Studies in Quranic Sciences - Muhammad Bakr Ismail
دراسات في علوم القرآن - محمد بكر إسماعيل
Daabacaha
دار المنار
Lambarka Daabacaadda
الثانية ١٤١٩هـ
Sanadka Daabacaadda
١٩٩٩م
Noocyada
بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد، فإن القرآن الكريم هو المعجزة العقلية الباهرة التي أيَّدَ الله بها خير خلقه، وخاتم أنبيائه -صلوات الله وسلامه عليه.
وهو خالد في إعجازه لا يزيده التقدُّم العلميُّ إلا رسوخًا في الإعجاز، وهو حجة الله البالغة على خلقه، تعبدهم بتلاوته وتدبره، وفهمه والعمل به، وأطلعهم من خلاله على بعض أسراره في ملكه وملكوته.
وهو كتاب الهداية، ومنهج الحياة، بيَّنَ فيه لعباده ما يحلُّ لهم، وما يحرِّمُ عليهم، وما ينفعهم، وما يضرهم، بإسلوب واضح مشرق، لا عوج فيه ولا التواء.
وعبَّرَ عن واقعهم، ولبَّى رغباتهم على اختلاف أجناسهم وبيئاتهم، وأزمانهم.
فما من شيء يحتاجون إليه في شئونهم الخاصة والعامة إلَّا شمله تشريعه، ووسعه بيانه.
قال تعالى في سورة النحل: ﴿وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ﴾ ١.
فكان بحقٍّ كتابًا جامعًا أفاض في شرح الحقوق والواجبات إفاضة واسعة، تضمنتها أحكام جامعة، وقواعد كلية، يندرج تحتها كل ما جَدَّ ويَجِدُّ في شئون الحياة، وأناط بالرسول ﵊ بيان ما قد يغمض على بعض
_________
١ آية: ٨٩.
1 / 5
الناس فهمه، فكان بيانه للقرآن مستنبطًا من القرآن نفسه، وبقدرة خاصة منحها الله، وكيفية معينة علَّمه الله إياها.
قال تعالى في سورة القيامة:
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ١.
وهو الذكر الحكيم الذي علَّمَ الناس الحكمة -وبالحكمة يستطيعون أن يضعوا الأمور في موضعها، ويتعرَّفوا النهج القويم للحياة المطمئنة، والسعادة المرجوّة في داري الدنيا والآخرة.
قال تعالى:
﴿هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾ ٢.
وهو مأدبة الله التي لا ينفذ زادها، ولا ينضب معينها ولا يملها أهلها.
وهو للمؤمنين دواء وشفاء وغذاء، وروح وريحان، هو الحياة في أسمى صورها وأجلِّ معانيها، هو نعيم الدنيا ونعيم الآخرة.
لهذا جمع المسلمون الأوائل كل قواهم، وكرَّسُوا جُلَّ حياتهم لخدمة هذا الكتاب العظيم، ولم يدَّخِروا جهدًا في حفظة وتدوينه، وتفسيره، واستنباط أحكامه، والتنقيب عن لطائفه وأسراره، والعمل به والسير على نهجه في عباداتهم وعاداتهم ومعاملاتهم، فتركوا لنا تراثًا خالدًا غصَّت به المكتبات في مشارق الأرض ومغاربها.
وتتابه الغيث من بعدهم إلى يومنا هذا، يفتح للباحثين في كتاب الله تعالى أبوبًا واسعة من العلم والمعرفة، ويتيح لهم أن ينهلوا من معينه ما شاء الله أن ينهلوا في سهولة ويسر، ولا سيما بعد أن تقدَّمت أدوات الطباعة ووسائل النشر.
_________
١ آية: ١٦-١٩.
٢ الجمعة: ٢.
1 / 6
وما على الباحثين إلّا أن يشمِّرُوا عن ساعد الجدِّ، ويخترقوا أسوار التقليد إلى الآفاق الرحبة يفتحها لهم القرآن بعباراته وإشاراته، فيستنبطوا منه ما ينفع أمتهم في دينها ودنياها، ويستلهموا منه الرشد في حلِّ المشكلات المعاصرة التي بلغت الغاية في التعقيد والتعجيز.
وإنا لقادورن -إن شاء الله تعالى، إذا ما تمسَّكْنَا بهذا الكتاب المبين، وتدبَّرْنَاه بحرية وأمانة وفق المقاييس التي رسمها لنا فيه -على تحقيق ما نصبو إليه في حاضرنا ومستقبلنا.
وإني أحاول أن أضرب في كتابي هذا بسهم متواضع في تبصير الناس ببعض ما يتعلَّق بهذا القرآن العظيم من البحوث المهمة التي تعينهم على تدبره، وفهم معانيه ومراميه، والعمل بما جاء فيه، عسى أن أُحْشَر يوم القيامة مع خدمته فأفوز فوزًا عظيمًا، وهو رجاء عبد ليس له من العمل الصالح ما يجعله أهلًا له إلّا أن رحمة الله واسعة، وفضله عظيم.
