قلت زبيب وعسل
إلى آخر القصيدة التي حفظتها صغيرا.
إن هؤلاء الأولياء يحبون الجمز، فإن قرر مدير المدرسة أن يعيد ابنهم صفه قامت قيامتهم وعلت ضجتهم وملئوا الأرض احتجاجا، فإن رأوا تصلبا لجئوا إلى أصدقاء المدير وعادوا حاملين إليه رسائل توصية من مراجع مختلفة السمو والمقام، كأن «المحروس» محكوم عليه بسجن القلعة ... وإذا جابهت صخرة المدير معاولهم نقلوا ابنهم إلى مدرسة أخرى، فتفتح هذه له ذراعيها غير مهتمة لازدياد عدد طلابها واحدا، هذا إذا كان الولد أعمى البصيرة أطرش الذهن، أما إذا كان يتمتع بذكاء عادي طمع وليه بترقيته صفا أو صفين، وإن لم ترضخ أنت لإرادته أطاع غيرك، فاختر لنفسك ما يحلو.
هذه مسئولية الأولياء، أما مسئولية التلميذ فتنحصر في هذا المثل: «هاتيك الغبرة ورثت هذه الوحلة»، إن الفوز الباهر في امتحانات البكالوريا الماضية قلل من اهتمام الطلاب حتى حسبوا البكالوريا أكلة بطيخ، ما عليك إلا أن تكسر الرأس، وما أهون شجه! ثم تأكل هنيئا مريئا. إذا كان الطالب ابن وجيه فما أغناه عن عبوسة وجه الكتاب! لينشغل بالوجوه المبودرة المحمرة، والحواجب المزججة، والعيون المكحلة، ليتحدث عن أفلام السينما بدلا من أقلام تاريخ الأدب، وما له وللمتنبي والجاحظ فحديث جياد السبق أشهى وألذ؛ لينشغل بالتحدث عن سياسة فلان وفلان وتأييد «جناب حضرة» والده المحترم لهذا أو ذاك، فهي أجدى له في معركة الامتحان من درس سياسة الدولة الأموية والعباسية. إن الممتحنين ينتظرون إشارة أبيه لينقذوا الموقف، فهو لا يعنيه إلا الشهادة و«يوم الله يعين الله»، المركز محفوظ، والأسرة جمعاء في انتظار الساعة ليقبع الولد في كرسي الوظيفة، الخطبة عقدت من زمان فأهلا بعروس الأماني والأحلام.
أما إذا كان الطالب من الأذكياء النبهاء ولا عضد له ولا سند، فيخدعه نجاح طالب مقصر سبقه إلى إكليل الغار، وظفر به بإحدى الرسائل المكتومة، فيتراخى ويتهاون ظانا أن البكالوريا لا تقتضيه الدرس العنيف، يقول في قلبه: إن كان فلان - وهو لا يعرف الخمس من الطمس - أخذ البكالوريا، فأنا آخذها من درجة جيد إذا لم أفتح كتابا، فلماذا كل هذا التعب والسهر؟
كثيرا ما كنت أسمع من أبطال البكالوريا: الوزير الفلاني أو النائب الفلاني صديق الوالد، قتلنا حالنا حتى نجحناه في الانتخابات، إنه ينتظر الساعة حتى يقوم بالواجب، إذا أمر صارت الخمسة خمسة عشر ... الشهادة إذن في العب، وهكذا ينام صاحبنا على صوف ومهما حاولنا إيقاظه يظل يشخر وينخر ولا يستفيق إلا يوم تسود وجوه وتبيض وجوه.
أما زملاؤنا المعلمون فلا يعني بعضهم أو أكثرهم إلا أن يلموا مما كتب هنا وهناك من قديم الأقوال وحديثها، يخيطون من كل هذه الرقاع ثوبا فضفاضا يسمونه دروس البكالوريا، حتى إذا احتضر العام المدرسي زودوا تلاميذهم حين خروجهم إلى ساحة الامتحان بهنات هينات يسمونها «بلان»، فيبرز الطالب فيها بروز أبي دلامة، وسلاحه تلك الدجاجة التي سد بها بوز قرنه، وأمن شر يوم كان يعده الأول من الآخرة والآخر من الدنيا.
لا يعني هذا الأستاذ الذي «يعمدونه» أستاذا للأدب العربي، أن يصلح ما فسد من لغة تلاميذه، لا تهمه سلامة التركيب وخطأ الإنشاء من الخطأ النحوي والصرفي، فيدخل تلميذه معترك البكالوريا كالحصان الأعرج يصك في كل سطر صكات، يرفع المفعول ويجر الحال، ينصب المبتدأ ويجر التمييز، يفتح فم التاء ذراعين ويرسم الهمزة قاقا، ويكتب الدال ضادا، ثم يتألب الساعون بالخير على أعضاء اللجنة الفاحصة طالبين منها «السبعة عشر» علامة لهذا الأخفش المعاصر ... وحجتهم أنه كتب سبع صفحات عن المتنبي، كأن مسافة الكلام تقاس بالباع والذراع! يقول لك أبو هذا الطالب: ابني - يخزي العين عنه - ما نسي كلمة سمعها من المعلم، ذاكرة عجيبة غريبة، كيف لا ينال علامة فوق الريح؟ ...
الحق معك يا صاحبي حفظ ابنك - حفظه الله - كما قلت، ولكن المرشح للبكالوريا يجب أن يكتب صحيحا، إن تلميذ الصف السابع أصح عبارة من «المحروس» أقر الله عينك به!
إذن على من يتولون تثقيف النشء أن يضربوا نطاقا من الأسلاك الشائكة حول صف البكالوريا.
Bog aan la aqoon