ثم عادوا إلى مجالسهم بالفراندا التي أضيئت مصابيحها، ولم تلبث لادي فورستر أن قالت: إليكم البيانو فليتفضل أحدكم بإسماعنا لحنا.
فرجاها طالب قائلا: تفضلي أنت بإسماعنا.
فنهضت في رشاقة الشباب الذي جاوزته بأعوام، ثم جلست إلى البيانو وفتحت النوطة وراحت تعزف لحنا. لم يكن أحد منهم ذا إلمام بالموسيقى الغربية أو تذوق لها، ولكنهم أنصتوا في اهتمام بدافع الأدب والمجاملة. وحاول أن يستمد من حبه قوة سحرية يفتح بها مغاليق اللحن، ولكنه نسي اللحن في استراق النظر إلى وجه فتاته، والتقت عيناهما مرة، فتبادلا ابتسامة لم تغب عن كثيرين، وفي نشوة الفرحة قال لنفسه: «أجل، إذا لم أنتهز فرصة اليوم المتاحة فسلام علي.» وعلى أثر فراغ لادي فورستر من عزفها، عزف طالب لحنا شرقيا، ثم خلصوا للسمر وقتا غير قصير، وحوالي الساعة الثامنة مساء ودعوا أستاذهم وأخذوا في الانصراف. ولبد أحمد عند منعرج طريق في ليل بالغ في جماله وحنانه، تحت مظلة من الأشجار الباسقة، حتى رآها قادمة وحيدة في طريقها إلى مسكنها، فبرز لها من المنعطف قاطعا عليها الطريق، فتوقفت في دهش وقالت: ألم تذهب معهم؟
فنفخ فيما يشبه التنهد؛ ليخفف صدره من جيشانه، وقال بهدوء: تخلفت عن القافلة لأقابلك! - ترى ماذا يظنون بتخلفك؟
فقال باستهانة: هذا شأنهم!
وسارت في بطء فسار إلى جانبها، ثم تمخض صبر الأيام الطويلة عنه وهو يقول: أريد أن أسألك قبل عودتي: هل تسمحين لي بالتقدم لخطبتك؟
فارتفع رأسها الجميل كرد فعل لوقع المفاجأة، ولكن لم يند عنها صوت كأنها لم تجد ما تقوله، وكان الطريق خاليا وأضواء المصابيح متوارية خلف الطلاء الأزرق، فعاد يسائلها: أتسمحين لي؟
فقالت بصوت خافت لم يخل من عتاب: هذه طريقتك في الكلام، ويا لها من طريقة، الواقع أنك أذهلتني!
فضحك ضحكة خفيفة، وقال: أعتذر عن ذلك، وإن كنت أظن أن تاريخ صداقتنا الطويل لا يجعل من قولي مفاجأة تذهل. - تعني صداقتنا وتعاوننا الثقافي ؟
فلم يرتح لقولها، ولكنه قال: أعني عاطفتي غير الخفية التي اتخذت شكل الصداقة والتعاون الثقافي كما قلت!
Bog aan la aqoon