وقد التزمت في تأليف هذا الكتاب أمورًا ثلاثة:
الأول: تهذيب الأسلوب وتيسيره بحيث يكون -بفضل الله تعالى- مناسبًا لأهل العصر على اختلاف درجاتهم في الثقافة والفهم، مبينًا كل لفظ أراه غامضًا، وموضحًا كل قول أراه يحتاج إلى مزيد بيان.
وهذا الإلتزام جعلني أتحاشى النصوص الوعِرَة التي تكثر فيها الصناعة اللفظية المتكلفة، أو الألفاظ المعقدة أو الغريبة، واختار النصوص السهلة الجزلة التي تخلو من الركاكة والتعقيد.
فإن كان النص لا يتمشَّى مع سهولة الأسلوب وعذوبته، وفيه من العلم ما نحن في حاجة إليه نقلته بالمعنى، وقلت في نهايته: أفاده فلان أو ذكره فلان بمعناه.
أو قلت في أوله: ذكر فلان ما حاصله، أو ما فحواه كذا وكذا.
أو كتبت في هامش الصفحة: راجع كتاب كذا وكذا أو انتهي بتصرف، وما أشبه ذلك.
1 / 7
فإن كان النص سهلًا في أسلوبه نقلته بين علامتي تنصيص، وأشرت إلى مصدره في هامش الصفحة فقلت: كتاب كذا ج كذا ص كذا.
فإذا غيَّرت فيه ضميرًا أو حرفًا ليناسب الكلام قلت في هامش الصفحة:
انظر كتاب كذا.
وإذا حذفت منه شيئًا، وضعت مكان المحذوف ثلاث نقط كما هو مُتَّبَعٌ في كتابة البحوث والرسائل، وبذلك يكون أسلوب الكتاب متشابهًا متماسكًا كالبنيان يَشُدُّ بعضه بعضًا، لا يجد القاريء فيه ما يعكِّر صفو الفهم عليه من تغاير الأساليب، وتباعد المعاني، وتفكُّك الجمل، وتنافر الألفاظ.
الثاني: توخي الإيجار في العبارة، والاختصار على المقيَّد من المسائل، وتحري الدقة والأمانة العلمية في البحث والدراسة بقدر الطاقة البشرية.
الثالث: ترتيب الموضوعات بحسب أهميتها، وبحسب صلة بعضها ببعض، أو تقارُب بعضها من بعض، مع الاقتصار على ما تكون إليه الحاجة ماسَّة والضرورة إليه ملحة.
فعلوم القرآن بحر زخار لا يستطيع أحد أن يجمعها في كتاب، مهما اتسع جهده، وطال عمره.
هذا وقد بذلت وسعي في التحليل والتعليل والتحقيق والتنقيح والاستنباط، والكشف عن الجديد من المسائل العلمية المتعلقة بمعاني هذا الكتاب العزيز.
فإن أكن وفِّقْتُ في شيء من ذلك فإنما هو بحمد الله تعالى وتوفيقه.
والله المستعان، وله الفضل، وبه الثقة، وعليه المعتمد.
ربنا عليك توكلنا وإليك أنبنا وإليك المصير.
المؤلف
1 / 8
المبحث الأول: معنى علوم القرآن
علوم القرآن مركَّب إضافي، مؤلَّف من كلمتين، يقتضينا منهج البحث البحث التحليلي أن نعرِّفَ كل كلمة على حدة أولًا، ثم نبيِّنُ معنى كلمة علوم مضافة إلى القرآن الكريم، فنقول:
١- أما العلوم فجمع علم، والعلم مصدر "علم - يعلم" وهو مرادف للفهم والمعرفة واليقين، والجزم على الجملة، وبينها فروق دقيقة تُطْلَبُ من كتب فقة اللغة، مثل كتاب "الفروق اللغوية" لأبي هلال العسكري.
والعلم مصدر -كما قلنا- يصح إطلاقه على المفرد والجمع، تقول: تلقيت العلم في الجامع الأزهر، تعني: علم التفسير، والحديث، والفقه، والنحو، والصرف، وغير ذلك من أنواع العلم.
وإن أريد الكثرة، جمع على علوم، ولهذا سميت المباحث القرآنية: "علوم القرآن" لكثرتها وتشعُّب مسائلها.
كما يقول الفقهاء في كتبهم: "باب البيع"، فإن أرادوا الكثرة قالوا: "باب البيوع".
ويطلق العلم في لسان الشرع العام على معرفة الله تعالى وآياته، وأفعاله في عباده وخلقه.
ومعناه عند علماء التدوين: المعلومات المنضبطة بجهة واحدة، أي: موضوع معين.
فمسائل النحو مثلًا تُسَمَّى: علم النحو.
ومسائل الفقة تُسَمَّى: علم الفقه.
