Sufi: Asalkeeda iyo Taariikhdeeda
الصوفية: نشأتها وتاريخها
Noocyada
إن سياسات الإصلاح الإسلامي المعارضة للصوفية، التي دخلت القرن العشرين وهي واثقة في حالات كثيرة من مكانتها العالية المكتسبة من تحالفاتها الحديثة مع الدول الاستعمارية والدول الإسلامية على حد سواء؛ جعلت هذا الكيان الصوفي هدفا طبيعيا للمنافسة والهجوم. ومنذ بداية القرن العشرين تلقت الصوفية الهجوم الأقوى والأكثر نجاحا، سواء على يد إصلاحيين صعدوا إلى طبقة اجتماعية أعلى، وكانوا قادمين من خلفيات غير تقليدية مثل تعليم المدارس الحكومية أو الصحافة، أو على يد أتباع التيار الحداثي الحاصلين على تعليم علمي، الذين رفضوا الصوفية لكونها رمزا للتقليدية المنحطة التي أدت إلى وقوع المسلمين في قبضة الاستعمار. وعلى الرغم من أنه في نهاية القرن العشرين حافظ عدة ملايين من المسلمين على الروابط التي تربطهم بالأولياء الأموات والشيوخ الأحياء للتقليد الصوفي، وسمحت العولمة لرواد نشر التقليد الصوفي بالعثور على أتباع جدد في أمريكا وأوروبا؛ فقد أصبحت الصوفية بالنسبة إلى المسلمين المتعلمين بصفة خاصة تمثل الفساد والخرافة والتخلف.
أخيرا، ينبغي توضيح المقصود من استخدام الكتاب للفظة «عالمي». الأمر «العالمي» في السرد التاريخي المقدم هنا ليس له علاقة مباشرة بما كتب عن نظرية العولمة، بل هو محاولة لتقديم تناول لكل منطقة على الكوكب انتشرت فيها الصوفية على مدار فترة تزيد عن ألف سنة. علاوة على ذلك، فإن هذا التناول العالمي التدريجي مقدم كسرد تاريخي من الترابط، يوضح أن الصوفية وسيلة ثقافية للترابط والتبادل بين المناطق. ونظرا لامتداد الصوفية من شرق البحر المتوسط وغربه، إلى وسط آسيا وجنوبها في فترة العصور الوسطى، لتصل تدريجيا إلى جنوب شرق آسيا والصين وأفريقيا في أوائل العصر الحديث، وفي النهاية إلى أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وحتى أستراليا في بداية القرن العشرين؛ فمن المعقول الزعم أن نطاق الانتشار الصوفي كان حقا عالميا. والأهم من ذلك، أن هذا السرد يحاول تحديد بعض العمليات التي تغير من خلالها هذا التقليد الديني الذي تكون في سياق مكاني وزماني (وأيضا لغوي وخطابي) معين؛ تغير من ناحية التكيف واستيعاب اللغات والعادات المحلية، عبر تقديمه إلى بيئات جديدة على نطاق عالمي تدريجي. وعلى الجانب الآخر، يتتبع السرد المشاكل التي سببها ذلك التوسع العالمي للصوفية نتيجة لتكيفها مع الكثير من البيئات المختلفة، خاصة أثناء توسعها الجغرافي الأسرع أثناء فترة أوائل العصر الحديث وفترة العصر الحديث اللتين اتسمتا ب «الطابع العالمي». من المهم على نحو خاص في هذا الصدد معرفة الطريقة التي أدت بها عمليات التكيف - التي انتشرت بمقتضاها الصوفية بداية من القرن السابع عشر في مناطق جديدة - إلى انتشار صور محلية متنوعة من التقليد الصوفي. وعندما صاحب استراتيجية التكيف العالمية تلك التقلبات الاقتصادية والسياسية لعصور الرأسمالية والاستعمار العالميين، أدى ذلك إلى حملة تصحيح إسلامية سعت إلى إصلاح التقليد الذي اعتز به الصوفيون ونشروه على مدار الألفية الماضية، وسعت إلى قمعه في نهاية المطاف. لذلك، فإن التكيف الثقافي للتقليد الصوفي ، الذي حدث من خلال استيعاب اللغات والعادات المحلية في التقليد، نقض على يد الصوفيين والمعادين للصوفيين في نهاية المطاف، الذين سعوا إلى إنهاء الزخم «التراكمي» للتقليد من خلال تجديد الاهتمام بتعلم اللغة العربية والسنة النبوية. ومع بداية القرن العشرين، عندما أصبح المسلمون أكثر احتكاكا بأنواع المعرفة الأوروبية، أصبحت الصوفية، التي ركبت موجة الانتشار العالمي للإسلام في بداية العصر الحديث، ضحية نجاحها السابق على نحو متزايد؛ ومن ثم أصبحت توجد دينامية دفع وجذب متأصلة تكشف عن نفسها من خلال هذه الدراسة المطولة والموزعة على نطاق عالمي.
