فما جبابرة الإنسانية ونوابغها إلا رجال جمعوا قواهم وضربوا ضربات شديدة حول نقطة واحدة فأفلحوا وفازوا. إن الناجحين هم الذين يصوبون عزيمتهم نحو هدف واحد. فالطريقة المفيدة في القراءة - مثلا - هي أن تنصرف بكل قواك حتى تنتقل مع الكاتب إلى المكان الذي يصفه لك فتراه كأنك فيه حقا.
وقد سئل بيكنس - الأديب العظيم - عن سر نجاحه، فأجاب: «إنني ما مددت مرة يدي إلى أمر لا أقدر أن أنصرف إليه بكليتي»، ومار توما الإكويني الذي صار من أئمة الفلسفة العالميين كان طالبا لا يرجى منه خير سماه رفاقه الثور ولم يبال بهزئهم به وظل منكبا على درسه، وأخيرا فهم ما استعصى عليه ونطق بعد ذلك الصمت، ولاحت بشائر عبقريته في الفلسفة اللاهوتية فما استطاع أستاذه أن يكتم إعجابه به وقال لرفاقه: سيعج هذا الثور ويملأ خواره أقطار المسكونة، وهكذا كان. إن حصر القوى العقلية يفعل العجائب، أما رجل الأحلام الذي يتنقل كالعصفور على الأغصان فلا يكون نصيبه إلا حبة يلتقطها أو برغشة يتصيدها.
إن من يفعل هكذا وشعاره «إن العز في النقل» فهو يشبهنا يوم كنا صغارا ننقل قضيب الدبق إلى حيث نرى عصفورا قد سقط، ثم ننتظر عودته فلا يعود، ولكننا نعود نحن إلى البيت غير فائزين إلا بتمزيق ثيابنا.
فأكثر فشل الناس متأت عن تجزئتهم عنايتهم بمواضيع شتى، يريدون أن يكونوا على حد قولنا: «عنده من كل فن خبر.» فإذا بهم يعرفون شيئا من كل شيء، ولكنهم لا يعرفون شيئا كما يجب أن يعرف.
قد يقرع الشاب أبوابا كثيرة ولا تفتحها له شهاداته الضخمة ولا أصله وفصله، وهب أن الشهادة فتحت الباب فهي لا تمكنه من الرسوخ على الكرسي الذي قدم له إذا كان لا يحسن عملا، أما إذا كان من ذوي الاختصاص انفتحت بوجهه الأبواب على مصراعيها ومشى في ميادين العمل قدما، وأغلب الناجحين ليسوا من حملة الألقاب العلمية بل من العاملين الذين صعدوا في السلم درجة درجة ...
قد نضيع الوقت في اختيار الأعمال ثم لا نقع على عمل، وما ذلك إلا لأننا صالحون لكل الأعمال ولا نصلح لعمل ما بعينه، فلو كان لنا مدارس توجيهية تقوم بدرس مواهب كل شخص وتوجهه في الطريق السوي، لما كان شبابنا حائرا أو لما أضاع السنين من عمره مفتشا عن الموضع الذي يجب أن يستقر فيه.
إن تعيين القصد والغرض والسعي هو طريق التفوق والنجاح، فعليك أن تنصرف بكليتك إلى عملك لتبرز فيه. وليس يعني كلامنا هنا أننا إذا سعينا سعيا حثيثا في طلب المستحيل أدركناه، ولكننا ندرك ما يستطيع الإنسان أن يدركه إذا حصرنا قوانا في نقطة ما، فالعدسة البلورية لا تحرق ما لم تنحصر أشعة الشمس في بؤرتها، فلنحصر قوانا لكي ندرك ما نبتغي.
إن الحك - البوصلة - لا يتجه إلى جميع أجرام السماء باحثا عن أيها أفضل ليومئ إليه، فجميعها تحاول أن تجذبه، ولكنه لا يتجه إلا نحو هدفه، إن خاصيته توجهه دائما إلى الغرض، إلى القطب فيومئ إليها ولو برقعتها الغيوم بسدولها الكثيفة أو ألقت الشمس عليها رداءها.
فالإنسان الواحد لا يستطيع أن يقوم بكل الأعمال، بل لا يصلح لها جميعا، فعلينا أن نختار منها ما يلائم ميلنا وذوقنا ومعارفنا لنقوم حق القيام بواجبنا الإنساني. قد وجدنا لنعمل، فلنختر من الأعمال ما تحتمله طاقتنا، ولنضع كل جهودنا ومقدرتنا فيه ولو كان تافها، فالأمر التافه المتقن الصنع أفضل كثيرا من أمر سام رفيع غير متقن، فكم من طبيب أو محام أو صاحب مهنة حرة سامية لم يبلغ ما بلغه من اختص وعرف بإتقان عمل ما مهما كان تافها حقيرا! فكم من دهان مجيد أثرى! وكم من رسام بين بين لم يأكل من فنه رغيفا أسود! وما ذلك إلا لأنه لم يجعل كل وكده فيه.
فإذا رأيت ابنك يدرس ويتحدث مع الساهرين، فاعلم أنه لا في العير ولا في النفير، لم يذق لذة السمر وفاتته فائدة الدرس، لم يحصر قواه فيما يعمل ليفوز وتقر به عينك.
Bog aan la aqoon