monist » أكثر منه مذهب «وحدة وجود
pantheistic »، تؤكد الحتمية الكاملة في العالم، وتشيع فيه فكرة الضرورة، وتركز جهود الإنسان في معرفة العالم الطبيعي نفسه بعد أن يتضح له أن هذا العالم هو كل ما في الوجود.
والحق أن من الظواهر الغريبة حقا في تفسير فلسفة اسپينوزا أن نرى معظم الشراح ينسبون إليه نزعات صوفية أو لاهوتية لمجرد كونه قد تحدث عن «الحكمة الشاملة» وجعل لفلسفته موضوعات كلية لا جزئية. ومثل هؤلاء الشراح يفسرون على هذا النحو كل مذهب له مثل هذا الطابع الشامل، وكأن هناك ارتباطا ضروريا بين التفكير ذي الطابع العام الشامل وبين النزعات الصوفية أو اللاهوتية. ويغفل هؤلاء الشراح حقيقة لا شك فيها، هي أن كثيرا من العلماء والفلاسفة من ذوي «الحكمة الشاملة» لم يكونوا يفكرون من خلال مقدمات صوفية أو دينية؛ فهم يغفلون دعوة «كونت» إلى إقامة عقيدة البشرية على أساس العلم وحده، ويغفلون أحكام «نيتشه» الشاملة على الإنسان وحضارته من خلال فلسفة لا مكان فيها للتصوف بمعناه الديني، ويغفلون كل الاتجاهات الأدبية «التنبؤية» التي قامت على أساس نزعات طبيعية خالصة.
وإذا كان من الخطأ في ميدان التفكير الفلسفي والأدبي أن يربط المرء بين النظرة الشاملة إلى الكون وبين الاتجاهات الصوفية أو الدينية ربطا ضروريا، فإن هذا الخطأ يغدو أعظم في ميدان التفكير العلمي؛ فالعالم يؤمن، في مجاله الخاص، بنوع من «الواحدية»، وذلك حين يبني تفكيره على أساس الضرورة في الكون، ووجود علة لكل ظاهرة، ووحدة الطبيعة واطرادها، وسريان قوانين واحدة عليها. هذه كلها مقدمات ضرورية للروح العلمية، مهما كان اتجاهها التالي، ومن المحال أن يحكم على العالم مقدما بأنه خرج عن نطاق المعقولية الشاملة لمجرد وجود هذه النزعات التعميمية الشاملة لديه. وفضلا عن ذلك فكثيرا ما يشعر العالم بنوع من الحماسة الفياضة والسرور الطاغي والحب الشامل للطبيعة كلما اتسع نطاق نظرياته وأدرك انطباقها على مجالات أوسع في التجربة ولنضف إلى ذلك تلك الأخلاق الإنسانية الرفيعة التي يضعها كثير من الباحثين المتعمقين لأنفسهم، والتي تزداد نقاء كلما تعمق العالم في بحثه وازدادت حكمته توغلا في الطبيعة، حتى لتصل إلى حد التفاني التام في سبيل اكتساب المعرفة وربما التضحية بالنفس من أجلها، ولكن هل يعني ذلك أن هذه الاتجاهات ترتبط لديهم بالروح الدينية بالضرورة؟ ربما جاز أن يطلق المرء على هذه الاتجاهات اسم «الصوفية العلمية»، ولكن هذه تختلف تماما عن الصوفية المنبثقة من الدين والتي تستهدف غايات فوق الطبيعة. وإنه لغريب حقا أن يشارع مؤرخو الفلسفة إلى وصف كل اتجاه تتمثل فيه مثل هذه النظرة الشاملة إلى الكون، أو مثل هذا النظام الشخصي والأخلاق الذاتية الرفيعة التي يفرضها الباحث على ذاته، بأنه يعبر عن ميل صوفي (بالمعنى فوق الطبيعي) أو ديني لدى الباحث، مع أن هذه النزعات قد تظهر في إطار يختلف عن ذلك تماما، ولا يعترف فيه إلا بالطبيعة وقوانينها الضرورية. وليس من الصحيح أن ينظر إلى مجال التصوف بمعناه الديني على أنه هو وحده الذي يحتكر كل نظرة انفعالية شاملة إلى الطبيعة أو إلى