ولكن هذه كلها لا تعدو أن تكون محاولة «استعراضية» عقيمة من وجهة نظر التفكير العميق والوزن السليم للأمور؛ إذ إن العبارة السابقة عبارة مألوفة يمكن أن يدلي بها أي شخص دون أن يكون قد تأثر بغيره. ومن الصعب أن نتصور أن مفكرا كبيرا مثل اسپينوزا قد وصل به الهزال الذهني إلى حد أنه لا يستطيع أن يقول بعبارة كهذه إلا إذا كان قد تأثر فيها، عن وعي أو بلا وعي، بآخرين سبق أن قرأها لديهم.
والحق أن الفيلسوف الناضج لا يأخذ أفكارا منفردة أو عبارات متفرقة من هنا ومن هناك ليكون منها بناءه الفلسفي، وإنما قد يتأثر باتجاهات فكرية «كاملة» فحسب. ومن المحال أن يكون اسپينوزا قد التقط هذه القضية من «فلان». وهذه الفكرة من «فلان»، في الوقت الذي كان فيه اتجاهه الفكري العام مضادا لتفكيرهما بل هادما للأسس التي قام عليها.
وجميع الفلاسفة الذين حاول ولفسون أن يقرب بين اسپينوزا وبينهم قد يكونون مشابهين له في تعبيرات لفظية معينة، ولكن اتجاههم العام كان مخالفا تماما لاتجاهه. وهذا يصح على ديكارت، الذي قال عنه باحث ديكارتي مشهور إن تأثيره في فلسفة اسپينوزا كان ضئيلا، وإن المعالم الرئيسية لفلسفة اسپينوزا كان يمكن أن تظهر لو لم يكن قد قرأ كتاباته على الإطلاق،
8
ويصح على فلاسفة العصور الوسطى الذين سنثبت فيما بعد استحالة تأثر اسپينوزا بهم من ناحية تفكيره الحقيقي (لا من ناحية شكل كتاباته)، ويصح أخيرا على القدماء الذين كان تقويم اسپينوزا لهم خارجا تماما عن المألوف، ولا يوجد له نظير إلا لدى الفلاسفة الماديين المحدثين من ذوي النزعات اليسارية الصريحة، يقول في الرسالة رقم 56: «إن سلطة أفلاطون وأرسطو وسقراط ... إلخ، ليست لها في نظري قيمة كبيرة ...» بينما يرفع في نفس الموضع مكانة أبيقور وديمقريطس ولوكريتيوس.
وإذن فالفائدة الوحيدة التي يمكن أن تجنى من مثل هذه المقارنات المرهقة التي قام بها ولفسون، هي إثبات أن اسپينوزا قد استخدم التشابه الشكلي بينه وبين السابقين عليه معولا لهدم فلسفاتهم، ولإثبات أن هذا النوع من التفكير يقضي على ذاته تماما. وهذا الرأي بالطبع مبني على القول إن الشكل اللفظي لكتابة اسپينوزا كان ضئيل القيمة، وأن لهذه الكتابة معاني خفية من وراء هذا الشكل. والحق أن مسايرة المعاني الظاهرة لألفاظ اسپينوزا وتعبيراته كانت هي الصفة الغالبة لدى معظم من كتبوا عنه، ومنهم شراح لهم مكانتهم الكبيرة في عالم الفلسفة. فالكثرة الغالبة من الكتب المؤلفة عن اسپينوزا تبدأ مثلا بذكر رأيه في فكرة الله، فتشير إلى رأيه في وحدة الوجود والطبيعة، وكذلك في إضافة صفة الجسمية إلى الله، ثم تواصل الكلام عن بقية آراء اسپينوزا عن الله وكأن شيئا لم يحدث، وكأن اسپينوزا يماثل أي فيلسوف أو مفكر آخر في نظرته إلى فكرة الله، وكل ما في الأمر أنه أضاف صفة أخرى جديدة إلى الفكرة، هي صفة الهوية مع الطبيعة، أو المادية، ولا شيء غير ذلك. ومثل هذا يقال على فكرة الخلود، وفكرة الحب الإلهي، وغيرها من الأفكار التي اكتسبت عند اسپينوزا في واقع الأمر، معنى مخالفا تماما لكل معانيها السابقة.
والأمر الذي يغفله هؤلاء الشراح، هو أن المعاني الثورية الجديدة لهذه الأفكار ينبغي أن تزيل عنها جميع ارتباطاتها القديمة وتضفي عليها ارتباطات لم تكن معروفة على الإطلاق؛ فمنذ اللحظة التي يعلن فيها اسپينوزا مثلا، أن فكرة الله مساوية للطبيعة، وأن المادية صفة من صفات الله، تصطبغ الفكرة بصبغة لم تعرف من قبل، بل تغدو فكرة «أخرى» جديدة تماما، ولا صلة لها بكل الأفكار السابقة في هذا المجال. ويكون من واجب الشارح أن يفسر كل قضية وكل عبارة ترد فيها كلمة «الله» تفسيرا جديدا، وأن يستحضر في ذهنه على الدوام معانيها الجديدة في كل سياق ترد فيه، ويحذر الانسياق وراء المعاني القديمة المألوفة للكلمة.