أو هو إدراك المسائل المنضبطة تحت موضوع معين.
أو هو الملكة التي تحصل بها تلك المعارف.
والتعريف الأول هو الأَوْلَى بالقبول، وهو الأشهر عند العلماء.
1 / 9
أما القرآن في اللغة فهو مصدر "قرأ".
يُقَال: قرأ يقرأ قراءة، وقرآنًا.
قال تعالى في سورة القيامة:
﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ﴾ ١.
ثم نقل من هذا المعنى المصدري، وجُعِلَ اسمًا للكلام المعجِزِ المنزَّلِ على النبي ﷺ، من باب إطلاق المصدر على مفعوله.
فالقرآن على هذا يكون بمعنى المقروء.
هذا ما اختاره أكثر العلماء استنادًا إلى موارد اللغة وقوانين الاشتقاق.
"أما القول بأنه وصف من القرء -بسكون الراء- بمعنى الجمع، فهو قولٌ ليس براجح، وكذلك قول من قال: إنه مشتق من قرنت الشيء، أو أنه مرتجل، أي: موضوع من أول الأمر علمًا على الكلام المعجِز المنزَّل، فكل ذلك -كما يقول الزرقاني- لا يظهر له وجه وجيه، ولا يخلو توجيه بعضه من كلفة"٢.
هذا هو مفهوم لفظ "قرآن" في اللغة.
واما مفهومه في اصطلاح علماء العقيدة والشريعة واللغة، فهو منتَزَعٌ من خصائصه ومقاصده الكبرى.
وأشهر تعريف له قولهم:
القرآن كلام الله المعجِز، المنزَّل على محمد ﷺ، المكتوب في المصاحف، المنقول بالتواتر، المُتعبَّد بتلاوته.
بهذا عرَّفه اكثر أهل العلم.
وتوضيحه:
إن الكلام البشري نفسي ولفظي، فالنفسي هو المعاني التي تجول بالفؤاد
_________
١ آية: ١٦-١٨.
٢ انظر مناهل العرفان ج١ ص٧.
1 / 10
قبل أن تخرج بها الأصوات، واللفظ هو قالب تلك المعاني، وهي التي نسمعها من الأصوات.
فقولنا: القرآن كلام الله، قد يُرَاد به الكلام النفسيّ، وقد يُرَادُ به الكلام اللفظي -ولله المثل الأعلى وهو العزيز الحكيم- فالمتكلمون يطلقون كلام الله على الكلام النفسي فقط، ويقررون أنه كلام قديم غير مخلوق، فيجب تنزهه عن الحوادث وأعراض الحوادث، وتجرده عن الحروف اللفظية المتعاقبة المستلزمة لتجدد الزمان والحدوث.
والأصوليون والفقهاء اهتمُّوا بإطلاق القرآن على الكلام اللفظي؛ لأن غرضهم الاستدلال على الأحكام، وهو لا يكون إلّا بألفاظ، وكذلك علماء اللغة العربية يهتمون بالكلام اللفظي؛ لأن عنايتهم بالإعجاز، وطريقة الألفاظ"١.
وهذا التعريف جمع أشهر خصائص القرآن وأهم مقاصده.
وكان بعضها كافيًا في التعريف، فلو قالوا: القرآن كلام الله المعجز.
أو قالوا: هو كلام الله المُتعبَّد بتلاوته.
أو قالوا: هو كلام الله المكتوب في المصاحف، لكان وافيًا بالمقصود في تحديد ما هو قرآن من غيره، لكنهم أطنبوا في التعريف مبالغة في التوضيح، ورغبةً في ذكر أهم خصائصه ومقاصده، فهو ليس تعريفًا بالمعنى الاصطلاحي الذي يُرَاعَى فيه الاختصار، والاقتصار على ما هو جامع مانع.
ومن هذا التعريق يُعْرَفُ الفرق بين القرآن والحديث القدسي والحديث النبوي، على ما سيأتي بيانه قريبًا -إن شاء الله تعالى.
ومن خلال هذا التعريق أيضًا يُعْرَفُ الفرق بين القراءة المتواترة وغير المتواترة، فما تواتر منها فهو قرآن يُتْلَى ويتعبَّد بتلاوته.
وما هو غير متواتر لا يُتْلَى ولا يُتَعَبَّد بتلاوته، ولا يُسَمَّى قرآنًا، وإن جاز الاحتجاج بها في تصحيح لغة على لغة، وترجيح مذهب فقهي على آخر، بالشروط التي ذكرها الفقهاء في كتهبم.
هذا -ويطلق لفظ القرآن على الكتاب المُنزَّل كله وعلى بعضه.
_________
١ انظر "اللآليء" للدكتور موسى شاهين لاشين ص٩.
1 / 11
فيُقَال لمن قرأ منه ولو آية إنه قرأ قرآنًا.
