إنني لما طلبت منك بعض نوادر عن عصر هذا الملك لم أعن الملك بقدر ما عنيت الفنون التي نمت وازدهرت في زمانه، فأنا أوثر التفاصيل التي تتعلق براسين وبوالو وموليير وبوسيه وديكارت وأمثالهم على ما يتعلق منها بمعركة ستنكرك، فإن الذين يقودون الجحافل والأساطيل لا يبقى بعدهم إلا اسمهم، وأية نتيجة حصلت للجيش البشري من الفوز في مائة معركة؟ أما الرجال العظام الذين ذكرتهم فهم من أدخلوا المسرة والبهجة في القلوب، ولا تزال آثارهم تقوم بذلك.
فالرجال العظام لا ينحصرون إذن كما زعم فولتير فيمن ولوا الأحكام وحكموا الشعوب، بل هم في نظر هذا الفيلسوف من وفروا السعادة للبشر، وهدوا الناس سبل الحرية ودعوا إلى كل ما يحقق المثل الإنسانية العليا. وهؤلاء نجدهم بين الملوك أيضا، فقد وجدت على قبر ملك مصري عاش منذ أكثر من أربعين قرنا هذه الكلمات:
إنني لم أوذ ولدا، ولا ظلمت أرملة، ولا أهنت راعيا، ولم يكن في أيامي شحاذون، ولا مات أحد من الجوع، ولما جاءت أعوام المجاعة زرعت أراضي مملكتي كلها حتى أقصى حدودها الشمالية والجنوبية، وأطعمت كل سكانها موجدا لهم القوت فلم يمت أحد فيها جوعا، وقد جعلت الأرملة تعيش كما لو كان لها بعل.
فمن يقدر في عصرنا أن يقول هذا القول أو يدعي هذا الادعاء؟ أليس في هذه «القبرية» تاريخ حقبة من الزمن، وما هي إلا قطعة من حياة رجل عظيم أخلص لأمته وأدى الأمانة التي في عنقه؟ فلو قرأ هذا من ألقيت إليه مقاليد الشعب ألا يدفعه مثل هذا الكلام إلى العمل المجدي بدلا من طلب الجاه الذي يذهب مع طالبه إلى غير رجعة؟ هذي هي فائدة مطالعة السير، إنها تمزق برقع الغرور عن أعيننا فنرى الحقيقة كما هي.
إن في الكون أناسا طبعوا على الشرف والنبل، فرافق هذا الشرف نفوسهم فكانوا خيرا وبركة لأمتهم، وزانوا تاريخها كما تزين الجوهرة العقد الثمين. وسير هؤلاء يجب أن تطالع، فالرجال العظام الحقيقيون هم من يتجسم الشرف في أعمالهم وتنطق به ألسنتهم فيمسي سنة وشريعة، وهم يحيون مع هذا النبل وفيه وبه، إن التسامي عندهم إله معبود وهو الذي جعلهم عظماء مقدمين مستقيمين.
قال أحد المشاهير العظام: «لم يصل أحد إلى العظمة الحقيقية إلا وقد شعر بأن حياته مختصة بأبناء جنسه، وأن ما أعطاه الله فقد أعطاه إياه ليخدم به البشرية.»
إن مثل هذا الشعور لا يولده فينا إلا اطلاعنا على سير من اتصفوا به، وبهذا نصحنا فيلسوف المعرة قائلا: «خذوا سيري فهن لكم صلاح»، ولم يقل «خذوا علمي» لأنه يعلم أن القول غير العمل. قد يختلف الناس في أقوال المعري، أما سيرته فإنسانية فاضلة، وهؤلاء الأفاضل هم سرج الأزمنة ومنارات الدهور والأجيال؛ فلنتعرفهم لكي نفلح.
نحو عالم أفضل
1
وجد الناس فكانوا ولا يزالون يتخبطون في ظلمات السعي وراء إنشاء عالم جديد، عالم يستريحون فيه، عالم كله سلام وطمأنينة يأتيهم فيه رزقهم رغدا كما كان جدهم في الجنة يعمل بقول الحطيئة: «واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي» ... أما نواميس الحياة فكانت دائما تقطع عليهم الطريق فيظلون مسيرين غير مخيرين.
Bog aan la aqoon