الصحبة والصحابة
حسن بن فرحان المالكي
أعد هذا الكتاب إلكترونيا
قطب الدين بن محمد الشروني الجعفري
للتواصل
www.izbacf.org
Bogga 1
المقدمة
مبحث (الصحابة) من المباحث والموضوعات ذات الأهمية البالغة في التراث والفكر الإسلامي قديما وحديثا؛ لما يترتب عليه من قضايا فقهية وحديثية وإيمانية، وجوانب أخرى تتصل بالجوانب الفقهية والسياسية والشوروية والاقتصادية في الفكر الإسلامي، إضافة لقضايا أخرى ذات صلة وثيقة بهذا الموضوع (موضوع الصحابة).
ومن خلال اهتمامي بالتاريخ الإسلامي والعلوم الشرعية من حديث وفقه وعقيدة (أو إيمانيات)... رأيت أن موضوع (الصحبة والصحابة) من أكبر الموضوعات أهمية، وأشدها حرجا، عند كثير من مفكري وعلماء المسلمين، بل عند سائر المهتمين بالإسلام ودراسته من غير المسلمين.
وقد استعرض علماء المسلمين الأوائل كثيرا من سير الصحابة وأخبارهم وفضائلهم، مع نقد من ارتد منهم أو نجم عنه نفاق أو ظلم أو ارتكب أحد المحظورات الشرعية الكبرى (كبائر الذنوب).
Bogga 3
المؤلفات في الصحابة
ولعل أول من أفرد (الصحابة) بمؤلف هو الإمام البخاري، صاحب الصحيح (256ه) في كتابه تاريخ الصحابة (لعله التاريخ المطبوع باسم التاريخ الأوسط وقد طبع باسم التاريخ الصغير أيضا)، وإن كان قد سبقه مصنفون تحدثوا عن الصحابة ضمن تواريخهم وكتبهم التي وضعوها في التراجم كابن سعد (ت230ه) في الطبقات الكبرى والإمام علي بن المديني (234ه) في كتابه (تسمية من نزل من الصحابة في سائر البلدان -مفقود)، وأبوخيثمة زهير بن حرب (234ه) في تاريخه، وخليفة بن خياط شيخ البخاري (240ه) في تاريخه المسمى (تاريخ خليفة ابن خياط)، وغيرهم ممن أدخل تراجم الصحابة في تراجم غيرهم من التابعين فمن بعدهم، لكن أول من ألف فيهم خاصة كان البخاري.
Bogga 4
وتبع الإمام البخاري في إفراد الصحابة بالتأليف جماعة من علماء الحديث والتراجم، فصنف فيهم الحافظ البرقي (270ه)، ثم ألف الإمام الترمذي (279ه) كتاب (تسمية أصحاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم) وهو مطبوع، ثم ألف أبو بكر بن أبي خيثمة (279ه) كتابا بعنوان (تاريخ الصحابة)، ثم عبدان المروزي (293ه) في كتابه (تاريخ الصحابة)، ثم محمد بن عبد الله الحضرمي المعروف بمطين (ت 297ه) في كتابه (الصحابة وهو مفقود)، ثم الإمام أبو منصور الباوردي (310ه) في كتابه (تاريخ الصحابة)، ثم أبو بكر بن أبي داود (316ه)، ثم عبد الله بن محمد البغوي (317ه) في كتابه (معجم الصحابة)، ثم العقيلي (322ه) في كتابه (الصحابة)، ثم ابن قانع (351ه) في كتابه (معجم الصحابة - مطبوع-)، ثم الإمام ابن السكن (353ه) في كتابه (أسماء الصحابة)، ثم الإمام ابن حبان - صاحب الصحيح- (354ه) في كتابه (أسماء الصحابة)، ثم ابن القطان (360ه) في كتابه (أسماء الصحابة) أيضا، وللطبراني (360ه) (المعجم الكبير في أحاديث الصحابة -مطبوع)، ولابن عدي (365ه) كتاب (أسماء الصحابة) أيضا، ثم ابن مندة (390ه) في كتابه (معرفة الصحابة)، ثم ألف الإسماعيلي (396ه) (معجم الصحابة)، وكذلك فعل أحمد الهمداني (398ه)، ثم أبو نعيم الأصبهاني (430ه) في كتاب (معرفة الصحابة -مطبوع-)، ولابن حزم الأندلسي (456ه) كتاب مختصر في (أسماء الصحابة)، ثم جاء الإمام ابن عبد البر (463ه) في كتابه (الاستيعاب في أسماء الأصحاب -مطبوع أكثر من طبعة-) فجمع ما تشتت عند غيره، ثم جاء بعد ابن عبد البر الحافظ ابن عساكر(571ه) فصنف (معجم الصحابة)، ثم جاء الحافظ عز الدين ابن الأثير (630ه) ليؤلف كتابا جامعا أسماه (أسد الغابة في معرفة الصحابة)، استدرك فيه بعض التراجم على من سبقه وأدخل فيه استدراكات ابن فتحون (520ه) على ابن عبد البر، واستدراكات أبي موسى المديني (581ه) على ابن مندة.