٣- وأما تعريف علوم القرآن بالمعنى الإضافي، أي: باعتبار إضافة العلوم إلى هذا الكتاب المنزَّل، فهو عبارة عن طوائف المعارف المتصلة بالقرآن.
وهذا التعريف يشمل بعمومه جميع العلوم الشرعية من التفسير والحديث والفقه، وأصول الفقه، وجميع العلوم التي تعين على فهم معانيه ومقاصده، كالعلوم اللغوية والتاريخية، وغيرها، فكل ما يتصل بالقرآن من قريب أو من بعيد داخل تحت هذا التعريف.
غير أن المشتغِلِين بدراسة القرآن الكريم -فيما يبدو لنا- يقتصرون في بحوثهم على العلوم الوثيقة الصلة بالقرآن الكريم، والتي تعين على فهمه بطريق مباشر، مثل البحوث التي تضمَّنها كتاب "البرهان" للزركشي، وكتاب "الإتقان" للسيوطي.
وانفرد التفسير عن هذه العلوم بالتأليف والتصنيف، مع أنه داخل فيها لمسيس الحاجة إليه من غيره عند جميع المكلَّفين بلا استثناء.
أما غيره من علوم القرآن، فلا يكاد يحتاج إليه إلّا المتخصصون في دراسة كتاب الله تعالى، على نحو من تفسيره للناس، تفسيرًا صحيحًا، وفق هذه العلوم التي يعنون بدراستها.
فعلوم القرآن سوى التفسير، من شأن أولي العلم والنُّهَى، ورجال التفسير والتأويل الذي يُنَاطُ بهم فهم القرآن أولًا، وبيان معانيه للناس ثانيًا.
وأما التفسير، فالأمر فيه ما قد علمت، فلا تغفل عن ذلك، وقد كانت علوم القرآن قبل عصر التدوين وبعده بزمن غير يسير متصلة بسائر العلوم الشرعية، بل والعلوم العربية أيضًا، ثم انفصلت عنها.
وفيما يلي نبذة تاريخية يتبين لك فيها المراحل التي مرَّ بها هذا العلم، حتى انتهى إلى ما هو عليه الآن.
1 / 12
المبحث الثاني: نشأة علوم القرآن وتطورها
١- كان الرسول ﷺ، وأصحابه يعرفون عن القرآن وعلومه، ما عرف العلماء، وفوق ما عرف العلماء من بعد.
أما الرسول ﷺ، فقد كان يعلم من القرآن ظاهره وباطنه، ومحكمه ومتشابهه، وعامَّه وخاصَّه، ومطلقه ومقيده، وغير ذلك من الأمور الجلية والخفية، التي اشتملها هذا الكتاب العظيم.
فقد كتب الله على نفسه الرحمة ليجمعنَّه له في صدره، وليطلق لسانه بقراءته وترتيله، وليميطنَّ اللثام عن معانيه وأسراره.
قال جل شأنه في سورة القيامة: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ ١.
وأما أصحابه، فقد نهلوا من معينه، فعلموا منه بقدر طاقتهم ما أعانهم على فهم ما يتعلق بشئون دينهم ودنياهم، وعرفوا من أقواله وأفعاله ﷺ مراد الله تعالى من كلامه المنَزَّل، أعان بعضهم بعضًا على ذلك، بعد أن لقي الرسول ﷺ ربه، فكان منهم يسأل الآخر عَمَّا غمض عليه فهمه، أو جهل حكمه.
وكان منهم من دعا له الرسول ﷺ بالعلم والفقه؛ كابن عباس ﵄، والخلفاء الأربعة، وعبد الله بن مسعود، وأُبَيّ بن كعب، وزيد بن ثابت، وأبي موسى الأشعري، وعبد الله بن الزبير، وغيرهم.
وكان الصحابة عربًا خُلَّصًا، متمتعين بجميع خصائص العروبة ومزاياها الكاملة من قوة في الحافظة، وذكاء في القريحة، وتذوق للبيان، وتقدير
_________
١ آية: ١٦-١٩.
1 / 13
للأساليب، ووزن لما يسمعون بأدق المعايير، حتى أدركوا من علوم القرآن ومن إعجازه بسليقتهم، وصفاء فطرتهم، ما لا نستطيع نحن أن ندركه مع زحمة العلوم، وكثرة الفنون.
وكان الصحابة -رضوان الله عليهم- مع هذه الخصائص أمِّيين، وأدوات الكتابة لم تكن ميسورة لديهم، والرسول ﷺ نهاهم أن يكتبوا عنه شيئًا غير القرآن، وقال لهم أول العهد بنزول القرآن فيما رواه مسلم في صحيحه، عن أبي سعيد الخدري ﵁: "لا تكتبوا عني، ومن كتب عني غير القرآن فليمحه، وحدِّثُوا عني فلا حرج، ومن كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النار".
وذلك مخافة أن يلتبس القرآن بغيره، أو يختلط بالقرآن ما ليس منه.