في حين أن هذا الاستعراض لمحتوى الكتاب قدم فقط أقصر توضيح للتطورات الأساسية التي ستتناولها الفصول القادمة، فإنه يجب أن يكون واضحا أن الهدف الأساسي للسرد هو تقديم تاريخ الصوفية وفقا لتكوينها على يد مجموعة من العمليات «الطويلة الأمد»، التي من خلالها تشكل التقليد تدريجيا وانتشر، وأعيد تشكيله، وبالنسبة إلى كثيرين، رفض أخيرا في القرن العشرين بسبب المنافسة مع الأشكال البديلة الكثيرة من الإسلام، المطروحة في السوق الدينية العالمية.
الفصل الأول
الأصول والأسس والمنافسون (850-1100)
(1) السياق
المكان: بغداد في حوالي عام 850 ميلادية. إننا على بعد ما يزيد عن ثمانمائة ميل في الصحراء عن مكان إعلان النبي محمد نزول الوحي عليه في مكة، وقد مضى ما يزيد عن مائتي سنة على موته. وعلى الرغم من أن كلمة «صوفي» (أي مرتدي الصوف) كانت مستخدمة منذ سنوات كثيرة، باعتبارها لقبا أو حتى توبيخا للنساك الموجودين في البرية المحيطة، فإنها استخدمت هنا لأول مرة للإشارة إلى أشخاص في المدينة نفسها. وعلى النقيض من المنعزلين ساكني الجبال والصحراء الذين يكتنفهم الغموض ويعيشون على الهامش، فإن رجال المدينة هؤلاء لم يكتبوا فحسب كتبا تخبر الآخرين عن كيفية التصرف، لكنهم أيضا حققوا شهرة كافية في أعين المعاصرين والتابعين جعلتهم يناقشون كتبهم ويحافظون عليها. وفي إحدى المفارقات المألوفة في التاريخ الديني، تخبرنا الحقيقة الخالصة التي نعلمها عن هؤلاء الرجال أنهم لم يكونوا شخصيات منعزلة أو غير اجتماعية تنأى بأنفسها عن العالم، بل كانوا شخصيات عامة لديهم حياة عامة في مدينة ربما تكون الأغنى والأكثر عالمية في العالم. بحلول منتصف القرن التاسع كان قد عاش ثمانية أجيال من الآباء والأبناء منذ أن أسس النبي محمد مجتمع المسلمين، وفي العاصمة الثالثة لذلك المجتمع، كان العباد والعلماء من ورثة هذا المجتمع المؤسس أكثر وعيا من ذي قبل بمسئوليات الحفاظ على رسالة النبي محمد في غيابه. إنه وقت إنتاجية غير مسبوقة من الناحية التشريعية والأخلاقية، والروحانية والفكرية؛ فمن خلال تراث النبي والأجيال الأولى من المسلمين، ابتكرت معاني كثيرة للإسلام (ونوقشت وقمعت في بعض الأحيان). وعبر الجيل السابق، وجد المتعلمون وسيلة جديدة لنشر أفكارهم وتبادلها؛ إذ جلبت الطرق التجارية الكبرى للمدينة الورق من الصين ليحل محل الرق والبردي؛ فبدأ الكثير من الكتب يكتب (وينسخ ويباع)، ووجدت الأفكار الجديدة مؤيدين ومنتقدين لها، واكتسب الإسلام نفسه المعاني والأشكال المختلفة للتدين والمؤسسات التي سوف ترثها الأجيال القادمة وينسبونها إلى زمن النبي أو كلمات القرآن الذي جاء به. إذا كان التراث الورقي الذي تركه الصوفيون