Bogga 5
ثم جاء الذهبي (748ه) في كتابه (تجريد أسماء الصحابة)، ثم كان آخر المشهورين من المؤلفين في تراجم الصحابة هو الحافظ ابن حجر العسقلاني (852ه) في كتابه المشهور (الإصابة في تمييز الصحابة) الذي جمع فيه ما لم يجمعه غيره بفضل اطلاعه على مؤلفات من سبقه وإفادته منها.
كانت المؤلفات التي ذكرناها سابقا هي أبرز المؤلفات التي أفردت في تراجم الصحابة جملة، وعلى هذا فلم أذكر المؤلفات في تراجم أفراد من الصحابة ولا المؤلفات في فضائل الصحابة، ولا المؤلفات في تراجم الخلفاء الأربعة، أو تراجم العشرة، أو تراجم زوجات النبي صلى الله عليه وآله وسلم، ولا المؤلفات في مجتهدي الصحابة وفقهائهم، ونحو ذلك مما يطول بنا ذكره.
Bogga 6
المطبوع من المؤلفات في الصحابة
ولم يطبع من الكتب المتقدم ذكرها إلا القليل، لعل أشهرها (الاستيعاب) لابن عبد البر، و(أسد الغابة) لابن الأثير، و(الإصابة) لابن حجر، فلا يكاد يرجع الباحثون عند ترجمة الصحابي إلى غير هذه الكتب الثلاثة، وقد يقتصر بعضهم على الأخير، لاكتنازه بالمعلومات وإحاطته واستدراكاته على من سبقه.
وقد طبع حديثا بعض هذه المؤلفات ككتاب ابن قانع وأبي نعيم.
Bogga 7
أهمية موضوع الصحابة
وموضوع الصحابة كما تقدم من الموضوعات ذات الأهمية القصوى عند المسلمين في القديم والحديث؛ لاختلاف المسلمين في تعريف الصحابي، وعدالة الصحابة، وفضلهم، وما إلى ذلك، وما يترتب على ذلك من رؤى ونظريات وأحكام شرعية... إلخ، وكان لهذا الاختلاف الدور الأساس في نشوء التيارات الفكرية الإسلامية الأولى، وظهور الفرق الإسلامية من القرن الأول، ثم استمرار الاختلاف بينها إلى يومنا هذا.
Bogga 8
السياسة والصحابة
وكانت السياسة تلعب أيضا الدور الأكبر في توسيع الفجوة بين علماء المسلمين وعوامهم، ولم يكن الساسة يشتهون الفرقة بين المسلمين لمجرد الإفساد بينهم، ولكن كانت لهم مصالح في تأييد هذه الجماعة أو تلك، ومنها إظهار الحاكم نفسه بمظهر الحريص على سلامة العقيدة والحامي لها ضد الطوائف الأخرى.
