151

ومرة وهو يقطع كعادته شارع ابن زيدون صادف في طريقه أم حبيبته متجهة نحو البيت. عرفها من أول نظرة رغم أنه لم يرها منذ سبعة عشر عاما على الأقل. ولم تكن «الهانم» التي عرفها قديما. ذبلت ذبولا محزنا وركبها الهم قبل الكبر ولم يكن في وسع إنسان أن يتصور أن هذه المرأة الساعية في هزالها هي نفس الهانم التي كانت تخطر في حديقة القصر في نهاية من الجمال والكمال! ورغم هذا كله فقد ذكرته هيئة رأسها بعايدة فقطع قلبه منظرها، وكان حسن الحظ أنه تبادل مع بدور الابتسام قبل رؤيتها وإلا ما استطاع أن يبتسم: ثم ما يدري إلا وهو يتذكر عائشة! ثم يذكر كيف أثارت عاصفة من النكد هذا الصباح في البيت وهي تبحث عن طاقم أسنانها التي نسيت أين أودعته قبل نومها. وأول أمس رأي بدور واقفة في الشرفة على غير عادتها ثم تبين أنها متهيئة للخروج! وتساءل أتخرج وحدها؟! وما لبثت أن غابت من الشرفة فمضى في سبيله متمهلا متفكرا. حقا لو جاءت وحدها فإنما تجيء له، هذا الظفر المسكر لعله يغسل إهانة حلت منذ سنين! ولكن هل كانت عايدة تفعل هذا ولو انشق القمر؟! وعندما بلغ منتصف الطريق التفت إلى الوراء فرآها قادمة .. وحدها! وخيل إليه أن خفقان قلبه سيطرق مسامع الجيران. وسرعان ما شعر بخطورة الموقف الوشيك الحدوث حتى نازعته بعض جوانب نفسه إلى الهروب! كان تبادل الابتسام قبل ذلك لهوا عاطفيا بريئا أما اللقاء فسيكون له شأن وأي شأن. هو مسئولية وخطورة ومطالبة بالحسم في الاختيار. ولو هرب الآن لمنح نفسه مزيدا من التروي .. ولكنه لم يهرب، وتقدم في خطاه المتمهلة كالمخدر حتى أدركته عند منعطف الطريق إلى شارع الجلال، وفي التفاتة منه التقت عيناهما في ابتسامة، فقال: مساء الخير .. - مساء الخير ..

وتساءل وشعوره بالخطورة يتزايد : إلى أين ؟ - عند واحدة صاحبتي، هناك في هذا الاتجاه ..

وأشارت صوب شارع الملكة نازلي، فقال في استهتار: إنه طريقي فهل تسمحين بأن نسير معا؟

فقالت وهي تداري ابتسامة: تفضل ..

وسارا جنبا إلى جنب. إنها لم تتحل بهذا الفستان الجميل لتقابل واحدة صاحبتها ولكن لتقابله هو، وها هو قلبه يستقبلها بالوجد والحنان، ولكن كيف يكون مسلكه؟ لعلها ضاقت بجموده فجاءت بنفسها لتهييء له فرصة مواتية فإما ينتهزها إكراما لها وإما يتجاهلها فيفتقدها إلى الأبد، هي كلمة قد تقال فيتورط قائلها مدى العمر أو تحبس فيندم حابسها مدى العمر، هكذا دفع إلى مأزق وهو لا يدري، وها هو الطريق يطوى ولعلها تترقب. وهي تبدو مستجيبة ملبية كأنها ليست من آل شداد. أجل ليست من آل شداد في شيء؛ لقد انتهى آل شداد، وولى زمانهم، وليست التي تسايرك إلا فتاة سيئة الحظ، والتفتت نحوه كالباسمة فقال برقة: فرصة سعيدة! - شكرا!

ثم ماذا؟! يبدو أنها تنتظر خطوة جديدة من ناحيته، وها هي نهاية الطريق تقترب، يجب أن يقطع برأي فإما التورط وإما الوداع، لعلها لا تتصور أبدا أن يفترقا ببساطة، ولو كلمة واعدة، وها المفترق على بعد خطوات، إنه يشعر شعورا مؤلما بمدى الخيبة التي ستمنى بها، ويأبى لسانه أن ينطق، أم يتكلم وليكن ما يكون؟! وتوقفت عن المسير وابتسمت ابتسامة مرتبكة كأنما تقول آن لنا أن نفترق فبلغ به الاضطراب نهايته، ثم مدت يدها، فتلقاها بيده وصمت فترة رهيبة، ثم غمغم: مع السلامة!

واستردت يدها ثم مالت إلى عطفة جانبية. أوشك أن يناديها؛ إن ذهابها متعثرة بالخيبة والخجل كابوس لا يحتمل. وأنت أدرى بهذه المواقف التعيسة؛ غير أن لسانه انعقد. فيم كانت متابعته لها طوال الشهرين الماضيين. أمن الذوق أن ترفضها وقد جاءتك بنفسها؟ أمن الرحمة أن تعاملها نفس المعاملة التاريخية التي عاملتك بها أختها؟ وأنت تحبها؟! وهل تلقى من ليلها ما لقيت من ليلتك التي خلفتها وراءك كالجمرة المتقدة تضيء في غياهب الماضي بالألم المنصهر؟!

وواصل سيره وهو يتساءل ترى أيريد حقا أن يبقى أعزب لكي يكون فيلسوفا أم إنه يدعي الفلسفة ليبقى أعزب؟ وقال له رياض: هذا شيء لا يصدق، ولسوف تندم! وهو شيء لا يصدق حقا ولكن هل يندم أيضا؟ وقال به كيف هان عليك أن تقطعها وقد كنت تتحدث عنها وكأنها فتاة أحلامك؟ ليست فتاة أحلامه .. إن فتاة أحلامه لم تكن لتسعى إليه أبدا. وأخيرا قال له: إنك في نهاية السادسة والثلاثين من عمرك ولن تكون بعد ذلك صالحا للزواج. فامتعض لقوله وداخلته كآبة ..

46

جاءت كريمة إلى السكرية في حلة العروس في عربة مع والديها وأخيها. وكان في استقبالهم إبراهيم شوكت وخديجة وأحمد وزوجه سوسن حماد وكمال. ولم يكن ثمة ما يدل على زفاف إلا طاقات الورد التي طوقت الصالة، أما المنظرة فقد امتلأت بذوي اللحى من الشبان يتوسطهم الشيخ علي المنوفي. ومع ذلك كان قد مر عام ونصف على وفاة السيد إلا أن أمينة لم تشهد الزفاف ووعدت بالحضور للتهنئة فيما بعد، أما عائشة فإنها عندما دعتها خديجة إلى شهود الدخلة الصامتة هزت رأسها عجبا وقالت بلهجة عصبية: أنا لا أشهد إلا المآتم!

Bog aan la aqoon