الأوائل لا ينقل المؤرخ إلى فترة أبكر من فترة أوائل القرن التاسع هذه، فإنه يمكن قول الأمر نفسه عن تدوين التقاليد الإسلامية الأساسية الأخرى مثل الشريعة والسنة النبوية؛ ففي حوالي عام 850، لم تكن المجموعة الصغيرة من الأشخاص الذين يدعون صوفيين منفصلة كليا في اهتماماتها عن الرجال الذين درسوا المبادئ الشرعية، أو بحثوا عن طرق لتمييز الروايات الصادقة عن الكاذبة الواردة عن أقوال وأفعال النبي. وعلى الرغم من أن كلمة صوفي يمكن أن تعني أمورا مختلفة عديدة في أزمنة لاحقة وأماكن أخرى، فهنا حيث انتشر المصطلح لأول مرة، كان يشير إلى الأفراد الذين لهم طريقة خاصة في سلوكهم وتقواهم. تمثلت تلك الطريقة في تقربهم الشديد إلى الله، وعزوفهم عن متع الحياة، لدرجة أنهم ارتدوا فعليا في البداية - ومع مرور الوقت مجازيا - الملابس الصوفية الثقيلة والخشنة، والمنتنة الرائحة، التي منحتهم اسم الصوفيين، الذي يعني «مرتدي الصوف».
نظرا لحقيقة أن الأكاديميين منذ منتصف القرن التاسع عشر بدءوا يبحثون عن «أصول» الصوفية في الفترة السابقة عن الفترة المذكورة آنفا، فالأمر يتطلب إعادة التأكيد على الأمور التي نجدها (وتلك التي لا نجدها) في بغداد في منتصف القرن التاسع، الذي ظهرت فيه أول بيانات موثوق فيها عن الصوفية. لدينا في الأساس لقب أو اسم وصفي (صوفي) يطلق على أشخاص معينين في منطقة بغداد (بعضهم ترك آثارا مكتوبة)، وسنرى أيضا فيما بعد أنه من المحتمل أنه كان يطلق أيضا على أشخاص خارج بغداد (لم يتركوا آثارا مكتوبة). أما الأمور غير الموجودة بعد في تلك الفترة، فهي الحركة الصوفية، ومجموعة المعتقدات المميزة لها، وبالتأكيد التقليد الصوفي؛ فكل هذه الأمور سوف تتطور لاحقا فحسب؛ ولهذا السبب ليس من الحكمة الحديث عن «الصوفية» كما لو كانت كيانا لديه وجود ذو معنى في ذلك الوقت، بل يمكننا القول إنه في منتصف القرن التاسع كان يوجد أشخاص يطلق عليهم صوفيون ستخضع تعالميهم تدريجيا (وبأثر رجعي كذلك) إلى التمحيص والاستيعاب على يد الأجيال التالية، مع تزايد أعداد الأشخاص الذين يطلقون على أنفسهم لقب صوفيين ويصيغون طقوسا ومعتقدات وزيا لتمييز أنفسهم عن غيرهم، ويؤسسون سجلا تاريخيا قائما على الوعي الذاتي، ليمنح وزنا لأطروحاتهم التي يزعمون أنها صحيحة. ومن خلال الحفاظ على هذا الفرق بين اللقب والشخص، وبين الكلمة وما تشير إليه، سنكون مؤهلين على نحو أفضل للتعامل مع أولى المشكلات التاريخية اللازم مواجهتها هنا؛ ألا وهي: أصول الصوفية. (2) مشكلة أصول الصوفية