فلذلك شكل مغفلو الصالحين والعوام الساعد الأيمن لكل سلطة تستغل هذه القضية على مر التاريخ، سواء كان هؤلاء من السنة أو الشيعة أو المعتزلة أو النواصب أو الخوارج؛ ولعل الخوارج أخف هؤلاء استغلالا للسلطة.
وقضية (الصحابة) من القضايا المستثمرة في تصفية الخصوم، أو كبتهم، أو التضييق عليهم، أو التشكيك في عقائدهم، وتنفير الناس عنهم، وعن علمهم، دون النظر إلى حججهم وأدلتهم.
ولذلك نجد أنها تكفي عبارة (فلان يطعن في الصحابة) للقضاء على كل إبداع بحثي عند أهل السنة، كما تكفي عبارة (فلان يثني على أعداء أهل البيت) للقضاء على الإبداع نفسه عند الشيعة.
والسنة والشيعة يشكلان أهم فرقتين إسلاميتين من حيث الانتشار، وكثرة الإنتاج الفكري، مع تقدم زمانهما وبداياتهما الهادئة من أيام الخلافة الراشدة، بل إن جذورهما الأولى تمتد منذ عهد النبوة.
Bogga 9
حاجة موضوع الصحابة للباحثين المنصفين
ولهذا كله رأيت أن موضوع (الصحابة) يحتاج من وقت لآخر لجهود الباحثين المنصفين سواء من السنة بتياراتها أو من الشيعة بطوائفها أومن المعتزلة أو الإباضية، أو النواصب، أو الباحثين غير المتمذهبين لمذهب من مذاهب المسلمين، وهذه الفرق بطوائفها المختلفة هي تقريبا الفرق التي تصنف على أنها ممثلة للإسلام في هذا العصر.
نعم الجميع بحاجة إلى حوار، وبحث طويل المدى، لا يكفي فيه مجرد الالتقاء ونقل التشويهات المتبادلة، وإنما يحتاج لبحث هادئ نزيه منصف، بعيد عن كل مصادرة للآراء الأخرى؛ ما دامت تلك الآراء تدعي الانتماء للإسلام والالتزام بالمنهج العلمي.
Bogga 10
لا تقليد!!
وهذا البحث المنصف المطلوب من هؤلاء لا بد فيه من ترك التقليد جانبا، والتحلي بالاجتهاد؛ لأن التقليد من أكبر أسباب تفرق المسلمين، ولا يمكن لأي حوار أو بحث أن يؤتي ثمرته؛ ما دام التقليد راسخا عند هذه الطوائف أو عند كثير ممن يدعي تمثيلها.
وبحكم انتمائي لأهل السنة، فإن ذلك لا يجعلني أتعصب لمؤلفاتهم وعلمائهم، فأولئك العلماء من السلف كانوا ينهوننا عن التقليد، فإذا كانوا ينهوننا صادقين فلماذا لا نلتزم بنصيحتهم؟ وإذا كانوا ينهوننا كاذبين فلماذا نتخذهم قدوة؟.
على أية حال؛ كنت ولا زلت من المهتمين بالتاريخ الإسلامي في صدره الأول (السيرة النبوية وتاريخ الخلفاء الراشدين) وهذا الاهتمام دفعني للتعرف على المصطلحات التي لها علاقة مباشرة ومؤثرة بتلك الفترة.
ومن أبرز المصطلحات ذات التأثير على الفكر الإسلامي والتاريخ الإسلامي وتفسيره مصطلح (الصحبة والصحابة).
Bogga 11
المصطلح الشائع
والمصطلح الشائع عند كثير من علماء المسلمين وخاصة أهل الحديث منهم في كون الصحابي يطلق على (كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لقيه من المسلمين) مصطلح فيه من التجوز الشيء الكثير، وهذا التجوز كان له أثر سيئ على قراءة المسلمين لتاريخ السيرة النبوية وتاريخ القرن الأول.