فلتلك الأسباب المتضافرة لم تكتب علوم القرآن، كما لم يكتب الحديث الشريف، ومضى الرعيل الأول على ذلك في عهد الشيخين أبي بكر وعمر.
ولكن الصحابة كانوا مضرب الأمثال في نشر الإسلام وتعاليمه، والقرآن وعلومه، والسنة وتحريرها تتلقينًا لا تدوينًا، ومشافهة لا كتابة" أ. هـ١.
٢- ولما اتسعت رقعة الإسلام في عهد عثمان بن عفان ﵁، واختلط العرب الفاتحون بالأمم التي لا تعرف العربية، خاف بعض المسلمين على القرآن أن يختلف المسملون في قراءته إن لم يجتمعوا على مصحف واحد، فأشاروا على عثمان بكتابة القرآن الكريم في مصحف واحد، وتنسخ منه عدة مصاحف يُبْعَثُ بها إلى أقطار الإسلام، وأن يحرق الناس ما عداها، على ما سيأتي بيانه مفصَّلًا عند الكلام على جمع القرآن.
فاستجاب ﵁ لهذه النصيحة الغالية؛ فجمع المسلمين على مصحف واحد عُرِفَ بمصحف الإمام، وبهذا العمل وضع عثمان ﵁ الأساس لما نسميه علم رسم القرآن، أو علم الرسم العثماني.
_________
١ انتهى بتصرف يسير من مناهل العرفان ج١ ص٢٢، ٢٣.
1 / 14
ثم جاء علي بن أبي طالب ﵁، فلاحظ أن العُجْمَة تكاد تحفيف على اللغة العربية، وسمع بعض الناس يلحنون في اللسان العربي، فأمر أبا الأسود الدؤليّ أن يضع بعض القواعد لحماية لغة القرآن من هذا العبث والخلل، ووضع له المنهج، وقال له: انح للناس على هذا النحو.
وبذلك يكون ﵁ أول مَنْ وضع علم النحو، وتبعه فيما بعد علم إعراب القرآن، وهو علم يعين المفسِّر على فهم كتاب الله تعالى كما هو معلوم، والإعراب فرع المعنى كما يقولون.
ومضى المسلمون بعد الخلافة الرشيدة في نشر علوم القرآن، بالمشافهة والتلقين، حتى جاء عهد التدوين بعد المائة الأولى من الهجرة، فأُلِّفَت كتب في أنواع شتَّى من علوم القرآن، واتجهت الهمم قبل كل شيء إلى التفسير بوصفه رأس العلوم وعمدتها، لما فيه من التعرُّضِ لها في كثير من المناسبات عند شرح الكتاب العزيز.
ومن أوائل الكاتبين في التفسير: شعبة بن الحجاج، وسفيان بن عيينة، ووكيع بن الجراح، وتفاسيرهم جامعة لأقوال الصحابة والتابعين، وهم من علماء القرن الثاني.
ثم تلاهم ابن جرير الطبري المتوفَّى سنة ٣١٠هـ، وكتابه أجلّ التفاسير وأعظمها، لأنه أوَّل من عرض لتوجيه الأقوال، وترجيح بعضها على بعض، كما عرض للإعراب والاستنباط.
وبقيت العناية بالتفسير قائمة إلى عصرنا هذا. أما علوم القرآن الأخرى، ففي مقدمة المؤلفين فيها: على بن المديني شيخ البخاري، إذ ألَّفَ في أسباب النزول، وأبو عبيد القاسم بن سلام، إذ كتب في الناسخ والمنسوخ، وكلاهما من علماء القرن الثالث.
وفي مقدمة من ألَّفَ في غريب القرآن: أبو بكر السجستاني، وهو من علماء القرن الرابع.
1 / 15
وفي طليعة من صنَّف في إعراب القرآن: علي بن سعيد الحوفي، وهو من علماء القرن الخامس.
ومن أوائل من كتب في مبهمات القرآن: أبو القاسم عبد الرحمن المعروف بالسبيلي، وهو من علماء القرن السادس.
كذلك تصدَّر للتأليف في مجاز القرآن: العز بن عبد السلام، وفي القراءات: عَلَمُ الدين السخاوي، وهما من علماء القرن السابع.
وهكذا قويت العزائم، وتبارت الهمم، ونشأت علوم جديدة للقرآن، وظهرت مؤلفات في كل نوع منها، لهذا اشرأَبَّت أعناق العلماء أن يعتصروا من تلك العلوم علمًا جديدًا يكون كالفهرس لها، والدليل عليها والمتحدِّث عنها، فكان هذا العلم هو ما نسميه "علوم القرآن" بالمعنى المدوَّن.
قال الزرقاني: "ولا نعلم أن أحدًا قبل المائة الرابعة للهجرة ألَّفَ أو حاول أن يؤلِّفَ في علوم القرآن بالمعنى المدوَّن؛ لأن الدواعي لم تكن موفورة لديهم نحو هذا النوع من التأليف، وإن كنَّا نعلم أنها كانت مجموعة في صدور المبرزين من العلماء، على الرغم من أنهم لم يدونوها في كتاب، ولم يفردوها باسم.