لن تكون مبالغة إذا قلنا إن الأكاديميين تناولوا مسألة أصول الصوفيين أكثر مما تناولوا أي مسألة أخرى في التاريخ الصوفي. إلا أن أهمية المسألة نسبية وليست مطلقة؛ إذ إنها تعتمد على نموذج العملية التاريخية التي نستخدمها في فهم الماضي. إن التركيز الأكاديمي على «الأصول»، الموجود منذ أمد بعيد، نشأ عن وجهة نظر ترى أن العملية التاريخية رأسية بالضرورة؛ أي أنها مجموعة «موروثات» و«مؤثرات» أثرت على كل جيل من الأجيال الماضية، وتلقاها أبناء كل جيل على نحو أعطى شكلا تراكميا لأفكارهم وأفعالهم وإنتاجهم. كان هذا النموذج مؤثرا بصفة خاصة في تطور مجالي الدراسات الدينية والدراسات الشرقية أثناء القرن التاسع عشر، الذي حدثت فيه اكتشافات أثرية ونصية جديدة متعلقة بالتاريخ المسيحي واليهودي القديم، وكان لهذا الأمر أثر كبير؛ إذ جعل أي ممارسة للفحص العلماني لأي تاريخ ديني فحصا «أثريا» يقوم على إزالة طبقات المؤثرات والموروثات المتراكمة، من أجل الكشف على ما يمكن وصفه بأنه «أسس» أي كيان تاريخي. إلا أن العملية التاريخية ليست مجرد عملية رأسية (ولا حتى في الأساس)، واستنادا إلى قرن ماض من التفكير القائم على علم الاجتماع، فقد زادت الآن احتمالية التفكير في ضوء التاريخ الذي يتكون داخل الطبقة الأفقية التي نرى أنها تتمثل في «السياق» و«المعاصرين». وفي هذا الصدد لا ينظر إلى الماضي على أنه أمر غير قابل للتغيير، بقدر ما يعتبر مجموعة من الموارد الثقافية التي يمكن أن تستمر أو تخضع للتعديل أو تنبذ بحسب الرغبة. وكما سنرى لاحقا في مناقشتنا للأدلة المكتوبة التي تركها الصوفيون الأوائل أنفسهم، فقد كانوا حذرين جدا في توجهاتهم تجاه ماضي مجتمعهم الإسلامي، وكذلك مجتمعات الأشخاص غير المسلمين الموجودين في الإمبراطورية الإسلامية.
لهذا السبب ولأسباب غيره، فإنه من الأفضل فهم الصوفيين وكتاباتهم على أنهم نتاج لزمنهم «الأفقي». وهذا لا يعني أن الممارسات أو الأفكار أو حتى المصطلحات المميزة التي استخدمها الصوفيون لم تنشأ قبل القرن التاسع. على النقيض من ذلك، فإنه في المجتمع العالمي للعراق وغيره من السياقات الكثيرة المختلفة التي زاول فيها الصوفيون نشاطهم لاحقا؛ كانت القدرة على الاقتباس الانتقائي من الماضي من العوامل التي منحت الصوفيين جاذبيتهم. إلا أن اقتباس عناصر ثقافية معنية لا يعني التنازل عن تكامل المنتج النهائي؛ فكما يبدو أن المشرعين المسلمين الأوائل اقترضوا عناصر من قانون الولايات الخاص بالرومان المتأخرين عند وضع أنظمتهم القانونية، وأن الخوارج المسلمين صنعوا من أنفسهم نماذج سردية للعنف أو الاستشهاد لأغراض دينية، وهو الأمر الذي ظهر لأول مرة في الإمبراطورية البيزنطية؛ فإنه يبدو أن بعض الصوفيين الأوائل قد اقتبسوا مثلهم عناصر من الفكر المسيحي والممارسات المسيحية من أجل أهداف خاصة بهم.
Bog aan la aqoon