فأجابه رجل من أهل الحي: المرحوم السيد أحمد عبد الجواد.
فجعل وجه الرجل يهتز يمنة ويسرة في ارتعاش، وملامحه تتساءل في حيرة، ثم إذا به يسأل: من أين؟ ..
فأجابه الرجل وهو يهز رأسه في شيء من الحزن: من هذا الحي، كيف لا تعرفه! ألا تذكر السيد أحمد عبد الجواد؟! ..
ولكن لم يبد عليه أنه تذكر شيئا، وألقى نظرة أخرى على النعش ثم سار في سبيله ..
38
خلا البيت من سيدي فليس هو البيت الذي عاشرته أكثر من خمسين عاما، والجميع يبكون حولي، وخديجة لا تفارقني؛ فهي قلبي العامر بالحزن والذكريات، وهي قلب كل قلب، بل هي ابنتي وأختي وأمي أحيانا، وأكثر بكائي خلسة حين أخلو إلى نفسي إذ ينبغي أن أشجعهم على النسيان فما يهون علي أن يحزنوا أو - لا قدر الله - أن ينال منهم الحزن أي منال. أما إذا خلوت إلى نفسي فلا أجد عزاء إلا في البكاء فأبكي حتى تجف دموعي، وأقول لأم حنفي إذا تسللت إلى وحدتي الباكية دعيني وشأني يرحمك الله. فتقول لي كيف أتركك وأنت على هذه الحال؟ أنا عارفة بحالك .. ولكنك ست مؤمنة بل أنت ست المؤمنات فعندك نتعلم العزاء والتسليم لقضاء الله .. قول جميل يا أم حنفي ولكن أنى للقلب المحزون أن يفقه معناه، ولم يعد لي شأن في هذه الدنيا ولم يعد لي عمل وكل ساعة من ساعات يومي مرتبطة بذكرى من ذكريات سيدي .. لم أعرف الحياة إلا وهو محورها الذي تدور حوله فكيف أطيقها ولم يعد له فيها ظل، وأنا أول من اقترح تغيير معالم الحجرة العزيزة .. ما حيلتي ما داموا لا يدخلونها حتى تتعلق أبصارهم بمكانه الخالي ويجهشون بالبكاء .. وسيدي يستحق الدموع التي تسيل من أجله، ولكني لا أطيق بكاءهم، وأخاف على قلوبهم الغضة فأعزيهم بما تعزيني به أم حنفي وأطالبهم بالتسليم لله وقضائه؛ ولذلك أخليت الحجرة من أثاثها القديم، وانتقلت إلى حجرة عائشة، ولكيلا تهجر الحجرة وتستوحش نقلت إليها أثاث الصالة فانتقل إليها مجلس القهوة حيث نجتمع حول المجمرة نتحدث كثيرا وتقطع أحاديثنا الدموع، ولا يشغلنا شيء كما يشغلنا الإعداد للقرافة، وأشرف بنفسي على تجهيز الرحمة فلعله الواجب الأوحد الذي لم أتخل عنه لأم حنفي كما تخليت لها عن كل شيء، تلك المرأة العزيزة الوفية التي دخلت بجدارة في صميم أسرتنا، فنحن نعد الرحمة معا ونبكي معا ونتذاكر الأيام الجميلة معا فهي دائما معي بروحها وذاكرتها، وأمس جر الحديث إلى ذكر ليالي رمضان فبادرت تحدث عن سيرة سيدي في رمضان منذ ساعة استيقاظه في الضحى حتى حين عودته إلينا عند السحور، فذكرت بدوري كيف كنت أهرع إلى المشربية لأرى الحنطور الذي يعيده، وأستمع إلى ضحكات راكبيه أولئك الذين ذهبوا تباعا إلى رحمة الله كما ذهبت الأيام الحلوة وكما ذهب الشباب والصحة والعافية، فاللهم متع الأبناء بطول العمر وقر أعينهم بأفراح الحياة، وهذا الصباح رأيت قطتنا تشمم الأرض تحت الفراش حيث كانت ترضع فلذات كبدها التي أهديناها إلى الجيران فقطع قلبي منظرها الحائر الحزين وهتفت من أعماق قلبي: الله يصبرك يا عائشة .. عائشة المسكينة التي هاج موت أبيها حزنها فهي تبكي أباها وابنتها وابنيها وزوجها، فما أحر الدموع! وأنا التي تجرعت مرارة الثكل قديما حتى سال قلبي دما واليوم أفجع بوفاة سيدي وتخلو حياتي منه وكان ملء حياتي جميعا، ولا يبقى لي من الواجبات إلا أن أعد له الرحمة أو أتلقاها من السكرية وقصر الشوق، فهذا كل ما بقي لي، كلا يا بني، اختر لنفسك هذه الأيام مجلسا غير مجلسنا الحزين حتى لا تسري إليك عدواه .. لماذا أنت واجم؟ الحزن لم يخلق للرجال؛ فالرجل لا يستطيع أن يحمل الأعباء والأحزان معا .. اصعد إلى حجرتك وتسل بالقراءة والكتابة كما تفعل أو انطلق إلى أصحابك فاسهر، ومن بدء الخليقة فالأعزاء يفارقون ذويهم، فلو كان الاستسلام إلى الحزن هو المتبع لما بقي على ظهر الأرض حي .. لست حزينة كما تتوهم، وما ينبغي للمؤمن أن يحزن، وسوف نعيش إذا أراد الله وسوف ننسى، ولا سبيل إلى العزيز الذي سبق إلا حين يشاء الله، هكذا أقول له ولا آلو أن أتكلف ما ليس بي من التصبر والتجلد إلا إذا هلت خديجة قلب بيتنا الحي وذرفت الدموع بلا حساب هنالك لا أملك أن أجهش في البكاء، وقالت لي عائشة أنها رأت أباها في المنام قابضا على ساعد نعيمة بيد وعلى ساعد محمد بيد حاملا عثمان على كتفه، وقال لها إنه بخير وإنهم بخير فسألته عن سر النافذة التي نورت لها في السماء ثم توارت إلى الأبد فتجلت في عينيه نظرة عتاب ولم ينبس. ثم سألتني عن معنى الحلم. يا حيرة أمك يا عائشة .. غير أني قلت لها إن العزيز مات وهو مشغول القلب بها ولذلك زارها في الحلم وجاءها بأولادها من الجنة؛ لتقر برؤيتهم عينا فلا تنغصي عليهم صفوهم باستسلامك للحزن، ليت عائشة الزمان الأول تعود ولو ساعة، ليت الذين حولي يبرءون من حزنهم حتى لا يشغلني شاغل عن واجب الحزن العميق، وجمعت ياسين وكمال وقلت لهما: هذه المخلفات العزيزة ماذا نفعل بها، فقال ياسين: آخذ الخاتم فإنه على قد أصبعي، ولك الساعة يا كمال، أما المسبحة فلك أنت يا نينة .. والجبب والقفاطين؟ .. وذكرت من توي الشيخ متولي عبد الصمد الذكرى الباقية من عهد العزيز فقال ياسين: لقد انتهى الرجل فهو في غيبوبة ولا يعرف له مقر. وقال كمال مقطبا: لم يعرف أبي! .. نسى اسمه وتولى عن الجنازة دون اكتراث. فانزعجت وأنا أقول: يا للعجب متى حدث هذا؟ كان سيدي يسأل عنه حتى أيامه الأخيرة وكان دائما يحبه ولم يره إلا مرة أو مرتين مذ زار بيتنا ليلة دخلة نعيمة، ولكن رباه، أين نعيمة! وأين ذلك التاريخ كله؟ ثم اقترح ياسين أن تهدى الملابس إلى سعاة ديوانه وفراشي مدرسة كمال فليس أحق بها من الفقراء أمثالهم الذين سيدعون له بالرحمة في مقره الأخير، أما المسبحة العزيزة فلن تفارق يدي حتى أفارق الحياة، والقبر كم يبدو حلو المزار على ما يثير من شجن ولم أكن انقطعت عنه منذ انتقل إليه الشهيد الغالي، ومنذ ذلك الوقت وأنا أعتبره حجرة من بيتنا لكنها في أطراف حينا، ويجمعنا القبر جميعا كما كان يجمعنا مجلس القهوة في الزمن الخالي، وتنوح خديجة حتى ينال منها الإعياء ثم نؤمر بالسكوت تأدبا لاستماع القرآن، ثم يشغلهم الحديث حينا فأسر بما يصرف أعزائي عن الحزن، ويشتبك رضوان وعبد المنعم وأحمد في نقاش طويل وتنضم إليهم كريمة أحيانا فذاك ما يغري كمال بمشاركتهم الحديث ويلطف من كآبة المقام، ويسأل عبد المنعم عن خاله الشهيد فيقص ياسين القصص فتنبعث الحياة في الأيام القديمة ويعود غائب الذكريات ويخفق قلبي فلا أدري كيف أداري دموعي، وكثيرا ما أرى كمال واجما فأسأله عما به فيقول لي: إن صورته لا تفارقني، خاصة منظر الاحتضار؛ فلو كانت نهايته أخف! فقلت له برقة: عليك أن تنسى هذا كله. فتساءل: كيف يكون النسيان؟ فقلت له: بالإيمان. فابتسم ابتسامة حزينة وقال: كم كنت أخافه في مطلع حياتي! ولكنه تكشف لي في عهده الأخير عن إنسان جديد بل صديق حبيب. ألا ما كان أظرفه وأرقه وألطفه، لم يكن في الرجال مثله، وياسين يبكي كلما أهاجته الذكرى .. كمال حزنه في صمته الواجم أما ياسين الضخم فيبكي كالأطفال ويقول لي إنه الرجل الوحيد الذي أحببته في حياتي، أجل كان أباه وكان أمه ولم ينعم بالعطف والحنان والرعاية إلا في كنفه، حتى شدته كانت رحمة، ولن أنسى يوم عفا عني وردني إلى بيته فصدق فراسة أمي رحمها الله التي ما انفكت تقول لي: إن السيد ليس بالرجل الذي يقطع أم أولاده. وكان يجمعنا حبه فاليوم تجمعنا ذكراه، أما بيتنا فلا يخلو من الزوار غير أن قلبي لا يسكن حتى أجد خديجة وياسين وآلهما حولي .. حتى زنوبة فما أصدق حزنها! وقالت لي كريمة الصغيرة الجميلة: يا جدتي تعالي عندنا؛ فهذه أيام مولد الحسين وتحت بيتنا تقام الأذكار وأنت تحبين ذلك. فقبلتها شاكرة وقلت لها: يا بنيتي، جدتك لم تعتد البيات خارج بيتها .. إنها لا تدري شيئا عن آداب بيت جدها في تلك الأيام التي خلت. ما أجمل ذكراها والمشربية آخر حدود دنياي، حيث أنتظر عودة سيدي آخر الليل وهو من قوته يكاد يهز الأرض عند مغادرته الحنطور، ثم يملأ الحجرة بطوله وعرضه والعافية تكاد تثب من وجهه! أما اليوم فلا يعود ولن يعود، وقبل ذلك ذبل وانزوى ولزم الفراش ورق جسمه وخف وزنه حتى حمل بيد واحدة. يا حزني الذي لن يذهب! وقالت عائشة في غضب: إن هؤلاء الأحفاد لم يحزنوا على جدهم، إنهم لا يحزنون! فقلت لها: بل حزنوا، ولكنهم صغار ومن رحمة الله بهم ألا يغرقوا في الحزن. فقالت: انظري إلى عبد المنعم، لا ينتهي نقاشه، وهو لم يحزن على ابنتي وسرعان ما نسيها كأنها شيء لم يكن. فقلت لها: بل حزن عليها طويلا وبكى كثيرا، وحزن الرجال غير حزن النساء، وقلب الأم غير القلوب جميعا، ومن ذا الذي لا ينسى يا عائشة؟! ونحن ألا نتسلى بالحديث أو يدركنا الابتسام أحيانا؟ وسوف يأتي يوم لا يكون فيه دموع. ثم أين فهمي؟ أين؟ وقالت لي أم حنفي: لماذا امتنعت عن زيارة الحسين؟ فقلت نفسي فاترة عن كل شيء أحببته، وسأزور سيدي عندما يبرأ الجرح. فقالت لي: وهل يبرأ الجرح إلا بزيارة سيدك؟ هكذا ترعاني أم حنفي، وهي ربة بيتنا، ولولاها ما كان لنا بيت. إنك يا ربي رب الجميع، أنت القاضي ولا راد لقضائك، ولك أصلي، وددت لو أبقيت على سيدي قوته حتى النهاية؛ فما آلمني شيء كما آلمني رقاده ، هو الذي كانت الدنيا تضيق عن مراحه .. حتى الصلاة عجز عنها، وما عاناه قلبه الضعيف، وعودته محمولا على الأيدي كالطفل؛ لذلك تسيل دموعي ويتكاثف حزني ..
39 - سأتوكل على الله وأخطب كريمة بنت خالي ..
رفع إبراهيم شوكت عينيه إلى ابنه في شيء من الدهش، أما أحمد فأحنى رأسه وهو يبتسم ابتسامة دلت على أنه لم يفاجأ بالخبر، على حين تركت خديجة الشال الذي تطرزه وحدجته بنظرة غريبة غير مصدقة ثم نظرت إلى زوجها وهي تتساءل: ماذا قال؟
فعاد عبد المنعم يقول: سأتوكل على الله وأخطب كريمة بنت أخيك ..
فبسطت خديجة يديها في حيرة وقالت: هل أفلست الدنيا من الذوق؟ أهذا الوقت مناسب لحديث الخطبة حتى مع صرف النظر عن المخطوبة؟!
Bog aan la aqoon