وسوء القراءة هذه كان لها أثر على الجانب الفقهي والحديثي والأخلاقي والسياسي عند المسلمين، فاختلطت أمور كثيرة في هذه الجوانب نتيجة تعميم مصطلح (الصحبة)، مع التباين الكبير بين مصطلح الصحبة التي أثنى عليها القرآن الكريم والسنة النبوية، وبين الصحبة العامة التي ليس فيها ثناء ولا مديح وإنما كان إطلاقها لغويا.
Bogga 12
الصحبة الشرعية الخاصة
فالصحبة الشرعية لا يصح إطلاقها إلا في المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم من مواليهم وحلفائهم والمستضعفين ونحو ذلك، أما الأعراب والطلقاء (مسلمو فتح مكة) والوفود وغيرهم، فليسوا صحابة من الناحية الشرعية وإن كانوا صحابة صحبة عامة من الناحية اللغوية، وعلى هذا فلم ترد في حقهم تلك الآيات الكريمة من الثناء على من كانوا مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو على المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم كما سيأتي.
حقا إن تعميم فضل الصحبة ومنزلتها على كل من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم من المسلمين أدى إلى اختلاف بين كثير من الفرق الإسلامية ولا زال الاختلاف بينها إلى يومنا هذا، إذ أدى هذا التعميم في المديح إلى تعميم فرق أخرى كالشيعة لنصوص أخرى في الذم وأصبح الناجون عندهم أفرادا قلائل.
Bogga 13
أهمية التفريق بين صحبتين
ولتحديد مفهوم الصحبة يجب علينا أن نفرق بين المصطلحات الشرعية والمصطلحات العرفية والمصطلحات اللغوية.
فاللغة أوسع دائرة نظرا لدخول المجاز والمشترك اللفظي فيها ثم تأتي دائرة العرف إذ يشترط فيه إلى جانب الحقيقة اللغوية أن يضاف إليه عرف الناس فما تعارف الناس عليه من قولهم: فلان صاحب فلان أو من أصحابه فهو صاحب عرفا والعرف يستلزم الحقيقة اللغوية لا الشرعية، ثم أخص الدوائر هنا التعريف الشرعي؛ لأنه أكثر تحديدا، ولذلك فالشرع يحكم على العرف واللغة، والعرف لا يحكم إلا على اللغة، واللغة لا تحكم على الشرع ولا على العرف وإنما فيها الحقيقة والمجاز.
ولذا سنحاول استعراض مفهوم الصحبة في القرآن الكريم والسنة النبوية وعند العلماء المتقدمين، وفي العرف واللغة، مع أن الموضوع يحتاج إلى دراسة أخرى عن تأثير هذا المصطلح على الفكر الإسلامي أو ما يسمى العقائد والبحث في بدايات تحول مفهوم الصحبة وتبدله عبر العصور وما لهذا التحول من الأثر في تعميق الاختلاف بين المسلمين.
Bogga 14
معجم الصحابة
وسيتبع هذا العمل النظري أو النظرية التي بسطناها في هذا المجلد عمل تطبيقي في مجلد لاحق بعنوان (معجم الصحابة) نثبت فيه تراجم كل الصحابة أصحاب الصحبة الشرعية من المهاجرين والأنصار ومن في حكمهم.
وأخيرا: أشكر كل الأخوة الذين أبلغوني ببعض الإضافات والملحوظات وشاركوا في إثراء هذا البحث حتى صدوره في هذا الكتاب كما أن الأمل موصول لكل الأخوة أن يقرأوا هذا البحث قراءة منصفة بعيدة عن المجاملة أو التحامل قريبة من فهم المضمون مع إثراء الفكرة بالنقد والإضافة وإرسال الإضافات والملحوظات على العنوان المبين آخر الكتاب.
......... ...حسن بن فرحان المالكي
الرياض، 7/10/1420ه - 13/1/2000م
Bogga 15
المبحث الأول مفهوم الصحبة في اللغة والعرف والاصطلاح
أولا: مفهوم الصحبة في اللغة
الأصل أن الصحبة لغة تعني الملازمة والمخالطة والمعاشرة، ولكن قد تطلق الصحبة من حيث اللغة مجازا على من لم يلازم، بل إنها تطلق على العدو والمقاتل والشاتم والمخالف في الديانة ونحو ذلك، وكل هذا جائز لغويا، إما على سبيل المجاز أو للتشابه في صفة ما أو للاشتراك في شيء ما.
