عزلته القلبية بالاندساس بين الناس في يوم عطلته، فيمضي على وجهه بلا غاية، متسليا بمشاهدة الناس والأشياء، وصادفه في طريقه أكثر من واحد من تلاميذه الصغار فحيوه برفع أيديهم إلى رءوسهم، فرد تحيتهم بأحسن منها باسما. ما أكثر تلاميذه! منهم من توظف، ومنهم من لا يزال بالجامعة، وغالبيتهم بين الابتدائي والثانوي؛ فليس بالعمر القصير أن تخدم العلم والتعليم أربعة عشر عاما. وكان منظره التقليدي لا يكاد يتغير، البذلة الأنيقة والحذاء اللامع والطربوش المستقيم والنظارة الذهبية والشارب الغليظ، حتى درجته السادسة لم تتغير أربعة عشر عاما رغم ما يشاع عن تفكير الوفد في إنصاف الهيئات المظلومة، شيء واحد تغير هو رأسه الذي انتشر المشيب في سوالفه - وبدا سعيدا بتحيات تلاميذه الذين يحبونه ويحترمونه، وتلك منزلة لم يظفر بمثلها أحد من المدرسين، ظفر بها هو رغم رأسه وأنفه، وبالرغم مما اعترى تلاميذ هذه الأيام من شيطنة وجموح!
وعندما بلغ تسكعه تقاطع عماد الدين مع فؤاد الأول ما يدري إلا وبدور تطالعه وجها لوجه. وخفقت جوانحه كأنما انطلقت بها صفارة الإنذار، وجمد بصره لحظات، ثم هم بالابتسام ليتفادى من الموقف الحرج، غير أنها حولت عنه عينيها في تجاهل بين ودون أن تلين أساريرها ثم مرقت من جانبه، وعند ذلك فحسب رأى أنها تتأبط ذراع شاب تسير في صحبته! وتوقف عن المسير، ثم أتبعها ناظريه، أجل هي بدور، في معطف أسود أنيق، وهذا صاحبها في مثل أناقتها ولعله لم يبلغ الثلاثين بعد. وبذل جهدا صادقا ليتمالك نفسه التي هزتها المفاجأة ثم تساءل في اهتمام من يكون هذا الشاب؟ ليس أخا لها، ولا هو بالعاشق؛ إذ إن العشاق لا يجاهرون بحبهم في شارع فؤاد الأول خاصة صباح الجمعة، فهل يكون ...؟! وتتابعت دقات قلبه في إشفاق، ثم تبعهما دون تردد، وعيناه لا تفارقانهما، ووعيه مركز فيهما حتى شعر بأن حرارته ترتفع وأن ضغطه يصعد وأن دقات قلبه تنعاه، ورآهما يتوقفان أمام معرض محل لبيع الحقائب، فدنا منهما متباطئا مصوبا عينيه نحو يد الفتاة اليمنى حتى استقر بصره على الخاتم الذهبي! ولفحه إحساس حار كأنه مزيج من الألم العميق، وكان قد مضى على موقف شارع ابن زيدون أربعة أشهر، فهل كان هذا الشاب يرصده في نهاية الطريق ليحل محله؟ وما ينبغي أن يدهش؛ فإن أربعة شهور زمن طويل قد تنقلب فيه الدنيا رأسا على عقب. ووقف أمام محل اللعب على بعد يسير من موقفهما، يلحظهما وكأنه يتفرج على اللعب. إنها اليوم تبدو أجمل مما كانت في أي يوم مضى، كالعروس بكل معنى الكلمة! ولكن ما هذا السواد الذي يشيع في كافة ملابسها؟ إن سواد المعطف أمر مألوف بل فاخر ولكن ما بال فستانها أسود كذلك؟ موضة أم حداد؟ أتكون أمها قد توفيت؟ ليس من عادته تصفح الوفيات في الصحف ولكن ماذا يهمه من ذلك! الذي يهمه حقا أن صفحة بدور قد انطوت في كتاب حياته. انتهت بدور، وعرف السؤال الحائر «أتزوج أم لا أتزوج» جوابه المحتوم! فليهنأ بالطمأنينة بعد الحيرة والعذاب! وكم تمنى لو تتزوج ليخلص من عذابه. فها هي قد تزوجت فليهنأ بالخلاص من العذاب! وخيل إليه أن إنسانا لو ذبح لعانى مثل الإحساس الذي يعانيه في موقفه. إن أبواب الحياة تغلق في وجهه وقد نبذ خارج أسوارها. ثم رآهما يتحولان عن موقفهما، ويتجهان نحوه، ومرا به في سلام وأتبعهما عينيه وهم بالمسير في أثرهما ولكنه عدل عن ذلك فيما يشبه الضجر، ولبث أمام معرض اللعب، ينظر ولا يرى شيئا. ونظر صوبهما مرة أخرى كأنما ليلقي عليها نظرة الوداع، وكانت تبتعد دون توقف، تختفي تارة وراء المارة وتبدو تارة، ويرى منها جانب مرة ثم يرى جانب آخر، وكان كل وتر من أوتار قلبه يغمغم: «وداعا.» ونفذ إلى أعماقه شعور العذاب مصحوبا بأنغام حزينة ليست بالجديدة. فذكر بها حالا مماثلة ماضية، دبت في أعماقه جارة وراءها شتى ذكرياتها المدغمة، كأنها لحن غامض مثير لأجل الألم وهو في الوقت نفسه لا يخلو من لذة خفيفة مبهمة! شعور واحد يلتقي فيه الألم باللذة، كالفجر تلتقي عنده حاشية الليل بأهداب النهار. ثم اختفت عن ناظريه، وربما اختفت إلى الأبد، كما اختفت أخت لها من قبل! ووجد نفسه يتساءل: من عسى أن يكون خطيبها؟ لم يستطع أن يتفحصه وكم يود أن يفعل. وود - أن يكون موظفا - أن يكون من طبقة أدنى من طبقة المعلمين! ولكن ما هذه الأفكار الصبيانية! إنه لأمر مخجل، أما عن الألم فجدير بالخبير به أن يطمئن؛ إذ إنه عرف بالتجربة أن مصيره - ككل شيء - إلى الموت. وانتبه لأول مرة إلى معرض اللعب الذي ينبسط تحت عينيه. كان آية في التنسيق والجمال، حاويا لشتى فنون اللعب التي يهيم بها الأطفال، من قطارات وسيارات وأراجيح وأدوات موسيقية وبيوت وحدائق، فانجذب إلى المنظر أمامه بقوة غريبة تفجرت عنها نفسه المعذبة حتى تشبثت به عيناه. لم يتح له في طفولته أن ينعم بهذه الجنة، فكبر طاويا نفسه على غريزة لم تشبع وفات أوان إشباعها. وهؤلاء الذين يتحدثون عن سعادة الطفولة من أدراهم بها؟ ومن ذا يستطيع أن يجزم بأنه كان طفلا سعيدا؟ لذلك فما أسخف هذه الرغبة الطارئة البائسة التي تحلم بأن ترده طفلا مثل هذا الطفل الخشبي الذي يلعب في هذه الحديقة الوهمية الجميلة! إنها رغبة سخيفة ومحزنة في آن. ولعل الأطفال في الأصل كائنات لا تحتمل، ولعلها المهنة وحدها التي علمته كيف يمكن التفاهم معهم وتوجيههم. ولكن كيف كانت تكون الحياة لو رد إلى الطفولة محتفظا في ذات الوقت بعقله النامي وذاكرته؟ فيعود إلى اللعب في بستان السطح بقلب عامر بذكريات عايدة، أو يمضي إلى العباسية عام 1914 فيرى عايدة وهي تلعب في الحديقة ويعرف في الوقت نفسه ما لقيه منها عام 1924 وما بعده! أو يخاطب أباه وهو يلثغ فيقول له إن الحرب ستقع عام 1939 وأنه سيقضى عليه عقب إحدى غاراتها! يا لها من أفكار سخيفة ولكنها خير على أي حال من التركيز في هذه الخيبة الجديدة التي ارتطم بها الآن في شارع فؤاد، خير من التفكير في بدور وخطيبها وموقفه منها. ولعل ثمة خطأ في الماضي يكفر عنه وهو لا يدري. كيف ومتى وقع هذا الخطأ؟ لعله حادث عرض أو كلمة قيلت أو موقف كابده، هذا أو ذاك هو المسئول عن هذا العذاب الذي يعاني. يجب أن يعرف نفسه حتى يتيسر له أن يخلصها من آلامها؛ فالمعركة لم تنته بعد، والتسليم لم يقع، وما ينبغي له أن يقع، ولعله المسئول عن ذلك التردد الجهنمي الذي انتهى به إلى قضم الأظافر على حين مضت بدور متأبطة ذراع خطيبها! وينبغي التفكير مرتين في هذا العذاب المبطن بلذة غامضة؛ أليس هو الذي ذاقه قديما في صحراء العباسية وهو يتطلع إلى الضوء المنبعث من نافذة حجرة الزفاف؟ فهل كان تردده حيال بدور حيلة لدفع نفسه إلى موقف مماثل؛ ليستعيد مشاعر قديمة فيثمل بعذابها ولذتها معا؟! يحسن به قبل أن يحرك يده للكتابة عن الله والروح والمادة أن يعرف نفسه، بل شخصه المفرد، كمال أفندي أحمد، بل كمال أحمد، بل كمال فقط، حتى يتسنى له أن يخلقه من جديد. وليبدأ الليلة بمعاودة كراسة الذكريات ليتفحص الماضي جيدا، وستكون ليلة بلا نوم، ولكنها ليست الأولى من نوعها، فعنده منها ذخيرة يصح جمعها في مؤلف واحد تحت عنوان «ليالي بلا نوم». ولن يقول إن حياته عبث؛ ففي النهاية سيخلف عظاما قد تصنع منها الأجيال القادمة أداة للهو! أما بدور فقد ولت من حياته إلى الأبد. يا لها من حقيقة مليئة بالشجن، كاللحن الجنائزي! ولم تترك ذكرى حنان واحدة، لا عناق ولا قبل، حتى ولا لمسة أو كلمة طيبة، ولكنه لم يعد يخشى السهاد؛ فقديما كان يلقاه وحيدا، أما اليوم فدون ذلك أفانين تغيب فيها العقول والقلوب، ثم يذهب إلى عطية في البيت الجديد بشارع محمد علي، ثم يواصلان أحاديثهما التي لا تنقضي. وفي آخرة مرة قال لها بلسان أثقله السكر: كم يوافق أحدنا الآخر !
فقالت له بسخرية مستسلمة: ما ألطفك في سكرك! ..
فاستطرد: ما أسعدنا من زوجين لو تزوجنا ..
فقالت مقطبة: لا تهزأ بي فقد كنت «سيدة» بكل معنى الكلمة .. - نعم، نعم، إنك ألذ من الفاكهة في أبانها ..
فقرصته هازئة وقالت: هذا قولك ولكنني إذا سألتك ريالا فوق ما تعطيني هربت! - إن ما بيننا ليسمو فوق النقود!
Bog aan la aqoon