الإنسان أو إلى التاريخ؛ لأن الانفعال المستمد من التبصر فيما هو كلي أو عام من حق الجميع، وهو بلا جدال حق يمارسه أصحاب الاتجاهات العلمية الدقيقة، ممن لا يتعدى إيمانهم النطاق الطبيعي الدقيق. وفي اعتقادنا أن «واحدية» اسپينوزا، وما يبدو فيها من صوفية، لم تكن إلا من هذا النوع، ولم تستمد إلا من إدراكه للضرورة الشاملة المتحكمة في الكون، والتي تستبعد القول بأي كائن يعلو على الطبيعة أو غاية تتجاوز نطاقها. (3) العلاقة بين الذهن والجسم
يعد رأي اسپينوزا في العلاقة بين الذهن والجسم من أوضح المظاهر الإيجابية للروح العلمية في تفكيره؛ إذ إنه كان مختلفا كل الاختلاف عن الاتجاهات السابقة للرأي في هذه المسألة، وظل خارجا عن المألوف في تاريخ الفلسفة حتى بعد أجيال عديدة من ظهوره. ولقد كان النقد الأساسي الذي وجهه إلى النظريات السابقة في هذا الموضوع، ولا سيما نظرية ديكارت الثنائية القاطعة، هو ما كانت تتسم به من طابع غير علمي؛ فهو يحمل بشدة، في أسلوب ساخر، على تلك الهوة العميقة التي وضعها ديكارت بين الجسم والنفس، ويزداد سخرية من هذه النظرية حين تحاول عبور هذه الهوة عن طريق فكرة واضحة التفاهة كفكرة الغدة الصنوبرية، ويعرب عن دهشته من أن يقول بمثل هذه الآراء فيلسوف اتخذ من الوضوح والتميز معيارا لتفكيره، ومن نقد الصفات الخفية شرطا ضروريا لمنهجه.
26
وأساس الحل الذي يأتي به اسپينوزا لمشكلة العلاقة بين الذهن والجسم هو رأيه الذي سبق أن عرضناه في «صفات الجوهر»؛ فكل من الصفتين: الفكر والامتداد، ينتظم الكون بأسره، وكل شيء فيه لا على أساس تقسيم الكون إلى مجالين منفصلين تشغل كل من هاتين الصفتين واحدا منه، وإنما على أساس أن الكون وكل شيء فيه يحمل الصفتين معا في آن واحد، بحيث تكون هذه الصفة هي الجوهر ذاته، أو مكوناته، منظورا إليه من إحدى وجهتي نظر ممكنتين.
ونستطيع أن نعد حل اسپينوزا لمشكلة الذهن والجسم في الإنسان نقلا مباشرا لهذه الفكرة من مجال الكون بأسره إلى مجال الإنسان؛ إذ إن الذهن لا يعدو أن يكون صفة الفكر كما تتمثل في الإنسان، والجسم صفة الامتداد فيه. أما الإنسان ذاته فيمكن أن يعد ذهنا كله وجسما كله، تبعا لوجهة نظرنا إليه. ويعبر اسپينوزا عن هذه الفكرة بوضوح فيقول: «... إن الذهن والجسم شيء واحد ، ينظر إليه في الحالة الأولى من خلال صفة الفكر وفي الحالة الثانية من خلال صفة الامتداد؛ وبناء على ذلك فإن ترتيب الأشياء وتسلسلها يكون واحدا، سواء نظرنا إلى الطبيعة من خلال إحدى الصفتين أو من خلال الأخرى.»
27
ولقد رأينا في صدد الحديث عن علاقة الفكرة بموضوعها عند اسپينوزا، أنه لا يعد هذه العلاقة اتصالا بين طرفين متغايرين، وإنما الفكرة عنده هي ذاتها الموضوع، وليس لها كيان بذاتها؛ فهي الموضوع منظورا إليه من خلال صفة الفكر. وفي ضوء هذا الفهم للعلاقة بين الفكرة وموضوعها نستطيع أن نفهم تشبيه اسپينوزا للعلاقة بين الذهن والجسم بعلاقة الفكرة بموضوعها: «فموضوع الفكرة التي تؤلف الذهن البشري هو الجسم، أو هو بعبارة أخرى: لا يعدو أن يكون حالا من أحوال الامتداد موجودا بالفعل.»
Bog aan la aqoon