مثل هذه النصوص، وغيرها، قد دعت بعض الشراح إلى أن يصدروا عليه أحكاما من النوع الذي أشار إليه «هامشاير»، حين أورد ملاحظة قال فيها «پولوك
» إنه برغم ما يتضمنه كتاب «الأخلاق» من دراسة دقيقة لقوى الإنسان وانفعالاته فإن اسپينوزا لم يتحدث عن الفن إلا عرضا. ويبدو أنه لم يعلق أهمية على التجربة الجمالية في مذهبه في السعادة البشرية، ثم علل ذلك بأنه مظهر لانعزاله العام عن المؤثرات اليونانية ومؤثرات البحر المتوسط (وبالتالي لتأثير حضارة العهد القديم فيه).
56
هذا الحكم في نظرنا، وإن كان صحيحا في ظاهره، لا ينصف اسپينوزا على الإطلاق؛ ذلك لأن من الواجب التفرقة دائما بين من يتحدث عن الفن بوصفه عالما أو فيلسوفا نظريا، وبين من يتحدث عنه بوصفه فنانا أو متذوقا للفن. ولا جدال في أن اسپينوزا قد تحدث من وجهة النظر الأولى فقط، ولم يتعرض لوجهة النظر الثانية أبدا، وعلى ذلك لا يصح الحكم عليه بالاستهانة بالتجربة الجمالية؛ فهدف اسپينوزا الدائم كان نقد الاتجاهات المشبهة بالإنسان؛ أي وصف الأشياء ذاتها من خلال ما يمر بخيال الإنسان، ومن هذه الزاوية فقط كان حكمه على قيم الجمال والقبح؛ فكل ما يريد أن يقوله هو أنك إذا نظرت إلى الأشياء من وجهة نظر الأزل، أو من حيث هي أجزاء من الطبيعة الشاملة، أو في علاقتها بالله (وهي كلها تعبيرات مختلفة عن معنى واحد في نظره)، فمن الواجب ألا تعدها جميلة أو قبيحة؛ لأن هذه صفات تضفيها أنت على الأشياء؛ فالجمال والقبح، وبقية القيم، تنتمي إلى مجال وجهة النظر البشرية وحدها. وهذا ليس معناه إنكار هذه القيم، وإنما الأمر الذي لا يمل ترديده هو ألا نخلط بين مجال تفسير الأمور من وجهة نظر الطبيعة الضرورية للأشياء، وبين مجال نظرتنا الإنسانية إليها من خلال خيالنا وأمانينا ومشاعرنا؛ ففي المجال الأول ينبغي أن نكون موضوعيين تماما، ونتجرد من كل ما له صلة بمنظورنا البشري البحت. أما المجال الثاني فهو الذي تظهر على مستواه مشكلة الفن.
وبعبارة أخرى: فلسنا نرى على الإطلاق أي تعارض بين إنكار اسپينوزا للوجود الواقعي للقيم الجمالية، وبين اعترافه بهذه لقيم ذاتها في مجال التجربة الفنية النابعة من المشاعر والخيال، وهل يحول تحليل العالم الطبيعي للأصوات الموسيقية إلى مجرد أرقام تعبر عن الذبذبات ودراسته لطبيعة الصوت دراسة نظرية جافة، دون استمتاعه بهذه الموسيقى إذا ترك معمله ودخل قاعة العزف؟ وهلا يستطيع الفنان دائما أن يقول: صحيح أن الانسجام بين هذه الأصوات ليس صدى لانسجام كوني ضروري، ولكنه مع ذلك يطربني؟
إنني أكاد أجزم بأن كل ما قاله اسپينوزا عن الجمال، في صدد نقد الغائية وتأكيد سيادة الضرورة، لم يكن ذا صلة بحكمه على الفن من حيث هو تجربة إنسانية على الإطلاق. ومن المؤكد أن معركته من أجل إرساء دعائم التفكير العلمي كانت أهم في نظره من أية غاية أخرى. وقد يستطيع المرء، قياسا على نظريات أخرى له، أن يتكهن باتجاه نظرية الفن لديه لو كان قد اتجه بتفكيره إلى هذا الميدان؛ فآراء اسپينوزا العامة في الانفعالات توحي بنظرية نفعية في الفن؛ إذ كان دائما يؤثر الانفعال الذي يبعث السرور على ذلك الذي يبعث الألم، ويدعو الإنسان إلى الشعور بالبهجة وطرح الصور الأليمة الحزينة من حياته، ويؤكد دائما معنى السعادة والفرح في حياة الإنسان. ولا جدال في أن هذه الآراء العامة لو طبقت على مجال الفن فستؤدي إلى إخضاع ما هو جميل لما هو نافع للإنسان أو باعث للسعادة فيه، أو ما هو عنصر إيجابي في دفع حياة الإنسان إلى الأمام - وهذه كلها من القضايا التي يقول بها أصحاب النظريات الأخلاقية أو الاجتماعية في الفن .
57
أما القول بأن اسپينوزا لم يكن يحفل بالتجربة الفنية على الإطلاق فليس في رأينا صحيحا. ومن القرائن التي تكذبه أن اسپينوزا كان مهتما بالتصوير. وقد اتصل بفنان هولندا الأعظم «رمبرانت» ورسم له هذا الأخير لوحة مشهورة ما زالت هي التي تصدر كثيرا من الكتب المؤلفة عنه، وفضلا عن ذلك فقد عرف عنه أنه كان يرسم في أوقات فراغه صورا مختلفة، منها صور لبعض أصدقائه، ومنها صورة رسمها لنفسه بملابس الثائر الإيطالي الشهير «مازانيلو
Masanillo »،
58
Bog aan la aqoon