ولقد كان المعروف لدى الكاتبين في تاريخ هذا الفن، أن أوَّل عهد ظهر فيه هذا الإصطلاح، أي اصطلاح علوم القرآن، وهو القرن السابع.
لكني ظفرت في دار الكتب المصرية بكتابٍ لعلي بن إبراهيم بن سعيد، الشهير بالحوفي، المتوفَّى سنة ٣٣٠هـ، اسمه "البرهان في علوم القرآن"، وهو يقع في ثلاثين مجلدًا، والموجود منه الآن خمسة عشر مجلدًا غير مرتبة، ولا متعاقبة، من نسخة مخطوطة.
وإذن نستطيع أن نتقدّم بتاريخ هذا الفن نحو قرنين من الزمان، أي: إلى بداية القرن الخامس بدلًا من القرن السابع.
ثم جاء القرن السادس فألَّفَ فيه ابن الجوزي، المتوفَّى سنة ٥٩٧هـ كتابين: أحدهما اسمه "فنون الأفنان في علوم القرآن"، والثاني اسمه: "المجتبى في علوم تتعلق بالقرآن"، وكلاهما مخطوط بدار الكتب المصرية.
1 / 16
وفي القرن السابع ألَّفَ علم الدين السخاوي المتوفَّى سنة ٦٤١هـ كتابًا سماه: "جمال القرَّاء".
وألَّفَ أبو شامة المتوفى سنة ٦٦٥هـ كتابًا أسماه: "المرشد الوجيز فيما يتعلق بالقرآن العزيز"، وهما -كما قال السيوطي- عبارة عن طائفة يسيرة ونبذ قصيرة، بالنسبة للمؤلفات التي أُلِّفَتْ بعد ذلك في هذا النوع.
ثم أهلَّ القرن الثامن، فكتب فيه بدر الدين الزركشي المتوفى سنة ٧٩٤هـ كتابًا سماه: "البرهان في علوم القرآن"، ثم طلع القرن التاسع على هذا العلم باليمن والبركة، فدرج فيه وترعرع، إذا ألَّف محمد بن سليمان الكافيجي المتوفى سنة ٨٧٣هـ كتابًا يقول السيوطي عنه: إنه لم يسبق إليه.
وفي هذا القرن أيضًا وضع جلال الدين البلقيني كتابًا سماه: "مواقع العلوم من مواقع النجوم".
وفي هذا القرن التاسع أيضًا ألَّف السيوطي كتابًا سماه: "التحبير في علوم التفسير"، ضمَّنه ما ذكره البلقيني من الأنواع مع زيادة مثلها، وأضاف إليه فوائد سمحت قريحته بنقلها، وقد أوفى هذا الكتاب على الاثنين بعد المائة من الأنواع، وفرغ الإمام من تأليف تحبيره هذا سنة ٨٧٢هـ، غير أن نفسه الكبيرة لم تقنع بهذا المجهود العظيم، بل طمح إلى التبحُّر والتوسُّع والترتيب، فوضع كتابه الثاني "كتاب الإتقان في علوم القرآن"، وهو عمدة الباحثين والكاتبين في هذا الفن، ذكر فيه ثمانين نوعًا من أنواع علوم القرآن على سبيل الإجمال والإدماج"١.
ثم فترت الهمم بعد السيوطي المتوفى سنة ٩١١هـ، لكنها لم تلبث حتى انبعثت مرة أخرى تجدد لهذه العلوم ثوبها، وتضيف إليها من البحوث ما يزيل شبه المستشرقين، ومن لف لفهم حول بعض ما جاء في كتب الأقدمين من روايات، وتَقَّول، وتطفوا على هذه العلوم القرآنية نظريات جديدة دعت إليها
_________
١ انتهى بتصرف من مناهل العرفان ص٢٨، ٣٠.
1 / 17
ضرورة العصر الذي تميَّزَ بظهور كثير من الاكتشافات العلمية في العلوم الطبيعية والفلسفية، وغيرها، فألفت في هذه العلوم القرآنية كتب كثيرة، منها:
١- "البيان في علوم القرآن" للشيخ طاهر الجزائري، يقع في قريب من ثلاثمائة صفحة، وفرُغَ من تأليفه سنة ١٣٣٥هـ.
٢- "منهج الفرقان في علوم القرآن" للشيخ محمد علي سلامة.
٣- "النبأ العظيم" للشيخ محمد عبد الله دراز.
٤- "مناهل العرفان" للشيخ محمد عبد العظيم الزرقاني.
٥- اللآلئ الحسان في علوم القرآن" للدكتور موسى لاشين.
٦- "مباحث في علوم القرآن" للشيخ منَّاع القطان.