مفهوم الصحبة في اللغة على مستويات كثيرة أوسعها مجرد الاشتراك في صفة ما أو حالة ما أو ما يطلق عليه في التعبير الرياضي (مجال العلاقة) ولو كانت العلاقة عداوة أو خصومة ولا ريب أن ألصق معاني الصحبة من حيث اللغة هي الملازمة والمخالطة.
إذن فالأصل في اللغة أنه عندما تقول إن فلانا صاحب فلانا؛ يعنى أنه لازمه، أو خالطه، أو عاشره، أو ماشاه أو نحو هذا، ولو كان قدرا قليلا من الصحبة، بخلاف العرف كما سيأتي، إذ العرف لا يطلق الصحبة إلا على طول الملازمة، بحيث يصح أن يقال فلان صاحب لفلان، فالعرف أخص من اللغة، ولا يدخل فيه المجاز.
فاللغة تجيز اشتقاق (صاحب) من (صحب) ولو كانت الصحبة قليلة، كما تجيز أيضا إطلاق (صاحب) على من لم يصاحب مجازا، ومن ذلك قوله صلى الله عليه وآله وسلم لبعض لزوجاته: (أنتن صواحب يوسف.
ويجوز لغة إطلاق الصاحب على من لا يتفق اعتقادا، (أو ملة) مع المصحوب، ومن ذلك قوله تعالى:{ { وما صاحبكم بمجنون}، فالخطاب هنا موجه للكفار، وقد جعل الله النبي صلى الله عليه وآله وسلم صاحبهم، بالمعنى اللغوي المجازي فقط.
ويجوز لغة إطلاق صحبة الحي للميت كقوله تعالى:{أنجيناه وأصحاب السفينة}، كذلك قوله تعالى: {وأصحاب الرس} } ،{أصحاب الأيكة}... كل هذا تحتمله اللغة ولا يحتمله العرف ولا الشرع.
Bogga 16
كما يجوز لغة إطلاق صحبة الكافر للمؤمن والعكس كقوله تعالى: { قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا} فهنا إضافة صحبة المؤمن إلى كافر.
وعلى هذا فلا تفيد كلمة (صاحب) مدحا دائما كما يظن كثير من الناس كما لا تفيد ذما فهي من الناحية اللغوية كلمة محايدة وقد تكون الصحبة صحبة حسنة فقد تكون صحبة سيئة.
فيجوز لغة أن تقول فلان حسن الصحبة، وفلان سيئ الصحبة، فليست الصحبة مقصورة على المدح أو التوافق في الديانة فضلا عن غيرها؛ كما في قوله تعالى:{... فقال لصاحبه وهو يحاوره أنا أكثر منك مالا وأعز نفرا} وغير ذلك من الآيات السابقة.
ويجوز لغة إطلاق الصاحب على العدو اللدود، كقوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار))، فلما سألوه: هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال: (إنه كان حريصا على قتل صاحبه).
فنلحظ أنه سمى المتقاتلين أصحابا مع وصول الخلاف إلى السيف والقتال، لكن اللغة تحتمل هذا للاشتراك في أمر ما، وعلى هذا فلا حجة لمن اعتمد على مطلق اللغة في إثبات شرعية صحبة من لم يكن صاحبا صحبة شرعية كما سيأتي.
ويجوز لغة إطلاق الصاحب على من لم يعرفه صاحبه، كقوله في الحديث: ((...إذا وجد أحدكم عصا صاحبه فليرددها عليه)) .