وهنا تكون فلسفة اسپينوزا اختبارا عسيرا لقدرة المرء على التخلص من الارتباطات المألوفة للألفاظ - ونقول: إنه اختبار عسير؛ لأن معظم هذه الألفاظ قد اكتسب معاني موغلة في القدم إلى حد أصبحت معه راسخة كل الرسوخ في أذهان البشر، فضلا عن أن لها ارتباطات نفسية وانفعالية قوية في نفوس الناس. والأمر الذي أراد اسپينوزا أن يثبته أن هذه المعاني وهذه الارتباطات النفسية ليست صحيحة بالضرورة، بل إن الفكر البشري يكون أكثر اتساقا إذا ما استخدم هذه الألفاظ بمعان جديدة وجعل لها ارتباطات نفسية مغايرة، أو حاول القضاء على كل ما لها من هذه الارتباطات.
والأمر الملاحظ في كل دراسة عميقة للمؤلفات التي كتبت عن اسپينوزا أن القليلين جدا هم الذين عرفوا كيف يخلصون أذهانهم من هذه الارتباطات الذهنية والنفسية القدمية للألفاظ التي استخدمها اسپينوزا بمعان ودلالات جديدة. وإن مثل هذه الدراسة لتعطينا مثلا بليغا لمدى تأثير اللغة في تفكير الناس، ومدى سيطرة اللفظ على الأذهان التي تنقاد وراءه وتظل تردد محتوياته العقلية أو الانفعالية التي ألفتها، مهما طلب إليها أن تتناسى هذا كله وتبدأ في النظر إلى الأمور من زاوية جديدة.
وما أشبه محاولة اسپينوزا تحديد معان جديدة للفظين مثل «الله»، و«الخلود»، بمحاولة الهندسات اللاإقليدية تحديد معان جديدة للفظين، مثل «المثلث» أو «المتوازي»؛ فقد عرفت هذه الهندسات المثلث بأنه شكل يبلغ مجموع زواياه أكثر (أو أقل) من قائمتين، والمتوازيين بأنهما خطان لا يمكن تقابلهما. وطلبت من القارئ أن يسايرها في هذه المعاني الجديدة. ونستطيع أن ندرك موقف معظم شراح اسپينوزا على حقيقته إذا تصورنا باحثا في الهندسة يعجز ذهنه عن التخلي عن المعاني التي ألفها لكلمة «المثلث» و«المتوازي»، أو يساير المعاني الجديدة بعض الوقت، ثم يعود ذهنه، بحكم التعود، إلى المعاني القديمة من آن لآخر، فتكون الصورة النهائية لفهمه لهذه الألفاظ مزيجا غريبا من القديم والحديث. هذا «القصور الذاتي» للأذهان، في عجزها عن مسايرة المعاني الجديدة التي يطلب إليها أن تأخذ بها، هو العقبة الكبرى في وجه الفهم الصحيح لفلسفة اسپينوزا، وهو المسئول الأول عن ذلك التباين الهائل في تفسيرات هذه الفلسفة. وقد حاولنا في هذا البحث أن نتخلص من هذا القصور بقدر المستطاع، وأن نكشف عن التناقض أو عدم الاتساق الذي يقع فيه الشراح نتيجة له. أما الحكم النهائي على التفسيرات المختلفة لفلسفة اسپينوزا؛ فهو في رأينا مماثل للحكم على أية مجموعة من النظريات العلمية؛ إذ تفضل دائما النظرية التي تفسر أكبر عدد من الوقائع بأقصى درجة ممكنة من الاتساق، وأحسب أنه إذا كان لهذا البحث في فلسفة اسپينوزا فضل، فهذا الفضل هو أنه مبني على تفسير لهذه الفلسفة يضم - على نحو متسق - عددا كبيرا من عناصرها التي تبدو غير متآلفة فيما بينها، على حين أن ما اطلعت عليه من الشروح لهذه الفلسفة يعجز دائما - بدرجات متفاوتة - عن تقديم تفسير متسق لهذه العناصر، بل ويؤكد أصحابه، في كثير من الأحيان، أن عدم الاتساق طابع أساسي في فلسفة اسپينوزا، وكأنهم بذلك ينبهون القارئ إلى ضرورة الحذر مما يقدمونه إليه من التفسيرات! •••
Bog aan la aqoon