هذا وهناك بحوث ورسائل كثيرة كُتِبَت في بحوث مختلفة نُشِرَت في جامعة الأزهر، وجامعة القاهرة وجامعة عين شمس، وغيرها من جامعات العالم.
ولو جُمِعَ من هذه البحوث والرسائل أنقاها وأزكاها في موسوعة بالغة ما بلغت من الحجم لكان عملًا رائعًا يستحقه الإكبار والتقدير.
إذ يجد الباحث في هذه الموسوعة ما يبتغيه من أيسر طريق، وبأقل جهد.
1 / 18
المبحث الثالث: أسماء القرآن
سُمِّيَ القرآن الكريم بأسماء كثيرة، أخذت من أوصافه التي وردت فيه، وأشهر هذه الأسماء:
١- القرآن:
وقد تقدَّمَ تعريفه لغة، وشرعًا.
٢- الكتاب:
وهو مصدر من الكتب، ومعناه الضمِّ والجمع، ومنه الكتيبة، وهي القطعة من الجيش.
وهذا الاسم موافق للذي قَبِلَه في المعنى، فالقرآن جمع الحروف، وضمّ بعضها إلى بعض في النطق، والكتاب جمع الحروف وضمّ بعضها إلى بعض في الخط.
٣- التنزيل:
وهو مصدر "نزَّل" بتشديد الزاي، قال تعالى: ﴿وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِين﴾ ١.
٤- الفرقان:
سُمِّيَ بذلك لأنه يفرِّقُ بين الحق والباطل بالحجة القاطعة والبرهان الساطع، قال تعالى: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا﴾ ٢.
٥- الهدى:
قال تعالى: ﴿هُدًى لِلْمُتَّقِين﴾ .
_________
١ الشعراء: ١٩٢.
٢ الفرقان: ١.
1 / 19
وقال جلَّ شأنه:
﴿هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ﴾ ١.
٦- الصراط المستقيم:
لأنه المنهج الواضح الذي لا عِوَجَ فيه ولا انحراف، ولا تناقضَ فيه ولا اختلاف.
وقد صنَّف الحرالي من أسماء القرآن جزءًا، وأنهى أساميه إلى اثنين وتسعين، كما قال الزركشي في البرهان.
وقد عَدَّ الزركشي منها جملة، وبيَّنَ اشتقاقها٢، ولكن أكثرها غير مشهور، والمشهور منها ما ذكرناه، والأوصاف لا تنزل منزلة الأسماء، إلّا إذا اشتهر بها الموصوف، وكانت دالَّة عليه بالأصالة، قائمة مقام العلم عند حذفه.
وأكثر ما ذكره الحرالي والزركشي وغيرهما أوصاف للقرآن، وليست أسماء، ولا هي كالأسماء؛ لعدم استقلالها في الدلالة عليه.
_________
١ الصف: آية٩.
٢ راجع ج١ ص٢٧٣ "النوع الخامس عشر".
1 / 20
المبحث الرابع: الفرق بين القرآن والحديث القدسي والنبوي
يجدُرُ بنا بعد أن ذكرنا لك مفهومه لفظ "قرآن" في اللغة وفي الاصطلاح، أن نبيِّنَ لك الفرق بين القرآن الكريم والحديث القدسي، فنقول:
إن كان المراد بالحديث القدسي ما نَزَلَ لفظه ومعناه من عند الله تعالى، فالفرق بينه وبين القرآن الكريم من وجوه.
الأول: أن القرآن معجزة تحدَّى الله به الإنس والجن، والحديث القدسي ليس كذلك.
الثاني: أن القرآن الكريم متعبَّدٌ بتلاوته، والحديث القدسي ليس كذلك.
الثالث: القرآن متواتِرٌ، نقله الجمع الغفير ممَّن بلغ الغاية في العدالة والضبط عن مثلهم، إلى النبي ﷺ، والحديث القدسي منه الصحيح ومنه الحسن، ومنه الضعيف.
الرابع: لا تجوز رواية القرآن بالمعنى، بخلاف الحديث القدسي، فإنه يجوز أن يروى بمعناه، بشرط أن يكون الراوي محيطًا بالمعاني، فقيهًا بمباني الألفاظ واشتقاقها.
الخامس: لا يجوز للجنُبِ قراءة القرآن ولا مسَّ المصحف، ويجوز له قراءة الحديث القدسي ومسُّ الكتاب الذي يحتويه.
السادس: أن الله تكفَّلَ بحفظ القرآن، فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ١.
فلا يضيع حرف من حروفه حتى يأتي أمر الله.
بخلاف الحديث القدسي، فإنه قد يبدل لفظ من ألفاظه، أو ينسى بعضه بمرور الزمان، وذهاب الحافظين.
_________
١ الحجر: آية٩.