ويجوز لغة القول بصحبة المنافقين للنبي صلى الله عليه وآله وسلم كما في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: ((في أصحابي اثني عشر منافقا...)) وكما جاء التصريح بذلك أيضا في قصة المنافق عبد الله بن أبي بن سلول الخزرجي عندما طلب بعض الصحابة من النبي صلى الله عليه وآله وسلم أن يقتل عبد الله بن أبي، فلم يقبل النبي صلى الله عليه وآله وسلم وذكر لهم السبب وهو: ((حتى لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه))( ).
Bogga 17
فعبد الله بن أبي من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم لكن صحبته ليست صحبة شرعية، وإنما الصحبة وعممها في مرجعها مطلق اللغة للاشتراك في مجرد التصاحب، حتى لو لم يكن هناك إيمان واتباع، وهكذا فالصحبة من حيث اللغة واسعة جدا، مع أن اللغة عمدة من أثبت صحبة (كل من لقي النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو رآه من المسلمين).
ولكنهم تناقضوا فأخرجوا المنافقين والكفار من الصحبة بالشرع لا باللغة فتأمل! مع أن اللغة لا تخرجهم؛ لأنه يجوز لغة أن أقول صحبت فلانا الكافر من بلدة كذا إلى بلدة كذا، وصحبت فلانا المنافق وصحبت فلانا اليهودي وهكذا، ولكن هؤلاء أخرجوا صحبة الكافر والمنافق واليهودي من صحبة النبي صلى الله عليه وآله وسلم لأنهم يريدون الصحبة المستحقة للمدح (الصحبة الشرعية) وإن لم يتلفظوا بهذا المصطلح.
وإذا كان الشرع لا اللغة هو الذي يحدد معنى الصحبة فلماذا ننكر على جمهور الأصوليين (الفقهاء) إخراجهم صحبة بعض من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم المسلمين بالشرع أيضا؟ خصوصا أن أدلة هؤلاء الأصوليين أقوى وأصرح.
فإن كان المتوسعون في الصحبة محتجين باللغة فاللغة أيضا تدخل الكفار والمنافقين وغير المعاصرين في الصحبة، وإن كانوا محتجين بالشرع في إخراج هؤلاء فغيرهم يحتج بالشرع في إخراج أناس آخرين أيضا، فتبين أن احتجاجهم باللغة فقط قد أوقعهم في التحكم والتناقض مع حرج شديد كما سبق من أنه يلزم من الاقتصار على اللغة إدخال غير المسلمين في الصحبة فضلا عن المتسمين بالإسلام، فاللغة تحتمل كل هذا فيلزمهم - من حيث اللغة- إدخال هؤلاء في صحابة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وهذا ما لا يقرون به.
فإن قالوا: لكننا نخرج المنافقين والكفار بالشرع.
Bogga 18
قيل لهم: النصوص الشرعية أيضا تخرج الذين أسلموا بعد الحديبية من الصحبة على الراجح وتخرج المسلمين بعد فتح مكة بأدلة أوضح وأصرح، فإما أن تحتجوا باللغة مطلقا في التعريف، أو تتركوا الاحتجاج بها عند معارضتها للنصوص الشرعية، إذن فالمتوسعون في إطلاق الصحبة على كل من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم ليسوا معذورين في التعلق بمطلق اللغة، لكن لا عذر لنا في ترك الاحتجاج بالنصوص الشرعية.
ولو احتججنا باللغة دون الشرع لما وجبت علينا أركان الإسلام بعد الشهادتين؛ لأنه بقليل من الدعاء يمكننا أن نقول إننا قد صلينا؛ لأن الصلاة في اللغة تعني الدعاء؛ وهكذا الإيمان فإنه بقليل من التصديق نستطيع أن نقول: إننا مؤمنون؛ لأن الإيمان لغة يعني التصديق.
والغريب أن الأخوة من غلاة السلفيين والحنابلة ينكرون على الحنفية وغيرهم تعريفهم للإيمان بأنه التصديق؛ لأن الحنفية - في نظر هؤلاء- يكونون بهذا التعريف قد أهملوا النصوص الشرعية في بيان الإيمان ومعرفة حده، بينما يقعون هنا في الخطأ نفسه عندما يعتمدون على مطلق اللغة في تعريف الصحبة ويغفلون الأدلة الشرعية المخصصة للصحبة.
إذن فالنصوص هي المعيار الصحيح في تحديد معنى الصحبة الشرعية، وليس اللغة؛ لما سبق من المحاذير والإشكالات والإلزامات المحرجة ومن أبرزها دخول الكفار والمنافقين في جملة الصحابة إن اعتمدنا على اللغة وحدها في تعريف الصحابي والصحبة.
إضافة إلى أنه من الناحية اللغوية نجد ألفاظا أفضل من الصحبة كان يمكن إطلاقها على هذا المعنى مثل الاتفاق والانقياد والحب والاحتذاء والاقتداء ونحوها فهي أفضل دلالة من لفظ الصحبة لوضوح دلالتها وتحديده بعكس لفظ (الصحبة) واسع المعنى، أو القابل لتعدد المعاني واختلافها.
Bogga 19
ثانيا: مفهوم الصحبة في العرف
مفهوم الصحبة في العرف -وهو ما تعارف الناس عليه- أضيق وأكثر تحديدا من المفهوم اللغوي الواسع للصحبة.
ولو توجهنا لأي فرد من العوام - فضلا عن الخاصة- وسألناه: من هم أصحابك؟
فلن يسمي لنا كل من لقيه أو رآه ولكن سيذكر لنا بعض الناس ممن يختص بمخالطته وصداقته ونحو ذلك، إذن فهذا هو المفهوم (العرفي) للصحبة، فإذا كانت اللغة تجيز اشتقاق اسم الفاعل (عادل ) من الفعل (عدل) فإن العرف لا يطلق كلمة (عادل) إلا على من غلب عليه العدل على أقل تقدير فالعرف يضيق ما قد توسعه اللغة أو تحتمله.
ولعل أكثر الأصوليين (الفقهاء) في تعريفهم للصحابي والصحبة قد راعوا الجانب العرفي في تحديد هذا المفهوم بعكس كثير من أهل الحديث الذين توسعوا في المصطلح استئناسا باللغة؛ ولسبب آخر وهو أن وظيفتهم في نقل الأحاديث والأخبار - من اتصال الأسانيد- شجعت اختيارهم لهذا المذهب في تعريف الصحابي.
وعلى هذا فلا يجوز عرفا أن تقول: (فلان صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم) أو فلان (من أصحاب النبي صلى الله عليه وآله وسلم) إلا إذا كان ذلك الصاحب معروفا بملازمة النبي صلى الله عليه وآله وسلم ومخالطته مدة يصح بها هذا الإطلاق.
والعرف لا يعتبر الصحبة المجردة عن الملازمة والمخالطة.
وبما أن العرف يقضي على اللغة (أي يحكم عليها) فإن حجة أهل الحديث تكون أضعف من حجة الأصوليين.
وقد ذكر الحافظ ابن تيمية (728ه): (أن القياس في مذهب أحمد بن حنبل وأصوله أن ما لم يقدره الشارع (القرآن الكريم أو السنة) فإنه يرجع فيه إلى العرف).
والألفاظ التي يستخدمها المسلمون منها ما حدده العرف كالبيع والنكاح ومنها ما حددته اللغة كالشمس والقمر ومنها ما حدده الشرع كالصلاة والزكاة والإيمان... إلخ.
والعرف المعتبر هو ما اتفق مع النصوص وليس ما صادمها.
Bogga 20
إذن فالخلاصة هنا: أن العرف -بعكس التوسع اللغوي- لا يجيز لنا أن نطلق الصحبة على من رأى النبي صلى الله عليه وآله وسلم أو لقيه من المسلمين فقولنا: (فلان صاحب النبي صلى الله عليه وآله وسلم) يستلزم (عرفا) طول ملازمة ومخالطة، ومن أطلق هذا على من لم يطل المصاحبة فقد خالف العرف وإن جاز هذا لغة.
Bogga 21