1 / 21
السابع: أنه من أنكر لفظًا من ألفاظ القرآن الكريم كفر؛ لأنه متواتر كله، بخلاف الحديث القدسي، فإنه من أنكر شيئًا منه لم يُعْلَمْ من الدين بالضورة لا يكفر، وهذا ظاهر لا يحتاج إلى بيان.
وأما إن قلنا: إن الحديث القدسي هو ما نَزَلَ من عند الله بمعناه دون لفظه، فلا يكون هناك ما يستدعي ذكر هذه الفروق.
وهذا القول هو الأولى بالقبول من سابقه.
قال محمد عبد الله دراز في كتابه "النبأ العظيم"١ مرجِّحًا هذا القول: "وهذا هو أظهر القولين فيه عندنا؛ لأنه لو كان منَّزلًا بلفظه لكان له في الحرمة والقدسية في نظر الشرع ما للنَّظْمِ القرآني، إذ لا وجه للتفرقة بين لفظين منَزَّلَين من عند الله، فكان من لوازم ذلك وجوب المحافظة على نصوصه، وعدم جواز روايته بالمعنى إجماعًا، وحرمة مسِّ المحدِّث لصحيفته، ولا قائل بذلك كله.
وأيضًا فإن القرآن لما كان مقصودًا منه مع العمل بمضمونه شيء آخر وهو التحدي بأسلوبه والتعبد بتلاوته احتيج لإنزال لفظه، والحديث القدسي لم ينزل للتحدُّث ولا للتعبُّد، بل لمجرد العمل بما فيه، وهذه الفائدة تحصل بإنزال معناه.
فالقول بإنزال لفظه، قول شيء لا داعي في النظر إليه، ولا دليل في الشرع عليه، اللهمَّ إلا ما قد يلوح من إسناد الحديث القدسي إلى الله بصيغة "يقول الله ﵎ كذا".
لكن القرائن التي ذكرناها آنفًا كافية في إفساح المجال لتأويله بأن المقصود نسبة مضمونه لا نسبة ألفاظه، وهذا تأويل شائع في العربية، فإنك تقول حينما تنثر بيتًا من الشعر: "يقول الشاعر كذا"، وتقول حينمًا تفسِّر آية من كتاب الله بكلام من عندك "يقول الله تعالى كذا"، وعلى هذه القاعدة حكى الله تعالى عن موسى وفرعون، وغيرهما مضمون كلامهم بألفاظ غير ألفاظهم، وأسلوب غير أسلوبهم، ونسب ذلك إليهم.
_________
١ ص١١.
1 / 22
فإن زعمت أنه لو لم يكن في الحديث القدسي شيء آخر مقدَّس وراء المعنى لصحَّ لنا أن نسمي بعض الحديث النبوي قدسيًّا أيضًا، لوجود هذا المعنى فيه، فجوابه: إننا لما قطعنا في الحديث القدسي بنزول معناه لورود النصِّ الشرعي عن نسبته إلى الله بقوله -صلى الله عليه وعلى آله وسلم: "قال الله تعالى كذا" سميناه قدسيًّا لذلك، بخلاف الأحاديث النبوية، فإنها لما لم يرد فيها مثل هذا النص، جاز في كل واحد منها أن يكون مضمونه معلمًا بالوحي، وأن يكون مستنبطًا بالاجتهاد والرأي، فسمي الكل نبويًّا وقوفًا بالتسمية عند الحدِّ المقطوع به، ولو كانت لدينا علامة تمييز لنا قسم الوحي لسميناه قدسيًّا كذلك".
1 / 23
المبحث الخامس: تنزلات القرآن
١- نزل القرآن أولًا من الله تعالى إلى اللوح المحفوظ بكيفية لا نعلمها، الله يعلمها.
قال تعالى: ﴿بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ، فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ﴾ ١.
"ومعنى إنزاله في اللوح المحفوظ مجرَّد إثباته فيه، من غير نظر إلى علوٍّ وسفل، وحكمة هذا النزول ترجع إلى الحكمة من وجود اللوح نفسه، فإنه السجل الجامع لما كان وما سيكون إلى يوم القيامة، وقد بيَّن الله حكمة وجوده بقوله:
﴿مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ، لِكَيْ لَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ ٢، ٣.
٢- ثم نزل من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا جملة واحدة في ليلة مباركة هي ليلة القدر.
قال تعالى: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ﴾ ٤.
وقال جل شأنه: ﴿إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ﴾ .
وقال عز من قائل:
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ﴾ ٥.
وليلة القدر من ليالي شهر رمضان كما هو معلوم.
فهذه الآيات الثلاث تدل بمجموعها على أن هذا القرآن العظيم قد نزل غير مُنَجَّمٍ، مما يدل على أنه نوع آخر من أنواع التنزُّلات غير النوع الذي أنزل على محمد ﷺ.
_________
١ البروج: ٢١-٢٢.
٢ الحديد: ٢٢-٢٣.
٣ الآلئ الحسان ص١٢.
٤ الدخان: ٣.
٥ البقرة: ١٨٥.
1 / 24